مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة القيامة سورة مكية كما هو واضح من مضامينها التي تتعرض ليوم القيامة ولبيان بعض صفاته وما يحدث فيه ولتنبيه الانسان على لزوم الاستعداد لاهواله. وفيها ايضا خمس ايات حول القران وعلاقته بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ...

مرّ في تفسير قوله تعالى (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ)[1] معنى قوله تعالى (لا اقسم) والسر في التعبير بالنفي. والقسم قد يكون تعهدا بفعل او بترك وقد يكون إخبارا عن حقيقة وقد يكون مناشدة من المخاطب أن يقضي له حاجة وهو في القسمين الاولين ربط اعتباري بين كرامة المقسم به لدى الحالف وبين ما يقسم عليه من تعهد او خبر وفي القسم الثالث يربط المناشد بين تكريم المخاطب للمقسم به وحاجته التي يطلبها منه.

وما يقسم به الله تعالى لا يشذّ عن هذا العموم وكرامة ما يقسم به الله تعالى من جهة استناده اليه وتعلقه به، الا أنه تعالى يختار من بين المخلوقات ما يناسب المقسم عليه فيقسم ــ مثلا ــ بالقرآن على الرسالة قال تعالى (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).[2]

ثم إنّ الغرض من القسم في الاخبار غالبا هو التأكيد ودفع احتمال الهزل والكذب في مورد احتماله وأما في ما يقسم به الله تعالى فربما يكون الغرض التأكيد والتنبيه على أهمية ما سيخبر به بعده فإنّ القسم يهيّء السامع لتلقّي خبر مهمّ. والمقسم عليه لم يذكر هنا صريحا ولكنه يفهم من قوله تعالى (أيحسب الانسان ألّن نجمع عظامه) وهو استنكار انكار الانسان للحياة بعد الموت ويلاحظ تناسبه للمقسم به وهو يوم القيامة.

ويوم القيامة يوم قيام الناس لرب العالمين ولكن الكلام في وجه الاتيان بالتاء مع أن القيام مصدر. وأحسن ما قيل في وجهه أنّ التاء تدل على أن القيام يتحقق من جميع البشر دفعة واحدة فالتاء تاء الوحدة اي قياما واحدا. ويدل عليه قوله تعالى (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)[3].

وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ...

اللوّامة مبالغة في اللوم وقد اختلف المفسرون في المراد بهذه النفس هل هي نفس المؤمن او الكافر او الانسان بوجه عام، وأن موضع اللوم هل هو الدنيا ام يوم القيامة. وأغرب ما قيل ما حكي عن بعض القدماء من أن (لا) في الآية السابقة زائدة وفي هذه نافية فالمعنى (اقسم بيوم القيامة ولا اقسم بالنفس اللوامة) وأن المراد بها نفس الكافر التي تلومه يوم القيامة على كفره فلا ينبغي أن يقسم بها.  

والصحيح أنّ المراد بها الضمير الحيّ الذي يلوم الانسان على تقصيره وإجرامه وهي من نعم الله تعالى على الانسان والضمير هو المرتكز البشري الكامن في نفسه والذي لا يوصل اليه الا بالبحث والتنقيب فمدركات الانسان بعضها واضحة له يشعر بها ويلاحظها في ما يعزم عليه من فعل او ترك وبعضها مختفية لا يشعر بها بوضوح ولكنه بامكانه ان يستذكرها اذا راجع نفسه وتأمل في دفائنها وزواياها والانسان ربما يتهرب من هذا التنقيب اذا رأى أن إدراك بعض الحقائق يمنعه من الوصول الى أهوائه او يستلزم مراجعة بعض ما استسلم له من عقائد موروثة وكثيرا ما يخدع الانسان نفسه في دوافع اعماله وفي نواياه الحقيقية فهو لا يرائي الناس فحسب بل يرائي نفسه ويظهر لنفسه خلاف ما يخفيه من نوايا سيئة.

ومن الواجب على الانسان في طريق التقوى أن يجعل لنفسه وقتا يخلو فيه بنفسه ويستخرج من دخيلتها ما قد خفي عليه في الظاهر ويصحّح أخطاءه وهذا هو المراد بقول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه (زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا..) [4] وهذا من شؤون مراقبة النفس في الاخلاق.

