الظاهر أن السورة مكية بشهادة السياق ونوعية الآيات والله العالم. وقد ورد في بعض الروايات أنها عروس القرآن ولعلّه لسجعها وقوافيها وتكرار الآية الواحدة بمناسبات متعددة مما يزيدها جمالا وبهاءا. وموضوعها الانسان وما خصه الله تعالى من النعم في الدنيا وما أعدّ له يوم القيامة على اختلاف المراتب من القرب لديه تعالى.
الرَّحْمنُ... ابتدأ السورة بهذا الاسم الكريم المفعم بالرحمة وجعله آية بنفسه من دون ان يسبقه فعل او يتعقبه خبر في نفس الآية ليتلى هذا الاسم وحده فيكون له اعمق التأثير في نفوس السامعين ويتشوقوا الى رحمة الله تعالى ويستعدوا لتلقّي ما يراد تعقيبه به من خبر او صفة خصوصا هذا الاسم الذي يعتبر عند السامعين المشركين غريبا وهو في نفس الوقت ايذان بأن مضمون الآيات التالية سيكون ذكر نعم الله تعالى ومظاهر رحمته.
وفسرت الرحمة في اللغة بانها رقة في القلب تستوجب الاحسان ولكنهم قالوا إنها اذا نسبت الى الله تعالى قصد منها الاحسان بنفسه اذ لا يمكن ان تنسب الرقة في القلب اليه تعالى والأوجه ان تفسر الرحمة الالهية بالعطف فان الاحسان فعله تعالى والرحمة صفته فاذا احسن الى شيء فبسبب الرحمة قال تعالى في شأن هود عليه السلام (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا)[1] فالانجاء فعله تعالى والسبب اتصافه بالرحمة فلا بد من تفسيرها بمعنى يناسب الوصفية كالعطف او ما يقرب منه.
والرحمن والرحيم صيغتا مبالغة من الرحمة قالوا ان صيغة فعلان تدلّ على الشمول والسعة وان صيغة فعيل تدل على ثبوت الصفة ولزومها ويقال ان اتصافه تعالى بالرحمن من جهة شمول رحمته في الدنيا لجميع الخلائق واتصافه بالرحيم من جهة اختصاص رحمته المستقرة والثابتة بالمؤمنين يوم القيامة لقوله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[2] والكتابة بمعنى التسجيل فيدل على الثبوت والدوام.
وفي الكافي في حديث عن الامام الصادق عليه السلام في تفسير البسملة قال عليه السلام (والله إله كل شيء الرحمن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصة).[3] ولكن السند ضعيف وفي لفظ الحديث بكامله ما لا يخلو عن غرابة. وفي مجمع البيان حديث مرسل قال وروي عن الصادق عليه السلام (الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة) ويمكن ان يكون اشارة الى نفس الحديث السابق.
وكون الرحمن اسما خاصا بلحاظ أنه عَلَم لله تعالى وكونه صفة عامة لانها تدل على رحمة عامة تشمل جميع الخلائق فعمومية الصفة سبب في خصوصية الاسم. وكون الرحيم اسما عاما بلحاظ أنه يوصف به غيره تعالى ايضا كما ورد في وصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[4] وكونها صفة خاصة بلحاظ أنها تدل على رحمته المستمرة الى يوم القيامة وهي خاصة بالمؤمنين.
ولكن الحديثين ضعيفان وكل ما يقال في هذا الباب يتعارض مع ما ورد في ادعية كثيرة مأثورة بهذا التعبير (يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)[5] ومنها دعاء الامام الحسين عليه السلام يوم عرفة. وورد ايضا في بعض كتب العامة.[6]
وهنا ملاحظتان:
الملاحظة الاولى: أن إطلاق صفة الرحيم على الله ليس باعتبار رحمته الخاصة بالمؤمنين في الاخرة بل اطلق عليه تعالى في القرآن بلحاظ رحمته في الدنيا ورحمته على غير المؤمنين في الآخرة كقوله تعالى (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[7] وقوله (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)[8] وغيرهما من الآيات.
الملاحظة الثانية: ان اوصاف الله تعالى لا تختص بعالم دون عالم وزمان دون زمان فالرحمانية لو فرض كونها بمعنى سعة الرحمة وشمولها لا تختص بالدنيا كما ان الرحيمية لو فرض كونها بمعنى الثبوت والدوام فشمولها لجميع العوالم والادوار واضح ونحن لا نرجو النجاة يوم القيامة الا من هذا الشمول بل هي تشمل جميع الخلائق كل حسب قابليته كما انها في الدنيا ايضا تشمل الجميع بنفس المعنى ونلاحظ هنا ان الرحمة لا تشمل كثيرا من الناس في كثير من الجهات لعدم استحقاقهم وقابليتهم فالنقص من القابل لا من الفاعل او لاسباب اخرى وهكذا الحال يوم القيامة وهناك كثير من غير المؤمنين تشملهم الرحمة قطعا ولو جزئيا حتى لو شملهم العذاب قال الله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ..)[9] وانما لا تشمل الرحمة الظلمة والمستكبرين.
وأما قوله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) فلا يعني أن رحمته تعالى لا يشمل غير المتقين يوم القيامة فانه تعالى يغفر الذنوب جميعا ويغفر للتائبين وغيرهم ويقبل الشفاعات والآيات الدالة على سعة رحمته يوم القيامة كثيرة جدا منها قوله تعالى (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[10] وانما المراد أن الرحمة المكتوبة المسجلة انما هي للمتقين وأما غيرهم فربما لا تشملهم الرحمة وربما تشملهم فيدخلون الجنة وربما تشملهم في تخفيف العذاب ونحوه.
