مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ...

يعود السياق الى ما قبل الآيات الاربعة المعترضة فقوله تعالى (كلا) للردع عما سبق من انكار الانسان للحياة بعد الموت المستفاد من قوله تعالى (أيحسب الانسان ألّن نجمع عظامه). فالمراد أن انكاره ليس على أساس منطقي وانما لغاية حبّه لملذّات الدنيا والحياة العاجلة اي الحاضرة لديهم وعدم اهتمامه بالحياة الآخرة وهي الحياة الابدية بل هي الحياة بالحق وانما الحياة الدنيا لهو ولعب.

والخطاب ليس للمنكر فحسب بل هو موجّه للانسان. وقد ورد في الحديث (حبّ الدنيا رأس كل خطيئة)[1] وهذا لا يختص بالكافر المنكر للآخرة بل كل ما يفعله الانسان من معصية ومن جريمة انما ينشأ من حبّ الدنيا وملذّاتها الحاضرة وعدم الاهتمام بالآخرة حتى وان كان يعتقد بها وهذا ما نلاحظه ونشعر به في ضمائرنا ولو كنّا نهتمّ بالآخرة لكان أكثر نشاطنا لها والملاحظ أنّ المؤمن الصالح منّا ايضا يصرف وقتا قليلا لآخرته الا من شذّ وندر.

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ...

النضرة: الحسن والجمال والخلوص كما في معجم مقاييس اللغة والظاهر أن الآية التالية تبين وجه النضارة فان كان المراد بها التنعم الحاصل من النظر الى ربهم كما قيل او الى نعمه تعالى فيكون المراد بالنضارة هنا نضرة النعيم كما قال تعالى (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)[2] وان كان المراد بالنظر انتظار رحمة الله تعالى ونعمته فالنضارة تعرب عن حسن حالهم من هذه الجهة.

فالكلام يقع في معنى النظر الى الربّ، اذ لا شكّ في أنّه لا يحمل على ما يفهمه عامة الناس من النظر بالعين فانها خاصة بالاجسام والله تعالى ليس جسما. فهل هو بمعنى الرؤية بالقلب كما في بعض التعابير؟

الظاهر أنه ليس مرادا ايضا لأن الرؤية بهذا المعنى لا يختص بالمؤمن بل البشر بأجمعهم يرفع عنهم الغطاء كما قال تعالى (فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[3] ومعنى ذلك أن الانسان يدرك حقائق الامور بكل وجوده وهو المراد بالرؤية بالقلب وهذا الادراك أقوى بكثير من الرؤية بالعين التي يشوبها الخطأ كثيرا ولا نشعر بهذه الرؤية وهذا الادراك في الدنيا عادة الا في الاحساس بأنفسنا.

نعم هناك من ينعم برؤيته تعالى في هذه الحياة كما قال امير المؤمنين عليه السلام وقد سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: أفأعبد ما لا أرى؟! فقال وكيف تراه؟ فقال عليه السلام (لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ وَلَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ).[4] وهذا غير النظر الى الرب سبحانه وتعالى يوم القيامة الذي ينعم به الصالحون خاصة لو صح التفسير. فما هو المراد بهذا النظر؟

قال العلامة الطباطبائي قدس سره (هؤلاء قلوبهم متوجهة إلى ربهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطع الأسباب يومئذ ولا يقفون موقفا من مواقف اليوم ولا يقطعون مرحلة من مراحله إلا والرحمة الإلهية شاملة لهم «وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ» النمل: 89 ولا يشهدون مشهدا من مشاهد الجنة ولا يتنعمون بشي‏ء من نعيمها إلا وهم يشاهدون ربهم به لأنهم لا ينظرون إلى شي‏ء ولا يرون شيئا إلا من حيث إنه آية لله سبحانه والنظر إلى الآية من حيث إنها آية ورؤيتها نظر إلى ذي الآية ورؤية له).

وهذا الكلام وجيه الا أنه لا يحقق معنى النظر الى الله تعالى يوم القيامة فان مشاهدة الاشياء بما أنها آية لله تعالى حاصلة لكثير من المخلصين في الدنيا بل حاصلة لكثير من الناس بل اكثرهم اجمالا وفي بعض الحالات والظاهر من الآية بناءا على هذا التفسير أن هذا النظر أجر خاص وثواب خاص يتلقاه المخلصون يوم القيامة خاصة.