وسيأتي في الآيات التالية التنبيه على أنّ الانسان قادر على استخراج زوايا نفسه وكوامنها فهو على نفسه بصيرة ولكنه يتهرب من محاسبة نفسه ويلقي المعاذير لتجنب هذه المحاسبة.

والحاصل أن القسم بالنفس اللوامة متناسب مع القسم بيوم القيامة فلوم النفس نوع من محاكمة ضمير الانسان له وكما أن الانسان يلقى عمله السيء بحقيقته البشعة يوم القيامة ومعه شهوده من الارض والملائكة واعضاء جسمه ــ ولعل هذه الشهود هي التي تصوّر العمل وتأتي به في إطاره الخاصّ فيكون هذا اللقاء بنفسه أشدّ العذاب له ــ كذلك يمكنه أن يواجه عمله بنفس الوجه القبيح في الدنيا بمراجعة ضميره وتفريغ نفسه من الاهواء التي تجتذبه يمينا وشمالا واستبعاد ما يستهويه من عقائد موروثة تزيّن له طريقه فيعذّب نفسه بذلك ويتوب الى ربّه ويتخلّص من مخادعة النفس وتسويلها ووسوستها لعله يحظى يوم القيامة بصحيفة بيضاء لا تحتوي على هذا العمل المشين ولكنه يجب أن لا يُفرط في معاتبة نفسه الى حدّ اليأس من رحمة الله تعالى او الى حدّ يدعوه الى اعتزال المجتمع او الانتحار او نحو ذلك.

ولذلك يمكن أن يقال إنّ وجود النفس اللوامة والضمير البشري منبّه ومشير الى تحقق يوم القيامة وتلك المحكمة الالهية الكبرى او مثل لها يقرّب تصور تلك النشأة الى الذهن البشري فالانسان يمكنه بملاحظة خصائص الوجدان تصور ما سيحدث له هناك.

ومن هنا يتبيّن أنّ اللوّامة صفة للنفس البشرية بقول مطلق لا يختلف فيها المؤمن والكافر والمتقي والفاجر، كما أن الأمّارة ايضا صفة عامّة ومن مميزات النفس البشرية فهي بذاتها تأمر وتدعو الى السوء بمقتضى ما اودع فيها من غرائز وبتأثير غامض من البيئة والتربية والمسولات ووساوس شياطين الجن والانس وهي بذاتها ايضا تلوم الانسان وتستقبح عمله اذا عاملها بنقاوة وصفاء وأخلص نيته في معرفة زواياها. والنفس شر شياطين الارض وهي في نفس الوقت خير واعظ وزاجر قال امير المؤمنين عليه السلام في ذيل الجملة السابقة (وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَزَاجِرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا لَا زَاجِرٌ وَلَا وَاعِظٌ).

والسر في ما قاله الامام عليه السلام أن الانسان اذا لم يصغ الى ما يمليه عليه الضمير الحيّ وما يصل اليه بمصادقة نفسه والتنقيب في زواياها واذا حاول أن يتهرب من الحقيقة المُرّة التي يجدها في عمله فانه بطريق اولى يتهرب من تأثير المواعظ والنصائح التي تسدى اليه من غيره فانها حسب الفرض تخالف هواه وتبعده عمّا يتمناه.

أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ...

استفهام إنكاري فالانسان يحسب اي يظن أنه متروك وأن الموت نهايته وهذا ما يستنكره الدين وهذا الانكار هو المقسم عليه. والانسان عامّ يشمل الجميع ولا حاجة الى التأويل بأنّ المراد غالب البشر في ذلك العهد لقلة المؤمنين فإنّ الغرض يضيع بهذا التأويل والغرض أن هذا الظن من معاذير الانسان بوجه عامّ فهو يحاول بطبيعته أن يجد لنفسه مخرجا للاجرام ولمتابعة الهوى وهذه إحدى تسويلات النفس الأمارة والشيطان الرجيم فيستبعد فكرة الحياة بعد الموت ليكون حرا في اختيار ما يهواه حتى المؤمن يستبعدها لحظة وقوعه في شراك الشهوة والغضب وحب الجاه والمال.