ومهما كان فبسبب اختصاص هذه الصفة اي الرحمن وبهذه الصيغة بالله تعالى اعتبرت علما للذات المتعالية لا يطلق على غيره تعالى في لغة العرب ولعل السبب فيه هو دلالتها على شمول الرحمة لكل شيء ولا يمكن ذلك الا منه تعالى والظاهر أنها من المصطلحات الاسلامية والمشركون ما كانوا يعترفون بهذا الاسم او هذه الصفة كما قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ..)[11] ولم يقولوا (ومن الرحمن) فالاستفهام الانكاري بهذا اللفظ يدل على أنهم ما كانوا يفهمون لها معنى.
عَلَّمَ الْقُرْآنَ... قدّم على كل النعم تعليم القرآن لأنه الآية الكبرى والنعمة العظمى والعروة الوثقى والثقل الاكبر والحبل الممدود من السماء الى الارض ولا شكّ أنّ أعظم النّعم على الانسان هو ما يربطه بربّه وخصوصا اذا كان الرباط ممدودا من قبله سبحانه. ولم يذكر من وقع عليه التعليم اذ لا شأن له به وانما الشأن هو تعظيم النعمة والأقرب أن يكون المراد تعليم البشر لأن الغرض بيان نعمه تعالى على الانسان ومع ذلك فقد قدّم ذكره حتى على خلق الانسان. فما قيل من تقدير الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم او الملائكة بعيد.
والقرآن علم للكتاب العزيز وبعضهم لا يهمزه بل يتلفظه قرانا ويقول انه ليس من مادة قرأ ولكن المعروف خلافه وعلى ذلك فهو في الاصل مصدر قرأ بمعنى جمع ومنه القرية لمجتمع الناس ويطلق على التلاوة لان القارئ يجمع الكلمات والجمل المتفرقة في تلاوته. وقيل ان تسمية الكتاب العزيز بذلك من جهة أنه جامع للاحكام وغيرها مما يحتاج اليه الانسان لبلوغ الكمال المنشود.
ثم ان سياق الآيات له مغزى آخر فقد ذكر اربعة من الآيات الالهية بعد ذكر الاسم الكريم من دون عطف ثم عطف الموارد الاخرى وهذا لا يبعد أن يكون بمعنى التدرج في الاهتمام بهذه الآيات فأعظم آية من هذه الآيات هو القرآن الكريم ثم خلق الانسان ثم تعليمه البيان ثم سائر النعم التي أنعم بها على الانسان حيث ذكرها ضمن آيات متعاطفة كمجموعة واحدة.
ولكن في الكشاف ذكر وجها لهذا التفريق بين الجمل وتبعه من بعده فقال بالنسبة للجمل الاولى: (وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟). ثم قال في وجه التعاطف في غيرها: (فإن قلت: كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول ثم جيء به بعد؟ قلت: بَكَّتَ بتلك الجمل الأول واردةً على سنن التهديد ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تقريع الذين أنكروا الرحمن وآلاءه كما يبكّت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال الذي قدّمته ثم ردّ الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف).
وما ذكرناه اولى اذ مقتضى ما ذكره أنه لا فرق بين كل هذه النعم والآيات ولكنه بصورة عشوائية انتخب بعضها فذكرها بدون عاطف وابتدأ بالعطف ايضا بدون فارق بينها فان حركة الشمس والقمر لا تختلف عن سجود النجم والشجر ورفع السماء والنعم الارضية. هذا مضافا الى أنهم لم يعتبروا خلق الانسان من ضمن الآيات المهمة الالهية بل اعتبروها مقدمة لذكر النعمة التالية وبناءا على ما ذكرناه يعتبر من أعظم الآيات بل لعله أعظمها بعد القرآن الكريم.
خَلَقَ الْإِنْسانَ... ربما يستفاد من الآية والسياق كما قلنا أن خلق الانسان من أعظم آيات الله تعالى بعد القرآن الكريم والله تعالى استحسن خلقه لهذا الكائن المعجزة بما لم يذكره في اي خلق آخر حيث قال عز من قائل (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).[12] ولم يذكر هذه الجملة الاعجابية بعد ذكر مراحل خلق الانسان في سائر الموارد مع أنه قد تكرر في عدة موارد وبصور مختلفة ولعل الفارق بينها هو الاشارة في هذه الآية بخلق النفس البشرية التي بها يمتاز البشر على غيره من الحيوان حيث قال (ثم أنشأناه خلقا آخر). وقال تعالى ايضا (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ).[13]
ويكفي في تكريم الانسان أنه تعالى أمر ملائكته بالسجود له فقال تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[14] وليس ذلك سجودا لآدم عليه السلام بل هو للانسان لقوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ..)[15] ولعل السجود الذي هو غاية التذلل تعبير عن أمرهم بتلبية حاجات الانسان الطبيعية وتنفيذ ارادته تحقيقا لما أراده الله تعالى من استخلافه في الارض. والملائكة هم وسائط أوامر الله التكوينية التي بها تحدث كل حركة او سكون في الكون.
ومما يدلّ على تكريمه وتعظيم خلقه ايضا قوله تعالى في تأنيب ابليس لعدم سجوده لآدم عليه السلام (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..)[16] والتعبير باليدين كناية عن مزيد العناية بخلقه لأن الانسان اذا اهتم بأمر استعمل يديه معا كما أن الاتيان بالضمير المفرد في (خلقت) يدل على مزيد العناية فكأنه تعالى خلقه بالمباشرة لا بالوسائط الطبيعية. وقد مرّ في تفسير الآية الكريمة ما ينفع في المقام.
