فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى...
يمكن ان تكون الفاء لتعليل سوقه الى ربه فانه تعبير يدل على احتقار واذلال والسبب انه لم يصدّق ولم يصلّ لربه ويمكن ان يكون ــ كما قيل ــ تفريعا على قوله تعالى (ايحسب الانسان ألّن نجمع عظامه) اي ان الانسان نتيجة لانكاره يوم القيامة وحسبانه ان لن نجمع عظامه لم يصدّق الر سول والكتاب والآيات.
ولم يذكر متعلق التصديق للاشارة الى أنه لا يصدّق شيئا ولا يؤمن الا بما يراه عيانا فعدم تصديقه لا يختص بشيء بل هو معاند يواجه كل ما يقال له بالتكذيب، ولم يصلّ لربّه فترك ما يجب عليه في مرحلتي الاعتقاد والعمل. وانما ذكرت الصلاة خاصة كأوضح عمل يجب على العبد تجاه ربه والا فالاعمال الواجبة التي تركها كثيرة.
وقيل ان المراد بقوله (صدّق) دفع الصدقة وتأويله أنه صدّق ماله اي جعله صدقة وهو بعيد من اللفظ ولعله انما قيل ذلك لان عدم التصديق ورد في قوله ولكن كذّب فيكون تكرارا ولكن الصحيح انه تصعيد فهو لم يصدّق بل كذّب وعدم التصديق لا يلازم التكذيب.
وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى...
اي لم يقتصر نشاطه على الجانب السلبي بل واجه الرسالة بالتكذيب وأعرض عن الحق استخفافا به. والتولي الاعراض فان الولاية في الاصل بمعنى القرب واذا عدّي بـ (عن) كان معناه البعد فيكون التولي عن شيء بمعنى التباعد عنه ولا يعني هنا الفرار بل معناه الاعراض عنه استخفافا به.
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى...
الذهاب الى الاهل تعبير عن الانتهاء من النشاط الاجتماعي والرجوع الى البيت كما هو عادة الانسان في كل يوم فلا يراد به هنا قضية شخصية وحادثة خاصة بل الآية تشير الى شأن هذا الانسان في كل يوم وفي كل مجال يمكنه فيه تكذيب الحق والاعراض عنه.
والتمطّي في الاصل التمطط وهو بمعنى التمدد وهو كناية عن مشية الكبر والخيلاء نظرا الى أن الغالب في المتكبرين المشي على الارض مرفوع الرأس منتصب الظهر مباعدا يديه عن جنبيه كأنه يحاول أن يكون أكبر وأضخم وأطول مما هو عليه ليتطابق نفسيته المستعلية مع حركات جسمه فالمراد أنّ هذا الانسان لا يكتفي بعدم الايمان ولا بالتكذيب والاعراض بل يفتخر ويتباهى بذلك وكأنه فتح فتحا عظيما حيث استكبر على الحق وعصى ربه.
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى...
يبدو أن جملة (اولى لك) كلمة تهديد توارثها اهل اللغة ولكنها فسرت بوجوه عديدة وحيث ان (ولي) بمعنى قرب كما مر آنفا فمعناها اقرب لك وهو خبر لمبتدأ محذوف وحكي عن الاصمعي أنه قال معناها (قاربك ما يهلكك).
وفي الميزان: التقدير أن ما انت عليه من الحال وهو العناد والمكابرة اولى ثم اولى لك ليصيبك العقاب فهو في الواقع حكم من الله تعالى بالطبع على قلبه كما هو يستحقه. وهذا لا بأس به في هذا المورد خاصة ولكن حيث ان هذه جملة معروفة بين العرب ووردت في اشعار الجاهلية فلا يمكن حملها في جميع الموارد على هذا المعنى.
ويقرب في الذهن أن معناها يختلف حسب الموارد فقد قيل انها في بعض الموارد تلهف وفي بعضها تهديد ولعل التقدير هنا (اولى لك ان تترك هذا العناد) وهذا مما يقال في اللهجة العامية وفي لغات اخرى كتهديد مبطن من دون تصريح لكل من يواجه الانسان بصلابة وعناد فيريد ان يهدده بابهام وتختلف الموارد في سبب الابهام فقد يبهم الانسان ما يهدد به لانه لو صرح بشيء فقد لا يتمكن منه وربما لا يكون قادرا على اي مواجهة فيهدد من فراغ وربما يكون الابهام لتخويفه اذ لا يقصد القائل ايقاعه في الهلكة وقد يكون للاشارة الى عظمة العقاب بحيث لا يمكن توصيفه ولعل قوله تعالى من هذا القبيل او مما قبله. والتكرار في قوله تعالى اربع مرات للتأكيد على التهديد.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى...
سدى اي مهمل لا يؤمر ولا ينهى ولا يحاسب على فعله. وهو استفهام إنكاري فان الانسان يحسب ذلك بالطبع ولكنه مخطئ في حسبانه وظنه. وهذا عود على بدء وتذكير بما مرّ من قوله تعالى (أيحسب الانسان أن لن نجمع عظامه) حيث كان الكلام في حسبان الانسان عدم الاحياء بعد الموت من جهة استبعاد وقوع ذلك وهنا يقع الكلام في حسبانه أنه متروك ومهمل لا يحاسب على عمله.
وهذه هي اُمنية الانسان فهو يطلب الحرية المطلقة حتى من القانون الوضعي الذي يساهم في وضعه المجتمع ومع ذلك يحاول كل منهم كفرد أن يتهرب منه بل حتى قانون الطبيعة يسعى الانسان للتخلص منه فان لم يتمكن فانه يبقى له حلما وامنية. وهو بطريق اولى يتهرب من القانون الالهي لأنه يراه مفروضا عليه من دون ارادة ومن دون مشاركة منه بل هو يجهل وجه الحكمة في كثير منه.