و(ألّن) مركّب من (أن) المخففة والتي اسمها ضمير الشأن و(لن) التي هي للنفي وقيل انه يؤكد النفي بل قيل انه للنفي المؤبد وهو غير صحيح لقوله تعالى (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)[5] ومهما كان فمعنى الآية: هل يظن الانسان أننا لا نجمع عظامه لانه مستحيل؟!

وجمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت حيث كان المشركون يعبّرون عن نفي الآخرة باستبعاد إحياء الرفات البالية والعظام النخرة كما ورد ذكره في آيات عديدة. وليس فيه تصريح بكيفية الاحياء فانه من اسرار الخلقة. وانما كان اعتراض المشركين بذكر العظام خاصة لانها تبقى مدة طويلة في التراب ولا تتحول ترابا فاذا لم يمكن إحياؤها فإعادة سائر الاعضاء واللحم والدم والعروق والاعصاب وغيرها مما تتوقف عليها الحياة مستحيلة بطريق أولى.

بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ...

(بلى) جواب لاثبات ما نفاه الانسان في الآية السابقة وهو إحياء عظام الموتى اي بلى نجمعها والمراد اعادة الانسان الى الحياة بطريقة لا يعلمها الا الله تعالى. و(قادرين) حال من فاعل الفعل المقدر اي نجمعها حال كوننا قادرين على أن نسوي بنانه. واختلف اللغويون في معنى البنان. قال في العين (البنان اطراف الاصابع في اليدين والبنان في قوله تعالى واضربوا منهم كل بنان يعني الشَّوى وهي الايدي والارجل) وهكذا روى ابن فارس في معجم مقاييس اللغة عن الخليل ولكن الازهري في تهذيب اللغة روى عن العين (اطراف الاصابع من اليدين والرجلين) وفي الصحاح (البنان: اطراف الاصابع) وفي المفردات انها الاصابع. ومهما كان فالظاهر أن المراد بالآية أنّا قادرون على ان نحيي جميع جسمه حتى اطرافه اي يديه ورجليه بل اصابعه بل اطراف اصابعه ــ بناءا على هذا التفسير ــ دفعا لتوهم استبعاد ذلك.

والتسوية بمعنى التعديل اي نجعله عدلا ومساويا ومثلا لما كان من قبل. والقصد منه أنّه تعالى لا يجمع العظام فحسب بل يعدّل العظام الدقيقة التي على الاصابع او رؤوسها لا تختلف عما كان قبل الموت بل لا يبعد ان يكون المراد تعديل البصمات وهي الخطوط الدقيقة على رؤوس الاصابع التي تستخدم في تحديد هوية الشخص. وليست الآية صريحة في ان الاحياء سيكون بهذه الطريقة اي التسوية التامة بل المفاد الصريح هو الاحياء مع القدرة على تسوية كل الاعضاء حتى الدقيقة منها حتى تكون مماثلة تماما لما كان من قبل ولكن لم يصرح بانه تعالى سيفعل ذلك.

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ...

إضراب عمّا يبدو من العبارة السابقة من أنّ الانسان يظنّ أنّ الله تعالى غير قادر على إحياء الموتى فالمعنى أنه ليس كذلك بل انما يقول الانسان ما يقول ليفجر واثقا مطمئنا لا يقلقه شيء ولذلك ينكر القيامة. والفجور من الفجر وهو شق الشيء شقا واسعا ويطلق الفاجرعلى مرتكب الاثم اذا كان كبيرا او كثيرا لأنه تفتّح في الاثم اي توسّع فيه كما في معجم مقاييس اللغة او لأنّه شقّ ستر الديانة كما في المفردات. والمراد بالديانة التقيّد بأحكام الشرع فهو ستار وحاجب يمنع من ارتكاب الآثام فاذا أثم الانسان قليلا فكأنّما أزاح الستر قليلا وأما اذا بالغ في الاثم كما أو كيفا فكأنّما شقّ الستر وفجر.