فلو صح هذا التفسير فالواقع انه لا يمكننا تصور هذا الامر على ما هو عليه فهو فوق إدراكنا ولكنه لو كان امرا واقعا فهو نوع علاقة بين العبد وربه ينعم به العبد كما ينعم بنظر الرب اليه فهو ايضا وارد في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..)[5] فان هذا النظر الذي يحرم منه هؤلاء يتنعم به المؤمنون وهذا لا يعني الرؤية كما هو واضح.

ونظيره الرضا المتبادل بين العبد وربه (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)[6] وهذه العلاقات بين الله تعالى وعباده الصالحين أعظم وأعلى نعمة في الجنة بل هي النعمة والميزة فحسب وهي تختلف باختلاف درجات الايمان والعمل الا أن الشأن في اثبات أن العبد ايضا هل ينظر الى ربه كما ينظر اليه ربه نظر عطف وعناية؟ سيأتي الجواب الفصل ان شاء الله تعالى.

هذا ولكن القوم رووا روايات في تفسير هذه الآية والتزموا بها سلفا وخلفا بالرغم من مخالفتها للعقل وللكتاب العزيز:

ففي صحيح البخاري عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا). ثم روى عن جرير قال: (كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ قَالَ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ..).[7]

وروى مسلم الحديث الثاني وروى ايضا بعده (أَمَا إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ فَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ).[8]

وروى الشيخان واحمد وغيرهم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ (إنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: هَلْ تُمَارُونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا: لاَ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ القَمَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ وَكَلاَمُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ رَحْمَةَ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَمَرَ اللَّهُ المَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدْ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ القَضَاءِ بَيْنَ العِبَادِ وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولًا الجَنَّةَ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ، فَيُعْطِي اللَّهَ مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ فَإِذَا أَقْبَلَ بِهِ عَلَى الجَنَّةِ رَأَى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ العُهُودَ وَالمِيثَاقَ، أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الجَنَّةِ فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الجَنَّةَ فَيَقُولُ اللَّهُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ العُهُودَ وَالمِيثَاقَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ، فَيَضْحَكُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ ثُمَّ يَأْذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، فَيَقُولُ: تَمَنَّ، فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مِنْ كَذَا وَكَذَا أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الأَمَانِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَوْلَهُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ).[9]

وهذه الاحاديث مخالفة بظاهرها للادلة العقلية القطعية حيث انه تعالى ليس جسما يمكن رؤيته بالبصر ومخالفة لقوله تعالى (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ..)[10] وفي الحديث الاخير مواضع من مخالفة النصوص ومن الغرائب التي لا يمكن تصديقها فان أمكن تأويلها ــ وهو بعيد في بعضها على الاقل ــ والا فهي مطروحة ولكن القوم لا يمكنهم رفع اليد عما التزموا به من متابعة كل ما في الصحيحين مهما كان.

وفي التفاسير وجوه اخرى لتفسير الآية:

منها أن المراد بالنظر في قوله (ناظرة) الانتظار فالمعنى أنها منتظرة لرحمة ربها او لنعمه. وردّ بأنّ الانتظار لا يسند الى الوجه فلا يقال وجوه منتظرة ولا يتعدى بـ (الى) بل بنفسه.

ومنها ان المراد بالنظر معناه المعروف مع تقدير النعم اي الى نعم ربها ناظرة. وضعفه واضح فليس النظر الى النعم نعمة يكرمون بها.

ومنها ما حكاه السيد المرتضى قدس سره عن بعضهم حيث قال (وههنا وجه غريب في الآية حكي عن بعض المتأخرين لا يفتقر معتمده إلى العدول عن الظاهر أو إلى تقدير محذوف ولا يحتاج إلى منازعتهم في أن النظر يحتمل الرؤية أو لا يحتملها بل يصح الاعتماد عليه سواء كان النظر المذكور في الآية هو الانتظار بالقلب أم الرؤية بالعين وهو ان يحمل قوله تعالى إلى ربها إلى انه أراد نعمة ربها لان الآلاء النعم وفي واحدها أربع لغات ألا مثل قفا وألى مثل رمى وإلى مثل معى وإلي مثل حني..) [11] والتكلف فيه واضح.