ولو لاحظنا جسم الانسان ايضا وجدناه من أغرب الموجودات الحية وأكثرها تعقيدا وكلما تقدّم العلم انكشف له عالم جديد مدهش في داخل هذا الكائن الغريب ومن أغرب ما فيه أنه كلّما تقدّم في العلم وانكشفت له الحقائق زاد كفرا وطغيانا على ربه فحقّ فيه قوله تعالى (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ).[17]
والمفسرون اعتبروا هذه الآية مقدمة للآية التالية وقالوا إنها ليست مقصودة بالذات وما ذكرناه أقرب.
عَلَّمَهُ الْبَيانَ... البيان بمعنى الكشف والايضاح واصله من البين بمعنى الفرقة وحيث ان وضوح الشيء يتوقف على تفكك أجزائه بعضها عن بعض ومعرفتها واحدا واحدا وأن توضيح الامر المشتبه يستلزم تفكيك المتشابهات بعضها عن بعض والفصل بين الحق والباطل عبّر عن ايضاح الشيء بالبيان.
وهذه ثالث الآيات الالهية المذكورة هنا وهي ايضا عجيبة ومهمة في هذا الكون فان الظاهر أن المراد بالبيان قدرة الانسان على بيان ما يعلمه وهو ما نعبّر عنه بالنطق فليس المراد بالنطق مجرّد التلفظ بالحروف بل المراد التعبير عمّا يختلج في النفس والمراد بالتعليم ايجاد هذه القدرة في الانسان وليس بمعنى تعليم اللغات كما يتوهم، فالانسان قادر على التعبير عن كل شيء من المحسوسات بل من المعقولات بل ما لا يدرك كنهه من صفات الله تعالى وما يتعلق بما وراء الطبيعة وينقل هذه المعلومات بكل بساطة وبكل دقة الى غيره من بني نوعه من المخاطبين بل الى الاجيال المتأخرة ولولا ذلك لبقي الانسان كسائر الاحياء في تجربته الاولى. فكل ما نجده من التقدم والتطور العلمي في مختلف المجالات مدين لهذه القدرة التي وهبها الله تعالى للانسان الكفور.
والانسان يحمل فوق ذلك القدرة على التفكير والاستنتاج ولكن القدرة الغريزية المائزة بينه وبين سائر الموجودات هو البيان حتى لو لم يكن صاحب فكر واستنتاج والامر الذي تسبب في تطور معلومات البشر هو القدرة على البيان والا لم تنتقل افكار العلماء واستنتاجاتهم الى غيرهم فكان كل مفكر يبدأ من الصفر وما كان الانسان يتكامل ويصل الى ما وصل اليه.
وقد أشار سبحانه الى أهميّة هذه الصفة حيث اعتبرها سرّ تقدّم الانسان على الملائكة حينما قارن بين قدرة الانسان الاول على البيان وعجزهم عنه قال تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)[18] حيث يظهر من هذه المكالمة أن الملائكة لا يعلمون الا ما علّمهم الله تعالى والانسان ايضا كذلك وكل ما في الكون منه تعالى الا أنه أودع في الانسان القوة على التعبير عن كل ما يعلمه ولم يودع ذلك في موجود آخر حتى الملائكة فهم لا يفعلون الا ما يؤمرون ولا يُظهرون الا ما حُمّلوا ولا يُبدعون أمرا من عندهم اذ لم يجعل الله تعالى لهم قدرة الابداع والبيان فهذا هو السرّ في تقدّم الانسان وتكامله وهو السرّ في استحسانه تعالى لخلقه.
والظاهر أن المراد بتعليم آدم الاسماء هو تعليم البيان المذكور هنا وأن المراد بقوله تعالى (ألم أقل لكم..) ما قاله في آية قبل الآية السابقة بعد اعتراض الملائكة على خلق الانسان بأنه ان كان خليفة وحرا فانه يفسد فيها ويسفك الدماء وأن الغرض من خلقه لو كان التسبيح والعبادة فانا نسبح بحمدك ونقدس لك حيث أجابهم تعالى بقوله (إني أعلم ما لا تعلمون) ولعله أشار بذلك الى أن هذا المخلوق بحريته وتكامله قادر على أن يطوّر نفسه ويصل الى مقام أعلى من الملائكة وهذا هو الغاية الاسمى من الخلق لا خلق من يودع فيه التسبيح فيسبّح ويقدّس.
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ... من هنا يبدأ بالتنبيه على الآية الرابعة اي نظام حركة الشمس والقمر وسائر النعم الالهية الكونية او الارضية والجملة مستأنفة لا ضمير فيها يعود الى الرحمن كما كان في سابقاتها حيث كان ضمير الفاعل في (علّم) و(خلق) و(علّمه) يعود الى المسند اليه ولكنها في سياق ما أخبر به عنه في الآيات السابقة وارتباطها بتلك الجمل ارتباط معنوي وذلك لانه يعدّ فيها آياته تعالى كما هو مدلول السياق فكأنه قال هنا الشمس والقمر بحسبانه. وكذلك الجملة التالية فكأنه قال والنجم والشجر يسجدان له.
والحسبان مصدر من الحساب والتقدير اي ان حركتهما وكل شيء فيهما بنظام وتدبير دقيق. قال تعالى (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)[19] وخصهما بالذكر دون سائر النجوم والكواكب لانهما محسوسان لكل انسان بصير ولا تتوقف ملاحظتهما على خبرة وتدقيق علمي ونظامهما يؤثر في حياة الانسان تأثيرا عميقا حيث يحسب به السنين والشهور وغير ذلك والقرآن لا يخاطب البشر في عصر خاص بل يجري مجرى الشمس والقمر فيبقى خطابه حيا في كل عصر.