و(أمامه) ظرف مكان. قيل: ولكن يكنى به عن الزمان فالمراد أنه يريد أن يفجر في ما يستقبله من الزمان اي لا يتقيد بشيء أيام حياته مطلقا. ويمكن أن يكون كناية عن وجود المانع أمام طريقه في ارتكاب الاثم وهو أمر معنوي والطريق ايضا امر معنوي فالمراد أنه ينفي الآخرة حتى لا يشعر أنّ أمامه ما يمنع من ارتكاب الاثم.

واللام في (ليفجر) قيل: إنّها زائدة فتبقى (أن) مقدّرة فيكون التقدير (يريد أن يفجر أمامه). وقيل: إنّ اللام بمعنى أن. ويلاحظ تبديلها بـ (أن) في موارد كقوله تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ..)[6] وقوله تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ..)[7] وقيل: للتعليل فيمكن أن يكون التقدير هنا (يريد الاعتذار ليفجر أمامه) حيث إنّ الفجور هو الداعي له لانكار الآخرة، ويمكن أن تكون إرادة الفجور علة للجملة التالية.

يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ...

هذه الجملة قد تكون معلولا لارادة الفجور كما مرّ فالتقدير يسأل أيان يوم القيامة ليفجر أمامه، لأن هذا الاستفهام للانكار وليس للسؤال كقولهم (متى هذا الوعد ان كنتم صادقين). ويمكن أن تكون الجملة مستأنفة. و(أيان) استفهام عن الزمان وفي اكثر كتب اللغة انها بمعنى (متى) وفي شرح الرضي على الكافية (أيان: مختص بالأمور العظام نحو قوله تعالى (أيّان مرساها) و(أيّان يوم الدين) ولا يقال: أيّان نمت؟) وقال ايضا (ويختص (أيّان) في الاستفهام بالمستقبل بخلاف (متى) فإنه يستعمل في الماضي والمستقبل).[8]

فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ...

جواب عن السؤال بافتراضه استفهاما حقيقيا وهو تهكم في الواقع حيث يذكر بعض أهوال يوم القيامة لبيان موعده بدلا عن تحديد الوقت الذي هو مورد الاستفهام. و(برق) قيل إنه بالكسر والفتح بمعنى اللمعان وهو كناية عن شخوص البصر الحاكي عن التحير والبهت. ويبدو من الخليل في العين اختلاف المعنى وأنه بالكسر بمعنى كونه فزعا مبهوتا وبالفتح معناه أن بصره يلمع من شدة شخوصه ولا يطرف. وقد قرئ في الآية بالوجهين. وهو يحكي عن حالة الفزع والحيرة والمفاجأة والدهشة كما تنطق به مجموعة من الآيات. والمراد بالبصر جنسه اي كل ابصار الناس.

وَخَسَفَ الْقَمَرُ...

(خسف) يأتي لازما ومتعديا فيقال خسف القمركما هنا ويصح ان يقال خُسِف القمر مبنيا للمجهول او خسف الله القمر. والاصل في معنى الخسف الغؤور والغموض كما في معجم المقاييس ومنه خسوف الارض قال الخليل في العين (خسوف الشمس يوم القيامة دخولها في السماء كأنها تكورت في جحر). ولعل المراد بخسوف القمر يوم القيامة ذهاب نوره نهائيا بلا عودة ــ كما قيل ــ او زواله وانعدامه لما يظهر من بعض الآيات من انهدام النظام الكوني الحالي، وعليه فالخسف هو الذي يحصل بالجمع في الآية التالية.  

وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ...

وهذا ايضا من حوادث ذلك اليوم اي تلك المرحلة من الكون والظاهر أنه إشارة الى انهدام النظام الذي يجعل كل نجم وكوكب في موضعه الخاص وفلكه الذي يسير فيه فتجتمع كلها من دون انتظام ولا يعلم مصيرها الا الله تعالى. ويلاحظ أن هذه الحوادث تقع قبل يوم القيامة وإحياء الانفس وإحضارها للحساب ولكن زوال هذا النظام امر مستمر حتى تلك المرحلة اي مرحلة الاحياء ففي ذلك اليوم ايضا لا يوجد قمر ولا شمس على غرار ما نجده الان.

يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ...