ولكن التفسير الصحيح والكلام الفصل هو ما ورد في رواية عن الامام الرضا عليه السلام في قول الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) قال: (يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها).[12]

ولكن ليس النظر بمعنى الانتظار حتى يرد عليه ما مر من ان الانتظار لا يتعدى بـ (الى) ولا يسند الى الوجه بل بمعنى النظر بالمعنى المعروف الا أنه ليس نظرا بالعين اليه تعالى بل هو كناية عن قطع املهم ورجائهم عن غيره وأنهم ينتظرون رحمته وثوابه ومن هنا جاء الحصر بتقديم الجار والمجرور (الى ربها) وهذا التعبير يرد في محادثاتنا في الدنيا ايضا فيقول الانسان اذا تقطعت به السبل أنه لا ينظر الا الى ربه بمعنى انه لا ينتظر الفرج الا منه تعالى وتراه يرفع ببصره الى السماء كرمز للتوجه الى الله تعالى. وهذا المعنى ذكره في الكشاف ايضا بتعبير مقارب لما مر.

والدليل على أن هذا هو الصحيح في تفسير الآية دون اعتبار النظر أجرا للصالحين أن الآيتين التاليتين لا يمكن حملهما على إرادة مرحلة نزول العذاب على اهل النار كما سيأتي توضيحه فلا بد من حمل هاتين ايضا على تلك المرحلة فتكون الآيات بصدد بيان حال الخلائق حين الحساب او بدو النشور فأهل الجنة مستبشرون تبدو عليهم النضرة مع انهم لم يدخلوا الجنة الا انهم يطمعون وجملة (الى ربها ناظرة) تبين هذه الحالة.

ومثله قوله تعالى (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)[13] فهذه الآيات تبين حال المؤمنين قبل دخول الجنة وهم يطمعون ويدعون ربهم الى ان يأتي الامر عن طريق رجال الاعراف بدخولهم الجنة.

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ...

قيل اي كالحة مكفهرة وهو احد معنيي البسر وفي مفردات الراغب أن البسر بمعنى الاستعجال بالشيء قبل أوانه وفي معجم مقاييس اللغة ان احد معنييه أن يكون الشيء قبل إناه (اي وقته). ومن هنا يطلق على التمر قبل نضوجه (البسر). فيمكن ان يكون المراد اضطرابها وتوجسها للشر فتكون الآية التالية مفسرة ومبينة للسبب في بسورها كما كانت الآية السابقة مفسرة لنضارة وجوه الصالحين.

تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ...

الظن هو كل احتمال لا يستند الى احساس مباشر وان كان مانعا من احتمال الخلاف بان يكون علما او وثوقا فالمراد أن هذه الوجوه مضطربة تتوقع كما يبدو من ظاهر الحال أن يفعل بها ما يقصم الظهر. والفاقرة: الداهية التي تكسر فقار الظهر. فهذا التوقع والظن جعل وجوههم باسرة. والحاصل أن الآية بصدد بيان حال اهل النار قبل ورودها ومن العجيب ان هذا هو ما يظهر من جميع التفاسير ولكن الغالب منهم عامة وخاصة فسروا الآيتين السابقتين بما يرتبط بحال دخول الجنة والتنعم فيها.

وقيل: تظن اي تعلم والوجه الاول أنسب بالبسور. والتوقع كاف في عبوس الوجه. وتنكير الفاقرة قد يكون للتعظيم اي داهية عظيمة وقد يكون من جهة عدم العلم بما سيستقبله من مكاره فان الظاهر من التعابير تصوير حالتهم قبل الحساب والجزاء كما تبين.

كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ...

