مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ... (دون) يأتي بعدة معان والذي يناسب المقام أحد المعنيين: القرب اي كون الشيء أقرب من شيء والثاني التحقير وكون شيء أخس من شيء وأحط قدرا وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) أن تلك الجنتين أعلى قدرا فخص الله به السابقين المقربين من عباده الذين يخافون مقام ربهم وهاتان الجنتان دونهما في المنزلة والقرب لدى الله تعالى وخصهما باصحاب اليمين حسب تعبير سورة الواقعة والابرار حسب تعبير سورة الدهر والمطففين.

وقيل ان هاتين كالاوليين لمن خاف مقام الرب تعالى الا أن هاتين أقرب اليه من الاوليين فكونهما دونهما من جهة الاقربية. وهذا بعيد جدا بل غير صحيح اذ لم يفرض لاهل الجنة مكان ومسكن غير الجنة حتى يكون له جنتان قريبتان منه وجنتان بعيدتان. ولو فرض كونه ساكنا في هاتين والاوليين بعيدتان عنه يذهب اليهما لتغيير المكان حتى لا يمل الجنة كما قالوا فلماذا اختار الادون من حيث الصفات ولعله لذلك ادعى بعضهم أن هاتين أعلى منزلة وقدرا من حيث الصفات المذكورة وسنقارن بينهما في ما يأتي ان شاء الله.

والصحيح الذي لا ريب فيه أن الله تعالى لا يبخل على عباده الصالحين الذين استحقوا الجنة بالاشجار والعيون والفواكه والفرش والسرر والحور العين فهو لم يبخل على خلقه في الدنيا مع كفرهم وعنادهم فكيف يبخل على أهل الجنة؟! وانما الغرض بيان اختلاف درجات القرب لديه وانما بيّن ذلك بالتنبيه على اختلاف انواع النعيم ليدرك الفطن أن كل ذلك تعبير عن نعيم فوق هذه الاوصاف لا تصل الى كنهه أذهاننا المأنوسة بنعيم الدنيا التافه.

وليلاحظ بهذا الصدد قوله تعالى في سورة الدهر (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجيرا * يُوفُونَ بِالنَّذْر..)[1] فشراب الابرار يمزج فيه الكافور وهو من عين يشرب منها عباد الله خالصا بل هم يفجرونها تفجيرا حينما يوفون بالنذر فهي من صنعهم.

ويقول تعالى ايضا عن الابرار في سورة المطففين (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) الى ان يقول (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)[2] وفي هذا المعنى آيات اخرى لا بد من التأمل فيها.

فبأي آلاء ربّكما تكذّبان...

مُدْهَامَّتَانِ... صفة للجنتين او خبر مبتدأ محذوف كما مر نظيره والمدهامّة اسم فاعل من ادهامّ اي علاه السواد ويقال ان الدهمة بضم الدال في الاصل من الغشيان في ظلام الليل كما يقال دهمهم الجيش اي غشيهم ليلا ثم استعمل في ظلام الليل بالذات ثم في كل سواد. والغرض في الآية بيان شدة خضرتهما او كثرة الشجر فيهما واصل اطلاق الجنة ايضا بهذا الاعتبار حيث تطلق على المكان الذي يستره الشجر لكثرتها. وقد وصفت الجنتان الاوليان بانهما ذواتا أفنان وقلنا ان الافنان بمعنى التشعبات فالمعنى أن الجنتين يتشعبان الى جنان او جنائن وحدائق متعددة ولاريب أن هذا التوصيف أعلى قدرا من كونهما شديد الخضرة.

فبأي آلاء ربّكما تكذّبان...

فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتانِ... النضخ فوران العين وهو أشدّ من النضح بل الظاهر أن النضح يطلق على ترشح الماء ايضا ففي كتاب العين (الجرة تنضح بالماء اي يخرج الماء من الخزف لرقتها. والجبل ينضح إذا تحلب الماء من بين صخوره‏). والعيون تختلف فهناك عيون تفور بالماء ولكن لا يتجاوز حدّها وهناك عيون تجري منها الانهار فالغرض من هذا التعبير بيان الفرق بين المقامين فالعينان في هاتين الجنتين تفوران فقط وفي الاوليين تجريان وهذا كما ذكرناه مجرد تعبير عن الفرق بين مقامات القرب لدى الله تعالى والا فالانهار تجري تحت كل جنة من جنان الآخرة وقد امتلأ الكتاب العزيز بذكر هذا الامر.

فبأي آلاء ربّكما تكذّبان...

فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ... من الواضح أن هذا التعبير يدل على كون هاتين الجنتين أقل منزلة ورتبة فهناك من كل فاكهة زوجان بل ازواج على ما بينّاه وهنا فاكهة مبهمة ونخل ورمان. وقد حاول بعض المفسرين أن يثبت أن هذا أعلى درجة مما ذكر هناك وهذه المحاولة لا تليق بمن يفهم اللغة العربية.

ومثل هذا الاختلاف ورد في سورة الواقعة حيث ذكر في نعم المقربين (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ)[3] وفي نعم أصحاب اليمين (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ)[4] والفرق واضح ولكن الذي لا ينبغي أن يغفل عنه كما قلنا أن النعم المادية هناك متوفرة للجميع بكل أنواعها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت والله تعالى لا يبخل على المتقين بشيء من ذلك انما الاختلاف في درجات القرب لدى الله تعالى وهذه هي الجنة الحقيقية. ولا يمكن في ذلك أن يتساوى الناس. وكيف يمكن أن يتساوى من ضحى بكل شيء في سبيل الله تعالى ومن اقتصر على أداء الواجبات وترك المحرمات؟! فهذا بعيد عن عدله تعالى وحكمته بل غير ممكن.