وهذا هو الهدف من عرض هذه الحوادث اي الاشارة الى مصير الانسان في ذلك اليوم العصيب حيث يشعر أنّه مأخوذ بما ارتكبه فلا يهتم بكل ما يحدث وانما تهمه نفسه ويسأل (أين المفرّ). والسؤال ليس للاستفهام لوضوح الأمر حينئذ والانسان يعلم أنّه لا مفرّ من أمر الله وحكمه وانما ينشئ الانسان بهذا القول تمنيه الامر المستحيل. والمفرّ مصدر فالمعنى الى أين الفرار؟ ويمكن أن يكون اسم مكان اي أين موضع الفرار؟ وقيل: هو بفتح الميم مصدر وبكسرها اسم مكان.

و(يومئذ) ظرف للقول وهو مستغنى عنه بقوله (فاذا برق البصر..) وانما اعيد ذكره للتأكيد على أهمية ذلك اليوم. والكلام في المجموع جواب لتوهم الانسان أن لن يجمع الله عظامه.

كَلَّا لَا وَزَرَ...

ردع له حيث يطلب المفر او يظهر أنه يطلبه. والوزر: الجبل يلجأ اليه، كما في العين. وفي الجمهرة(الوزر: الملجأ). ويحتمل أن تكون الجملة من تتمة كلام الانسان فهو يردّ على نفسه ويقرّ بأن لا ملجأ له يتحصّن فيه.  

إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ...

خطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والظاهر أنه تتمة للجملة السابقة وان احتمل الاستقلال. والتعبير بـ(ربك) تشريف له صلى اللّه عليه وآله وسلّم ودعم في مواجهة الأعداء. وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر فالمستقر اليه تعالى فحسب. والمستقرّ اسم مكان اي محل الاستقرار او مصدر فالمعنى أن الاستقرار وانتهاء المصير اليه تعالى بمعنى أنّ الانسان يرجع الى ربّه ليجد مصيره الذي سجّله بعمله لديه تعالى او أن مصيره الى ما يحكم الله تعالى فيه. والنتيجة واحدة.

يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ...

جملة استينافية يبين فيها صفة اخرى لذلك اليوم الرهيب وهي أن الانسان ينبّأ بأعماله في الدنيا صغيرها وكبيرها وهذا ممّا تكرّر التنبيه عليه في الكتاب العزيز ويتبيّن من مواضع عديدة أنّ الانسان يرى عمله بالعيان فالاخبار والاعلام ليس بالكلام بل ولا بالصورة فالعمل بحقيقته باق في تلك المرحلة من التكوين كما هو باق في ضمير الانسان الحي بل هو بنفسه عذاب او ثواب له لا يضاهيه عذاب وثواب آخر.

والظاهر أنّ المراد بما قدّم ما عمل وما ترك من حسنة او سيّئة لكثرة تكرار التعبير في القرآن عن أعمال الانسان ــ سواء كانت حسنات ام سيئات ــ بما قدّمه قال تعالى (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ..)[9] ومثلها آيات عديدة والظاهر أن الوجه في هذا التعبير هو تحقق الفعل منه. والقِدَم: السابقة في الامر كما في العين. ولذلك لا يختص التعبير بما يجد الانسان أثره في الآخرة قال تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ)[10] كما أنه لا يختص بالسيئة قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ..)[11] وأوضح منه قوله تعالى (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي).[12]

واختلفوا في المراد بما قدّم وما أخّر فقيل المراد بما قدم و أخر ما عمله من حسنة أو سيئة في أول عمره وآخره وقيل المراد بما قدم ما عمله من حسنة أو سيئة فيثاب على الأول ويعاقب على الثاني، و بما أخر ما تركه من حسنة أو سيئة فيعاقب على الأول و يثاب على الثاني وقيل المراد ما قدم من المعاصي وما أخر من الطاعات، وقيل ما قدم من طاعة الله وأخر من حقه فضيّعه، وقيل ما قدم من ماله لنفسه وما ترك لورثته وكل ذلك مما لا شاهد عليه من القرآن.