ونظام الكون المشار اليه هنا نظام في غاية الدقّة وقد اكتشف الانسان بعض خصائصه منذ أقدم العصور وعلى أساسها نظّم حياته وكلّما تقدّم العلم انكشفت خصائص اخرى من هذا النظام الدقيق الذي لا يتغير بمقدار شعرة. والمراد بحركة الشمس والقمر هو ما نشاهده ونشعر به وان كان في الواقع ناشئا من حركة الارض فالحساب لا يتغير بذلك كما لم تتغير محاسبة الفلكيين طيلة القرون على الرغم من انكشاف الخطأ.
والحسبان والتقدير الدقيق ملحوظ في النظام الكوني من كل جوانبه في وزن الكرات وحجمها وبُعدها والفواصل بينها وحركتها حول نفسها وحول غيرها وحركة المجموعة معا وسرعة كل حركة ومدارها وميلان مدارها وغير ذلك فكل أمر في ذلك مقدر بمحاسبة دقيقة يعجز الانسان عن تأملها فيا للغباء في من يتصور أن كل ذلك حدث بالصدفة ومن دون تدبير وحكمة!!!
ويلاحظ من هذه الآية فما بعد الازدواجية في التعبير اي المقارنة بين زوجين متناسبين في العرض فهنا قرن الشمس بالقمر ثم النجم بالشجر ثم الرفع بالوضع تارة بين السماء والميزان واخرى بين السماء والارض ثم الفاكهة بالنخل ثم الحب بالريحان ثم يأتي تكذيب الجن والانس ثم خلقهما ثم المشرقان والمغربان ثم البحران يلتقيان ثم اللؤلؤ والمرجان ثم يأتي في ذكر عذاب المجرمين ترددهم بين النار والحميم وفي ذكر اصحاب الجنة ان لهم جنتين إما ذواتا افنان وإما مدهامتان وفي كل منهما عينان إما تجريان وإما تنضخان وفي الاوليين من كل فاكهة زوجان وهكذا تبدو من سياق الآيات تركيز على العرض الازدواجي مما يضفي على عروس القرآن جمالا خلابا زائدا على بلاغتها واعجازها.
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ... النجم مأخوذ من نجم الشيء اذا طلع فيقال لنجوم السماء لانها تطلع بعد غروب وللنبات اذا طلع من الارض والظاهر بقرينة مقارنته للشجر أن المراد به هنا هو النبات ولكنهم خصوا بذلك ما ينبت من دون ساق. والشجر يطلق على ما له ساق. والسجود غاية التذلل وكل شيء خاضع لله تعالى تكوينا كما قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ...)[20] وعليه فالسجود والتذلل بمعنى الانصياع للقانون التكويني الحاكم على الكون بأمر الله تعالى.
ويمكن أن يكون السجود اشارة الى حالة طبيعية فيهما قال العلامة الطباطبائي قدس سره في الميزان (وسجود النجم والشجر انقيادهما للأمر الإلهي بالنشوء والنمو على حسب ما قدر لهما كما قيل، وأدقّ منه أنهما يضربان في التراب بأصولهما وأعراقهما لجذب ما يحتاجان إليه من المواد العنصرية التي يغتذيان بها وهذا السقوط على الأرض إظهارا للحاجة إلى المبدأ الذي يقضي حاجتهما ــ وهو في الحقيقة الله الذي يربيهما كذلك ــ سجود منهما له تعالى) ونضيف الى ما ذكره رحمه الله التمايل المشهود في النبات الى الارض بفعل الريح وغيرها فهذا التمايل والسقوط يشبه حالة السجود وهذا ليس تمثيلا وتخييلا بل هو اشارة بالكناية والرمز الى امر حقيقي هو انصياع الكون لارادة الله تعالى ضمن استجابته لقوانين الطبيعة وقد جاءت الاشارة الى هذه العناية الادبية في عدة موارد في القرآن الكريم.
فمنها قوله تعالى (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ..)[21] والرعد ليس اسما لشيء له صوت بل هو نفس الصوت فاسناد التسبيح اليه اسناد مجازي والمراد أن هذا الصوت الهائل المخيف الذي نسمعه تسبيح لله تعالى وكل استجابة طبيعية في الكون خضوع لامره تعالى بل تسبيح له تكوينا بمعنى أنها تدل على عظمة الخالق وتنزهه عما يصفه به الجاهلون. والتوحيد الحقيقي هو أن لا يعتقد بوجود قانون يحكم الكون الا مع الخضوع لارادته تعالى، ولكن الكلام هنا في أن الصوت بذاته اعتبر تسبيحا لله تعالى مصاحبا لحمده وهذا لا يكون الا بعناية أدبية باعتبار أن هذا الصوت حيث كان يحكي عن تلك الاستجابة الطبيعية لأوامر الله التكوينية فكأنه هو صوت التسبيح والا فالاستجابة لا تختص بالصوت. وبعبارة اخرى الصوت بما أنه انفعال طبيعي لعوامل اخرى في الطبيعة فهو امتثال لأمر الله تعالى التكويني وليس ذلك من جهة كونه صوتا وحيث إن التعبير هنا يعتبر الصوت كأنه صوت تسبيح فهذا لا يكون الا بعناية رمزية أدبية.