(كلا) ردع عما ورد في قوله تعالى من حب الانسان للعاجلة وتركه الآخرة بمعنى أن هذا الحب والتعلق بالدنيا من أخطاء الانسان وعدم معرفته لحقائق الامور وسيأتي اليوم الذي يتبين له زوال هذه الحياة وخطؤه في التعلق بها وهو يوم انتقاله عنها والتعبير ببلوغ التراقي كناية عن قرب الموت وفاعل (بلغت) الروح او النفس. فهو كقوله تعالى (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ)[14] وجواب (اذا) محذوف ومعلوم من السياق اي يعلم آنذاك أنه أخطأ في تعلقه بهذه الدنيا.

والتراقي جمع التَرقُوة بفتح التاء وضم القاف ولكل انسان ترقوتان وهما العظمان الكبيران الموصلان بين ثغرة النحر والعاتق وقلّ من تعرّض لوجه الاتيان بصيغة الجمع مع انهما اثنتان فقيل ان السبب هو تعدد الاشخاص فالفاعل في (بلغت) الارواح والنفوس ولكن هذا ينافي الافراد في قوله تعالى (وظن انه الفراق). ومنهم من فسّر التراقي بالعظام المكتنفة للثغر تهربا من الاشكال ولكنه لا يوافق اللغة ومنهم من فسر التراقي باعالي الصدر كما في التبيان ومجمع البيان ويبدو أنهم اعتبروا التراقي مأخوذة من الرقي. وكتب اللغة مجمعة على أنها مأخوذة من (ترق) والصحيح أن الجمع هنا بمعنى التثنية وانما اختير الجمع لانه اسهل في التلفظ مع الامن من الاشتباه ونظيره كثير في اللغة والشعر ومنها قوله تعالى (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا).[15]

وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ...

الراقي الذي يَرقي المريض اي يكتب له الرُقية وهي عُوذة كانوا يعلقونها على المريض للعلاج وتسمى التميمة ايضا فمعنى الآية أن بعض اهل المحتضر قال: من يأتي اليه بمن يَرقيه والاستفهام للانكار اي لا يوجد من يرقيه وهذا كناية عن يأسهم عن عافيته.

وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ...

الظن ما يتبين للانسان من دون احساس مباشر كما مر آنفا اي تبين له من القرائن انه مفارق احبابه او مفارق الدنيا التي احبها وتعلق بها وعمل لها فها هو الآن ينظر الى امواله التي جمعها طيلة عمره يتركها لورثته ولعله لا يحب ان يرثه احد منهم او ينظر الى اولاده وقد افنى عمره في حبهم والعمل من اجلهم وها هو الآن تاركهم ولا يعلم ما سيستقبلهم.

وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ...

قد يكون هذا تعبيرا عن شدة حاله الى ان بلغ نهايته فلف ساقه بساقه من شدة الالم واليأس من الشفاء وقد يكون تعبيرا عن موته حيث يُلفّ ساقاه بالكفن فتكون الباء بمعنى (مع) والتفّت ساقاه بالكفن.

إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ...

المساق مصدر بمعنى السوق و(ربك) ليس خطابا للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كما يتوهم بل الجملة موجهة للانسان وتنبيه بأنه قد انتهى الامر والآن لست تذهب حيث تشاء كما كنت من قبل بل تساق سوقا الى ربك فاليه المرجع وليتك كنت تحسب لهذه اللحظة حسابا فتستعد للقاء ربك.

 


[1] الكافي ج2 ص131 باب ذم الدنيا

[2] المطففين: 24

[3] ق: 22

[4] نهج البلاغة الخطبة 179

[5] ال عمران: 77

[6] البينة: 8

[7] صحيح البخاري ج9 ص127 باب قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة على ما في المكتبة الشاملة وكذا الحديث التالي

[8] صحيح مسلم ج1 ص433 باب فضل صلاتي الصبح والعصر

[9] صحيح البخاري ج1 ص160 باب فضل السجود / صحيح مسلم ج1 ص163 باب معرفة طريق الرؤية / مسند احمد ج13 ص144

[10] الانعام: 103

[11] الامالي ج1 ص28

[12] عيون اخبار الرضا ج1 ص105

[13] الاعراف: 46 - 49

[14] الواقعة: 83

[15] التحريم: 4