فبأي آلاء ربّكما تكذّبان...

فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ... (خيرات) مخفف خيّرات بالتشديد اي ذوات الخير. والخير كل ما هو مرغوب فيه فهناك خير نسبي وهناك خير مطلق والظاهر هنا أن المراد كونهنّ خيّرات من كل الجهات المطلوبة في الزوج. والحسان جمع حسناء. وورد في رواية أنهن خيرات الاخلاق حسان الوجوه.

فبأي آلاء ربّكما تكذّبان...

حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ... حور جمع حوراء اي التي بها حور فقيل هو شدة سواد العين في شدة بياضها وقيل هو شدة بياض الجسم وقيل غير ذلك. ومقصورات بمعنى محبوسات والخيام جمع خيمة قال ابن فارس الاصل فيها الاقامة ومنها الخيمة وهي كما قالوا بيت من بيوت الأَعراب مستدير يبنونه من عيدان الشجر. والتعبير على كل حال يدل على الفرق بين الجنتين من هذه الجهة ايضا فالزوجات هناك قاصرات الطرف بأنفسهن لا ينظرن الى أحد وهنا مقصورات محبوسات وهنّ هناك في الجنة او على السرر والفرش وهنا محبوسات في الخيام وهي تُشعر بحياة البداوة.

فبأي آلاء ربّكما تكذّبان...

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ... مرّ تفسيره ويظهر من تكرار نفس العبارة أن هناك وجوها مشتركة بين المقامين ومنها ما يعود الى كرامة أهل الجنة ككون أزواجهم ممن لم يمسّهنّ قبلهم أحد سواء بالمسّ الجنسيّ او بمسّ الجنّ بمعنى آخر حقيقي او وهمي.

فبأي آلاء ربّكما تكذّبان...

مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ... وهنا ايضا وجه مشترك وهو الاتكاء مما يدل على الترف وعدم الانشغال بغير ما يتلذذ به الروح والجسم. والرفرف اصله من رفّ اي برق وتحرّك والمراد هنا على الظاهر البسط وقيل الوسائد وخضر صفتها وكذلك عبقري وحسان. والعبقري كل فاخر في صنعه نسبة الى عبقر وهو بلد الجنّ حسب أساطير العرب ولذلك ينسب كل شيء نادر اليه وقيل العبقري بمعنى الطنافس وقيل الديباج. وحسان جمع حسناء كما مر. ومن الواضح أن هذا التوصيف دون توصيف متكأ المقربين في الاوليين حيث ان بطائنها من استبرق فكيف بظواهرها فقد ترك توصيفها كأنها فوق التصور مضافا الى حالة المتكئين هناك ودنو الثمار اليهم مع اتكائهم.

فبأي آلاء ربّكما تكذّبان...

تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ... البركة اصلها من البروك بمعنى الثبوت والاستقرار ومنه البِرْكة لمجمع الماء وتستعار البركة للخير الكثير المستقر وصيغة (تفاعل) و(تفعل) لافادة اتخاذ الصفة ونحوها كالتعالي لمن اتخذ لنفسه علوا على الآخرين وكالتلبس بمعنى اتخاذ لباس خاص. ومنه التكبر بمعنى اتخاذ الكبر لنفسه وهو مذموم الا من الله تعالى لان معناه في غيره تعالى انه يتخذ لنفسه كبرا ليس له ويعتقد لنفسه موضعا ومقاما فوق حده واما الله تعالى فهو الكبير المطلق والمتكبر احد الاسماء الحسنى ويطلق عليه تعالى هذا الاسم لان كبره ليس عطاءا من احد بل هو منه فكل ما يفرض كبيرا فهو منحة من الله تعالى واما الله سبحانه فهو كبير بنفسه ومثله التعالي والتعاظم والتقدس ونحوها.

وعلى هذا الاساس فنسبة التبارك اليه تعالى بمعنى انه اتخذ لنفسه الخير الكثير الثابت والمستقر يسبغه على من يشاء ولا يصح هذا التعبير لغيره ولم يرد في غيره في لغة العرب ولا في تعابير الشرع والمتشرعة لان البركة لكل شيء من الله تعالى وليس من نفسه ولذلك ايضا لا يصح التعبير عنه تعالى بالمبارك والمقدس (بفتح الراء والدال) نعم يصح ان يقال اننا نقدّسه اي ننشئ تقديسه كما نسبّحه وننشئ تسبيحه وأما قداسته ونزاهته فهي منه تعالى وليست كقداسة غيره فانها منحة منه تعالى.

والتبارك اسند في مواضع من القران الى الذات المتعالية كقوله تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[5] ولم يرد اسناده الى الاسم الا هنا ولا حاجة الى ما ذكروه من التأويل كالقول بانه من باب الاقحام او المبالغة فان الخير والبركة كله منه تعالى ولكننا نتبرك باسمه لاننا ندعوه باسمه الكريم فبركة الاسم من جهة انه الوسيلة للدعاء وطلب الخير. وقد مر الكلام في وجه الاضافة الى (ربك) في تفسير قوله تعالى (ويبقى وجه ربك) كما مرّ هناك ايضا الكلام حول توصيفه تعالى بذي الجلال والاكرام.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين.

 


 الدهر: 5- 6[1]

 المطففين: 22- 28[2]

  الواقعة: 20[3]

 الواقعة: 32[4]

 الملك: 1[5]