ومنها قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ)[22] ومن الواضح أن الظل ليس الا أمرا عدميا ينشأ من اشراق الضوء على جسم كثيف يمنع من اشراقه على جزء من الارض ونحوها وهو بالطبع يتحرك بتحرك مصدر الضوء وهو الشمس فيذهب يمينا وشمالا والتفيؤ هو الرجوع. ولكن الله تعالى يعبّر عن هذا التحرك بالسجود لله تعالى لا لأنه خضوع تكويني فحسب فانه لا يختص به بل لأن وضعه وهيئته كهيئة الساجد على الارض فهو بذاته تعبير عن السجود له تعالى بنحو من العناية الرمزية. ومثل هذه الآية قوله تعالى (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).[23]
وأوضح منهما قوله تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ..)[24] فان الغرض من هذه الآية اثبات أن قلب الانسان قد يكون أقسى من الحجر وليس ذلك بالطبع قساوة طبيعية كما في الحجر فان المراد بالقلب روحه الذي يقسو بالمعصية وارتكاب الآثام والجرائم فهذا تشبيه للقساوة المعنوية بالقساوة الجسمية وهو تشبيه بعناية أدبية هي أنه كما أن الحجر صلب لا يؤثر فيه شيء بالقياس الى التراب ونحوه فكذلك قلوب هؤلاء فان المتوقع منها أن تتأثر بأوامر الله تعالى ونواهيه ولكنها لكثرة جرائمها أصبحت قاسية لا يؤثر فيها ما يؤثر في سائر القلوب. وفي بيان كون قلوبهم أقسى ذكر أن الحجر ربما يلطف فتتفجر منه الانهار اويشقق فيخرج منه الماء وهذا يحدث بصورة طبيعية ولا ينافي قساوته ولكن التعبير الادبي يصوّر ذلك وكأنه صفة اختيارية تدل على لطافته الطبيعية ليترتب عليه كون قلوبهم أقسى من الحجارة وكما أن التشبيه كان بعناية أدبية كذلك هذا الاختلاف الذي يقتضي شدة القساوة.
والعناية هنا من جهة أن الحجر كسائر أجزاء الكون يستجيب لقوانين الطبيعة ولا يمكنه التخلف وذلك لانه لا يملك ما يمنعه في داخل ذاته من الاستجابة ويدعوه الى العصيان فهو مطيع بصورة طبيعية والانسان ايضا كذلك في مواجهة القانون التكويني مهما عصى وتجبّر ولكن الأوامر الموجّهة الى الانسان لا تختص بالأوامر التكوينية كالحجر بل يوجّه اليه أوامر تشريعية من ربّه وهو يملك في دخيلة ذاته ما يمنعه من الاستجابة ويدعوه الى العصيان الا أن الله تعالى يحذّره من الاستجابة لتلك الدواعي وينبّهه أنها من الشيطان وهو عدوه اللدود فاذا استجاب لها وتكررت الاستجابة قسى قلبه بحيث لا يتأثر من أوامر ربّه أصلا وحينئذ يكون قلبه أقسى من الحجر لأنه يستجيب للأوامر التكوينية طوعا ولا يوجّه اليه غيرها.
ومحل الشاهد هنا التعبير بالهبوط من خشية الله تعالى فهو حسبما نرى سقوط يحدث نتيجة جاذبية الارض تحت تأثير عوامل تزعزع الحجر من مكانه ولكن الله تعالى يعتبر ذلك هبوطا من خشيته والهبوط فعل اختياري والخشية هي الخوف وهو يختص بمن له نوع من الادراك فهل للحجر وغيره من الجمادات والنباتات وكل أجزاء الكون ادراك مجهول لنا؟
ربما يكون كذلك كما ربما يدل عليه قوله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..)[25] فان التسبيح التكويني يفقهه الانسان الا من هو غافل عن حقائق الكون وكذلك قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبيحَه..)[26] فان اسناد العلم بالصلاة الى الطير يستدعي أن يكون لها نوع من الادراك ومع ذلك فلا يمكن الجزم به لاحتمال التأويل في كل ذلك.
وسواء ثبت ذلك ام لم يثبت فان في التعبير عن السقوط الطبيعي بالهبوط عن خشية عناية أدبية سواء قلنا أنه تعبير أدبي عن الاستجابة للأوامر الالهية التكوينية أم قلنا انه تعبير عن الاطاعة والامتثال عن ادراك وذلك لأنه لا يختلف سقوط الحجر من الاعلى عن صموده وعدم سقوطه بل عن اندفاعه الى الاعلى بفعل البراكين مثلا فكل ذلك استجابة لقانون الطبيعة وبالتالي امتثال تكويني لامر الله تعالى فاختصاص التعبير عن السقوط بالهبوط وكذلك التعبير عن تحرك الظل على الارض او تمايل الشجر بالسجود ليس الا لعناية ادبية باعتبار أن الحالة الخاصة تشبه حالة السجود والهبوط الاختياري عن خشية.
وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْميزانَ... المراد من رفع السماء خلقها مرتفعة عن الارض والارتفاع أمر نسبي والسماء بالنسبة الى أهل الارض تطلق على كل ما يظلها فكل ما أظلنا سماء وكل ما أقلنا أرض فيمكن أن يراد بها الكواكب والانجم ويمكن أن يراد بها الغلاف الجوي ويمكن أن يراد بها العوالم العلوية اي ما وراء الطبيعة فالارتفاع حينئذ يكون معنويا.