وبالطبع لا يخاف الانسان ولا ينزعج من نفس القانون ان لم يدعمه قانون جزائي ولم يتعقبه ثواب وعقاب فانه يشبه إسداء النصح وأوامر الطبيب وانما يشعر الانسان بسلب الحرية اذا كان في جعل القانون تهديد ووعيد فتوقعه للاهمال انما ينبع من توقعه لعدم المحاسبة ومن هنا يحاول اقناع نفسه بأن الموت نهاية المطاف وأنه لا يحاسب عند الله على أعماله. ولكي يطمئن نفسه بذلك ينفي إمكان وقوع البعث والحياة بعد الموت والآيات التالية تعالج هذا الموضوع وتستدل على إمكانه بقدرة الله تعالى غير المتناهية.
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى...
استفهام تقريري ينبه الانسان بأصله الذي يعلمه وهو أنه في بدء تكوّنه لم يكن الا قطرة من منيّ انسان. والنطفة: القليل من الماء. ويُمنى اي يُراق. ولعل منه تسمية وادي (منى) لاراقة دماء الذبائح فيه وقيل (يمنى) اي يُقدّر فالمعنى اذا قدر للنطفة ان يخلق منها الانسان وفيه اشارة الى أن تكوّن الجنين من النطفة يتوقف على بيئة مناسبة وعوامل اخرى.
وفي ذكر النطفة اشارة الى ان خلق الانسان وكل انواع الحيوان مع كل ما في الافراد من الاختلاف ينشأ من جزء صغير من المني وهو الحيوان المنوي فيكون اشارة الى دقة الخلق حيث أودع الخالق كل هذه الاختلافات في هذا الكائن الصغير اي ما يسمى اليوم بالجينات وجعلها بحيث تتناقلها الاجيال نسلا بعد نسل. وعليه فان (من) تبعيضية وليست بيانية كما قيل. والاتيان بفعل المضارع (يمنى) للاشارة الى استمراره فخلق الانسان لا يتوقف او للاشارة الى كونه امرا طبيعيا مستمرا قد يكون منه الولد وقد لا يكون.
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى...
العلقة الدم المتجلط قبل ان ييبس وهذه مرحلة من مراحل تكون الجنين ثم تبدأ بعدها المراحل الاخرى التي عبر عنها بقوله تعالى (فخلق فسوى) فالمراد بالخلق عبور الجنين في مراحل التكون المختلفة. والتسوية: التعديل، فلا بد من أن يكون هناك شيء آخر يجعل هذا الشيء عدلا ومساويا له وقد مرّ في قوله تعالى (نسوّي بنانه) أن المراد إعادة عظامه وفقا لما كان عليه قبل الموت فلعلّ المراد هنا جعل كل شيء منه مساويا لما ينبغي ان يكون كأن هناك خريطة مرسومة لكل انسان فيبنى كل جزء من جسمه وفقا لتلك الخريطة. وفاعل (خلق) و(سوى) غير مذكور وهو الله تعالى لأنه معلوم من السياق بحيث يبدو وكأنه مذكور بصراحة.
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى...
الزوج والزوجان: المثلان المتقارنان ولا يطلق الا اذا كان كل منهما مكملا للآخر بوجه كزوجي الباب والحذاء ومنه الذكر والانثى من الانسان والحيوان والنبات.
ولا تعني هذه الآية أنّ آخر ما يحدث فيه من تطوّر وتعديل هو جعله ذكرا وانثى فإنّ اختلاف الجنسين يحدث قبل ذلك بكثير بل هناك فرق بينهما في أصل النطفة فالرجل هو منشأ اختلاف الجنسين وانما المراد بهذه الآية اكتمال الكائن الجديد فهو إما ذكر او انثى نعم يفهم من الآية ان الجنسين يختلفان اختلافا جذريا فكأنهما نوعان برأسهما وان دخلا معا تحت عنوان عام هو الانسان.
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى...
استفهام تقريري ايضا عن طريق السؤال عن نفي النتيجة لكي يبعث المخاطب على الاقرار بثبوتها قطعا وبوضوح. هل يمكن أن يقال إن هذا الخالق الذي أبدع هذا المخلوق بكل ما فيه من خصائص محيرة للعقول من غير شيء يحمل تلك الصفات فانه لم يكن من البدو الا نطفة ومن غير مثال سابق ومن غير خريطة ليس قادرا على أن يعيد خلقه بعد موته؟! كيف يمكن ذلك؟!
وإحياء الموتى أهون بكثير من أصل إبداعه كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ..)[1] والله تعالى لا يختلف لديه الأشياء وليس هناك هيّن وأهون فقدرته بالنسبة الى خلق الكون متساوية ونسبة الاشياء اليه تعالى واحدة وانما يقال إن الاعادة أهون بالنظر الى فهم الانسان وإدراكه فهو يشاهد بالعيان إبداعه تعالى للخلق فيقال له إن الاعادة لا شك أنها أسهل وأهون فلماذا تستبعدها؟! والواقع أن الحجة واضحة بينة لا يبقي مجالا للريب ومع ذلك فاقتناع البشر بها قليل.
و(ذلك) اسم إشارة للبعيد مع أنه تعالى قريب في الواقع وفي اللفظ فقد مر ذكره تعالى آنفا ضمن الاتيان بفعله (فخلق فسوى) وهذا متعارف في التعبير حيث يؤتى به للحاضر تنويها على علو مقامه وبعده عن إدراك الانسان وإحاطته به بالرغم من غاية قربه ووضوح آياته تعالى والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين.
[1] الروم: 27