والصحيح كما ذكره بعضهم أن المراد ما قدّمه على موته من حسنة أو سيئة وما أخّر من سنة حسنة سنها أو سنة سيئة فيثاب بالحسنات ويعاقب على السيئات ويدلّ عليه قوله تعالى (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ..)[13] فجعل الآثار في مقابل ما قدّمه.

وهذا أمر مهمّ يغفل عنه الانسان ويتصوّر أنّ ما صدر منه مجرّد عمل صغير او حتى جملة مختصرة وان كان العمل ناشئا من سوء نيّة الا أنّه ليس كالقتل وإثارة الحروب والتدمير ونحو ذلك من الجرائم التي يقيس الانسان عمله بها ليخفف من وطأته في نفسه وهو لا يعلم بما يترتب على عمله الصغير من مفاسد طيلة التاريخ فربما يقول الانسان جملة او كلمة يمنع الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم من كتابة وصيته التي تمنع من الاختلاف بعده فالذي يترتب عليه من ترك الكتابة هو هذا الاختلاف الذي يكاد أن يطيح بالامة الاسلامية.

بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ...

إضراب عن إنباء الانسان بما عمل بأنه لا حاجة الى إنبائه فهو خبير بنفسه وبما عمل والتاء في بصيرة للمبالغة كعلامة ونسابة و(على نفسه) متعلق بـ(بصيرة) بتضمينه معنى الرقابة والاشراف والا لعدّي بالباء. وقيل بصيرة صفة لحجة مقدرة اي الانسان حجة بصيرة على نفسه وذلك من جهة شهادة أعضائه على أعماله. وتوصيف الحجة بالابصار من جهة سببيتها له كقوله تعالى (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا).[14]

وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ...

الالقاء: الطرح. والمعاذير اسم جمع للمعذرة على ما في الكشاف لان جمع المعذرة (معاذر) والمعذرة والعذر ما يؤتى به كحجة تبرر ما عمله الانسان خلافا لما يتوقع وهو قد يكون حقا وقد يكون باطلا ولذلك قيل (المعاذير يشوبها الكذب). اي ولو أتى الانسان بأعذار تبرر له ما فعل ولكنه يعرف نفسه حق المعرفة ويعرف دوافعه لكل فعل ويعلم أن هذه الاعذار لا تغني شيئا. وقيل المعاذير جمع معذار بمعنى الستر فالمعنى أنه وان القى الاستار على فعله لئلا يعلم الناس حقيقة ما يفعل او دوافعه ولكنه بنفسه عالم بهما.  

روى الكليني رحمه الله بسند معتبر عن عمر بن يزيد قال: إني لأتعشّى مع أبي عبدالله عليه السلام إذ تلا هذه الآية " بل الانسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره " يا أبا حفص ما يصنع الانسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟! إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: من أسر سريرة ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. [15]

ومعنى الحديث أن الانسان اذا اعتذر الى الناس بأمر مخالف للواقع فان الله تعالى يظهره عليه كلباس يلبسه فلا ينفعه هذا الاعتذار وليس المراد بالطبع ما يجب إخفاؤه من الناس لسبب شخصي او اجتماعي بل المراد الطباع التي يريد الانسان إخفاءها ليزيّن نفسه أمام الناس وهذا هو مقتضى التعبير عنه بالسريرة والباس الرداء.

وفي رواية اخرى بسند صحيح ايضا عن الفضل أبي العباس عن أبي عبدالله عليه السلام قال: (ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا ويسرّ سيئا أليس يرجع إلى نفسه فيعلم أنّ ذلك ليس كذلك والله عزوجل يقول: " بل الانسان على نفسه بصيرة " إن السريرة إذا صحت قويت العلانية). [16]

 


[1] الحاقة: 38

[2] يس: 2-3

[3] الزمر: 68

[4] نهج البلاغة الخطبة 90

[5] مريم: 26

[6] التوبة: 32

[7] الصف: 8

[8] شرح الرضي على الكافية ج3 ص204 - 205

[9] ال عمران: 181- 182

[10] الروم: 36

[11] الحشر: 18

[12] الفجر: 24

[13] يس: 12

[14] يونس: 67

[15]  الكافي ج2 ص 293 باب الرياء ح6

[16] نفس المصدر ص416 ح11