والميزان في الاصل اسم لآلة معرفة الاوزان ويطلق مجازا على كل مقياس ومعيار والمراد بالوضع الجعل فيمكن أن يكون المراد بالميزان هنا قوانين الطبيعة او الشريعة او العدل او نفس الآلة الحقيقية التي يوزن بها البضائع وقد فسر ايضا بالقرآن الكريم وبالامام الحق وهذا من باب التطبيق. وقد ورد ذكره في قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ..)[27] وفي قوله تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..)[28] والظاهر أن المراد به فيهما الشريعة. والملفت في التعبير المقابلة اللفظية بين كلمتي الرفع والوضع وان اختلف المعنيان فان السماء اذا اريد بها الكواكب والانجم او الغلاف الجوي فالرفع بمعنى الرفع المحسوس واذا اريد بالميزان القوانين التشريعية الالهية فالوضع اعتباري وليس حسيا.
ومهما كان ففي الآية اشارة الى الترابط بين رفع السماء وجعل الموازين سواء الحقيقية منها والمجازية فكأنه تعالى يؤكد للانسان أن خالق الكون هو واضع الشريعة والقانون وهو الآمر بمتابعة النظم والالتزام بالمقاييس الصحيحة ولم يفعل ذلك الا وفقا للمصلحة الكلية في النظام الكوني وفيها تنبيه ايضا على أنه لا يحق لاحد ان يشرّع ويحكم الا خالق الكون كما قال تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)[29] وقد أكد هذا الامر في آيات كثيرة.
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْميزانِ... الطغيان هو التعدي والتجاوز والظاهر أن المراد بالميزان في هذه الآية آلة معرفة الاوزان خاصة او المراد به المصدر اي نفس عمل الوزن و(أن) في قوله (ألّا) يمكن أن تكون تفسيرية وليس تفسيرا لقول بل لفعل وهو وضع الميزان في الآية السابقة. و(لا) ناهية فالمراد أن تفسير هذا الوضع هو النهي عن الطغيان فيه سواء اريد بالميزان في الآية السابقة آلة الوزن فيكون المعنى أن خلق هذه الآلة وهذا الجعل التكويني تفسيره النهي التشريعي او اريد به الشريعة ونحوها فالمراد أن تفسير هذا الجعل التشريعي هو هذا النهي. ويمكن أن تكون (أن) مصدرية ناصبة بتقدير لام التعليل فالمعنى لئلا تطغوا و(لا) حينئذ نافية اي الغرض المترتب على جعل الميزان أن لا تطغوا فيه. والاحتمال الاول أنسب بالجملة التالية حيث ورد فيها الامر باقامة الوزن فيكون عطفا للامر على النهي.
وَأَقيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْميزانَ... القيام هو الانتصاب والاعتدال. واقامة الشيء جعله منتصبا قائما حقيقة او مجازا ومنه اقامة الصلاة بمعنى المحافظة عليها والاتيان بها كاملة صحيحة فاقامة الوزن هو الوزن الصحيح وعليه فقوله (بالقسط) يكون قيدا توضيحيا لبيان أن الوزن الصحيح لا يكون الا بالعدل والانصاف ولذلك فسرت الاقامة بجعل لسان الميزان قائما ولكن لا يختص الحكم بميزان له لسان فهو أعم من ذلك.
والقسط العدل واصله السهم والنصيب فعبّر عن التعدي الى نصيب الآخرين بالقسط وعن اعطاء كل نصيب لصاحبه ايضا بالقسط ولذلك قيل انه من الاضداد قال تعالى (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبا)[30] واختص الإقساط بالعدل فيقال أقسط لمن عدل فقط فكأن الهمزة تفيد السلب كما يقال شكا اليه فأشكاه اي رفع شكواه فالقسط هنا يراد به الجور والاقساط رفع الجور عنه. قال تعالى (وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطينَ).[31]
والخسران اي النقصان فالاخسار هو الانقاص وهذا نهي عن الانقاص في الوزن اذا وزنت البضاعة لغيرك وقد اهتمّ القرآن بهذا الامر تنديدا بما كان يفعله المشركون في الجاهلية وهو ظلم واضح قال تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفينَ * الَّذينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُون)[32] والتطفيف: التقليل. وورد في القرآن التنديد بقوم شعيب لهذا السبب ايضا حيث كانوا ينقصون المكيال والميزان. ويحتمل أن يكون المعنى لا تخسروا ولا تنقصوا ميزان أعمالكم يوم القيامة بالعدوان على الناس وترك الانصاف في مختلف المجالات.
ويلاحظ تكرار كلمة الميزان في ثلاث آيات متتاليات مع امكان الاستغناء عنه بالضمير على افتراض وحدة المعنى اي آلة الوزن وذلك للاهتمام بأمره والتاكيد عليه.
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ... ومن نعمه تعالى وآياته أن جعل الارض لنا قرارا. والوضع في هذه الآية يقابل الرفع في السماء. والمراد به جعلها مسخّرة لهم وذلولا يمشون ويبنون ويزرعون عليها ويحفرونها ويحرثونها ويعبّدونها بالطرق والجوادّ وينبشونها ويستخرجون دفائنها وكنوزها وهم قد خلقوا منها ويعودون اليها فتؤويهم وتستر معايبهم وجيفهم وتحيلها الى مواد مفيدة كما كانت تفعل ذلك بزوائد طعامهم وشرابهم وأثاثهم وهي في كل ذلك هادئة مستقرة لا تمتنع عليهم بشيء ولا تؤذيهم لان خالقها تعالى جعلها ذلولا لهم الا ما يكون منها في مقاطع نادرة من الزلازل وثوران البراكين وفي ذلك ايضا مصالح مخفية لهم وانما يتضررون بذلك نتيجة جهلهم لمواضع الانتفاع وبنائهم في مواضع الخطر. ولا يمكن للانسان أن يعدّ وجوه النعمة في هذه الارض لكثرتها.
واختلف في معنى الانام بالرغم من قلة من تعرض له وأقدم من قال فيه على ما رايت الخليل رحمه الله قال في العين (الانام: ما على ظهر الأرض من جميع الخلق) وقيل ان المراد به الانس والجن بدليل هذه الآية حيث ورد بعد ذكر هذه النعم الخاصة بالانام (فبأي آلاء ربكما تكذّبان) والخطاب للانس والجنّ ولم يسبق للجنّ ذكر فلابد من حمل الانام على ما يشملهم. وهذا الاستدلال لا ينافي ما في العين وانما يردّ على من خصّه بالانس. ولكن الاختصاص بالانس هو الاظهر بملاحظة موارد الاستعمال كقول لبيد (فان تسألينا فيم نحن فاننا - عصافير من هذا الانام المسحّر) وفي المثل (لولا الوئام لهلك الأنام) والمعنى خاص بالانسان، ومنه التعبير عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بسيد الأنام وخير الأنام، ومنه ايضا قولهم (ما في الأنام له نظير) فالذي يقوى في الذهن هو اختصاص هذه الكلمة بالانسان. والظاهر أنه جمع لا مفرد له وحكى ابن دريد في الجمهرة عن الكوفيين أن مفرده (نيم) وروى قول الشاعر (فما ان مثلها في الناس نيم) وقال: ولم يعرفه البصريون. وهذا الشعر ايضا من الشواهد على الاختصاص.
فيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ... يبدو أن هذه السورة وهي عروس القرآن كما في الحديث معنية بالجهة الجمالية من النعم الالهية فمع أن الارض فيها كل ما يحتاج اليه الانسان من مأكل ومشرب وملبس وغيرها الا أنه تعالى خصّ هنا بالذكر ما يتلذّذ الانسان بطعمه او بمنظره فلم يذكر من أنواع الاطعمة الا الفاكهة وهي ما يؤكل للتلذذ لا لسدّ الجوع ولم يذكر من النخل ثمرته التي هي من أغنى الثمار من حيث القيمة الغذائية وهي في نفس الوقت من ألذها طعما وانما أشار الى كون النخل ذات أكمام. والكم ــ بالكسر والضم ــ كل ما يغطي شيئا ومنه كم القميص والمراد به هنا ما يكون فيه طلع النخل فأشار بذلك الى جهة من جهات حسن النخل وبهائه. ومثل ذلك قوله تعالى (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضيد)[33] فتعرض لجمال النخل في طوله وفي طلعه المنضود والنخل من الاشجار المتوافرة لدى العرب وهم معجبون بها.
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ... الحبّ يقال للحنطة والشعير والارز ونحوها كما يقال لبزور الرياحين. والعصف على ما في العين (ما على ساق الزرع من الورق الذي يبس فتفتت) والريحان على ما فيه ايضا (اسم جامع للرياحين الطيبة والطاقة الواحدة ريحانة. والريحان أطراف كل بقلة طيبة الريح إذا خرج عليه أوائل النَّور) والظاهر أنه فعلان من الرِيح وهو الرائحة الطيبة.
ويلاحظ هنا ايضا أن الآيات وان كان الامتنان فيها بذكر الحبّ وهو الطعام المتعارف والاساس للانسان الا أنها اهتمّت ايضا بجهة جمالية فيه وهو كونه ذا ورق جميل وان كان بعد يبسه تعصف به الريح ويعبّر عنه بالتبن الا أنه هنا يُذكر بعنوان ورقه الجميل وأضاف اليه الريحان وهو النبت ذو الرائحة الطيبة. واذا قرئت بالجر فتكون معطوفة على العصف ويراد به حينئذ أطراف الحب اذا خرج أوائل نوره وهو ــ بالفتح ــ زهره فالاهتمام هنا ايضا بجهة جمالية او رائحة طيبة. ولكن بعض المفسرين يقول انه ذكر الحب الذي هو طعام الانسان والعصف الذي هو طعام الحيوان.
ولعلّ السرّ في الاهتمام بالجهة الجمالية هو تنبيه الانسان على أن من آياته تعالى جمال الطبيعة فان الملاحظ الذكيّ يعلم أن الجمال في الطبيعة أمر متعمّد مقصود وليست ظاهرة عفوية يمكن فيها التأويل البارد الجافي الذي يتقوّله أعداء الله تعالى في كل ما يرونه من دقّة في الكون مع أن الهدف المنبئ عن الحكمة بيّن واضح في كل جوانب الكون ولكنهم لهم قلوب لا يفقهون بها.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ... استفهام انكاري بعد تعداد مجموعة من النعم الالهية. والآلاء جمع إلي وإلى وألى: النعم. والتأكيد على كلمة الربّ للايحاء بأن ما أنعم به هو مقتضى ربوبيته ولكن مقتضى العبودية أن تشكروا نعمه لا أن تنكروها وتكفروا بها. والتكذيب قد يكون بانكار كونها نعمة وقد يكون بانكار كونها من الله تعالى.
والظاهر أن الخطاب للجن والانس وان لم يسبق ذكر الجنّ الا أنه في الآية التالية يذكرهم مضافا الى أن سياق الآيات يقتضي أن يكون الجن مخاطبا لانه خاطبهم في قوله تعالى (سنفرغ لكم ايها الثقلان) وفي قوله تعالى ( يا معشر الجنّ والانس..). وقيل انه سبق ذكرهم في قوله تعالى (والارض وضعها للانام) وقد مرّ الكلام حول معنى الانام.
واعترض على ذلك بأن الجن غير مخاطبين بالقرآن وانما الخطاب فيه موجّه الى الانسان فقط. ويردّه توجيه الخطاب اليهم في نفس هذه السورة كما قلنا مضافا الى ما ورد من الآيات التي تدلّ على توجيه التكليف اليهم بل بعث رسل منهم اليهم كما قال تعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتي...)[34] وهذا يدل بضميمة ما دلّ على صرف الجنّ ليستمعوا القرآن في سورة الاحقاف أنّهم مخاطبون بخطاباته بالمقدار الذي يصل اليهم كما أن الانس ايضا كذلك فلا يصل الخطاب الى جميعهم.
وقيل انه خطاب للذكر والانثى من الانس وقيل للمؤمنين والكافرين وقيل انه خطاب للبشر والتثنية للتكرار والتأكيد نحو لبيك وسعديك اي تلبية بعد تلبية وقيل انه من قبيل خطاب التثنية للمفرد وان من هذا الباب ايضا قوله تعالى (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)[35] وكل ذلك تكلفات لا موجب لها ولا مصحح. وقد مرّ في تفسير سورة ق ما هو الصحيح في الآية المذكورة. هذا مضافا الى أن مجرد امكان تقسيم الجمع المخاطب الى فريقين لا يبرر خطاب التثنية فاذا كان الانسان يخاطب جمعا يشمل الرجال والنساء لا يصح أن يخاطبهم بضمير التثنية. وهذا الاشكال يرد حتى على تقدير ارادة الجن والانس. وقد مرّ آنفا خطابه تعالى الثقلين في سورة الانعام بنفس العنوان مع الاتيان بضمير الجمع.
ومن الملفت أنه في نفس هذه السورة بعد أن ورد الخطاب بضمير الجمع للجن والانس عاد فأتى بضمير التثنية في نفس الخطاب قال تعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطان * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ). وهذا يدل على أن للتثنية شأنا في هذه السورة وقد مر التنويه على التعبير الازدواجي في هذه السورة والمقارنة بين شيئين متناسبين. ومن هنا لا يبعد أن يقال ان تغيير الضمير في هذا الخطاب ولو بملاحظة امكان تصنيف المخاطبين الى فريقين انما كان بملاحظة اتسام السورة بطابع التثنية ورعاية وحدة القوافي في الآيات ولذلك أتى بالتثنية في موارد لا بد من تأويلها كالمشرقين والمغربين والجنتين في موردين وأن للفاكهة في الجنة زوجين كما سيأتي الكلام حول ذلك ان شاء الله تعالى.
ومن جهة اخرى التثنية ليست دائما بمعنى تحديد العدد بل تأتي كثيرا ما لتدل على التكرار والمضاعفة وهذا وارد في الكلام المتعارف ايضا كما يقوله الشعراء كثيرا من خطاب (خليليّ) ولا يقصد بهما شخصان معينان ولا شخص واحد فلعل القصد بالتثنية تكرار الخطاب لكل من يسمع او يقرأ. ومن هذا القبيل قول امرئ القيس (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل).
وفي الكتاب العزيز امثلة لذلك كقوله تعالى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)[36] ولا يقصد به التثنية اذ لو ارجعت البصر آلاف المرات لم تجد في خلق الرحمن فطورا. وقوله تعالى (أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ..)[37] اذ الاجر يؤتى يوم القيامة اضعافا مضاعفة ومثله قوله تعالى (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ..).[38] ومنه التعبير بالضعفين كما في قوله تعالى (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ..)[39] اذ لا يراد به التحديد قطعا وكذلك قوله تعالى (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ..)[40] وقوله تعالى (رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ..).[41] ومثله ايضا التعبير بالجنتين كما في قوله تعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ..)[42] وكذلك الآية التالية اذ مجرد كون مجموعة من البساتين عن يمين البلد او الطريق وشماله لا يبرر التثنية فهي في الواقع مجموعة من الجنان فالتثنية لافادة التكثر فقط لا التحديد بالعدد.
ومهما كان فقد تكررت هذه الجملة واحدا وثلاثين مرة في هذه السورة للتأكيد على هذا الاستنكار وليدل على أن الغرض منها هو التنديد بتكذيب النعم وفي أشعار العرب موارد كثيرة من هذا القبيل حيث يتكرر في قصيدة واحدة مصرع واحد عدة مرات للتأكيد على مضمون خاص.
[1] الاعراف: 72
[2] الاعراف: 156
[3] الكافي ج1 ص114 باب معاني الاسماء
[4] التوبة: 128
راجع الصحيفة السجادية ص 308 والكافي الشريف ج2 ص557 باب الدعاء للكرب والهم وعيون اخبارالرضا ج2 ص19 والتهذيب ج3 ص95[5]
منها ما رواه الحاكم في المستدرك ج1 ص515 باب دعاء قضاء الدين [6]
الاسراء: 66[7]
الاحزاب: 24 [8]
التوبة: 106 [9]
[10] التوبة: 102
[11] الفرقان: 60
المؤمنون: 12- 14[12]
التين: 4[13]
الحجر: 29[14]
الاعراف: 11[15]
ص: 75[16]
عبس: 17[17]
البقرة: 31- 33[18]
الانعام: 96[19]
الحج: 18[20]
الرعد: 13[21]
النحل: 48[22]
الرعد: 15[23]
البقرة: 74[24]
الاسراء: 44[25]
النور: 41[26]
الشورى: 17[27]
الحديد: 25[28]
الانعام: 57[29]
الجن: 15[30]
الحجرات: 9[31]
المطففين: 1- 3[32]
ق: 10[33]
الانعام: 130[34]
ق: 24[35]
الملك: 4[36]
القصص: 54[37]
الاحزاب: 31[38]
البقرة: 265[39]
الاحزاب: 30[40]
الاحزاب: 68[41]
سبأ: 15[42]