مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

السورة مدنية كما هو واضح من السياق وتسمى سورة عيسى عليه السلام ايضا ومحتواها الحثّ على الجهاد في سبيل الله تعالى والتنديد بالتقاعس عنه خصوصا لمن اظهر استعداده ووعد بالمشاركة. وتحتوي ايضا على الحثّ على اطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وعدم ايذائه ومخالفته مع انه مستغن بفضل ربه عن غيره.

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ... مر الكلام في تفسير الآية في تفسير سورة الحشر والحديد. ولعل مناسبة تسبيح الكون لمحتوى السورة التأكيد على استغنائه تعالى من نصرة الناس لدينه فهو المنزّه عن كل منقصة وحاجة. وهو العزيز اي الغالب ولكنه لحكمته يدعو المؤمنين الى الجهاد لينالوا خير الدنيا والآخرة ولحكمته جعل لكل شيء سببا وطرقا طبيعية ومنها الغلبة على الاعداء فلا بد في تحصيل ذلك من المواجهة والقتال.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ... قيل: انه خطاب للمنافقين وأن المراد بمخالفة قولهم لفعلهم أنهم آمنوا في الظاهر وأبطنوا الكفر والشرك والعداء للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وان التعبير عنهم بالذين آمنوا للتهكم. وهو بعيد والظاهر من التعبير كونه كغيره خطابا لمن آمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولكنه يشمل المنافقين ايضا وانما وصفهم بالايمان لان الايمان ينافي ان يخالف قول الانسان عمله ففي ذلك تعريض لهم اي كيف تقولون ما لم تفعلون مع انكم مؤمنون؟! وقيل في شأن نزول الآية ان رجالا منهم تمنوا في مجالسهم لو ينزل الوحي بأحب الاعمال عند الله تعالى فلمّا نزل الامر بالقتال تقاعسوا عنه وفرّ بعضهم في غزوة احد فنزلت السورة. وهذا لعله اقرب ما قيل في شأن نزول السورة بمقتضى سياق الآيات. وقيل انّ بعضهم ادّعى أنه أبلى في الحرب وفعل كذا وكذا وهو لم يفعل وهو بعيد جدا وقيل غير ذلك مما لا يقلّ عنه بعدا.

ومهما كان فالسياق يدل على أن اللوم الوارد في هذه الآية يتعلق بالجهاد. و(لم) مخفف (لما) و(ما) استفهامية. اي لاي سبب او لماذا تفعلون كذا والغرض التعجيب منه. وظاهر الآية أن اللوم ليس على مخالفة الفعل للقول وعدم الوفاء بالوعد بل على قول ما لا يريد الوفاء به وهو كذب ونفاق. ولكن ورد في بعض الروايات ما يدل على الشمول لخلف الوعد.

ففي الكافي بسند صحيح عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمقته تعرض وذلك قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ).[1]

وفي نهج البلاغة في عهده عليه السلام الى مالك الاشتر رضوان الله عليه (إِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ وَالتَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ وَالْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَالنَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ).

فيمكن القول بان المراد في الآية الكريمة اللوم على مخالفة القول للفعل سواء قصد المخالفة حين القول فيكون كذبا ونفاقا او قصد الوفاء ولكنه لم يف بما قال مع تمكنه منه. ولذلك احتاط سيدنا الاستاد[2] بعدم خلف الوعد احتياطا وجوبيا ولعله لم يفت به لعدم افتاء المشهور به مع كثرة الروايات الظاهرة في وجوبه. ويتحقق الاحتياط بالتعليق على المشيئة ونحوها فاذا وعد ولكنه علقه بقوله (ان شاء الله) مثلا لم يجب الوفاء. ومن الفقهاء من حمل الآية على الامر بالمعروف مع تركه او النهي عن المنكر مع فعله وقال ان مضمونها كقوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ)[3] وهو بعيد لفظا عن ظاهر الآية كما هو غير موافق لسياق الآيات حتى لو لم نعتمد على ما روي في شأن النزول.

كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ... المقت: البغض الشديد. وهو مصدر بمعنى المفعول. وأكّده مع انه بذاته مشدّد بقوله (كبر..) وفاعل كبر (ان تقولوا) اي قولكم ما لا تفعلون وقوله (عند الله) متعلق بالمقت فالوعد بما لا يريد الوفاء به او خلف الوعد مطلقا مبغوض له تعالى بغضا شديدا وعظيما خصوصا اذا كان في موضوع الجهاد في سبيل الله تعالى كما يستفاد من السياق فان التقاعس عن ذلك امر خطير جدا.

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ... الرصّ ضمّ أجزاء الشيء بعضه الى بعض بحيث لا يبقى له خَلَل وفُرَج ومنه الرصاص وهو معدن معروف ومنه ايضا المرصوص من البناء وقيل انه ما صُبّ عليه الرصاص الذائب ليشتد تماسك أجزائه ولا يهتزّ ولا يمكن النفوذ منه. والآية تحدّد مورد اللوم السابق ويظهر منها المراد بما قالوه ولم يفعلوه. وفيها بيان لشرف عظيم للجهاد في سبيل الله تعالى فان الحبّ من الله تعلّق فيها بنفس المقاتلين ولكن بشرط ان يكون الغرض القتال في سبيله تعالى لا في سبيل الوطن او الدفاع عن النفس وان وجب ذلك في بعض الموارد الا ان المناط ان يقصد به التقرب اليه تعالى.

والصفّ جعل كل مجموعة من جنس واحد على خطّ منتظم واحد. وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل اي صافّين او متصافّين ويمكن ان يكون بمعنى اسم المفعول اي مصفوفين لان القائد هو الذي يصفّهم اي يجعلهم متساوين في الموقف. ويتبيّن من الآية أنه تعالى يحبّ ايضا النظم والاصطفاف والتماسك بين الجنود في الحرب. بل لا يبعد أن يكون ذلك اشارة الى أنه تعالى يحب النظم في المجتمع الاسلامي بكل جوانبه ويحب تراصّ الصفوف وتماسكها ايضا في كل المجالات فالمطلوب وحدة الصف الاسلاميّ في مواجهة الاعداء.   ولكن كل ذلك بشرط أن يكون في سبيله تعالى كما قال (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..)[4] فليست الوحدة بذاتها مطلوبة بل ضمن الاعتصام بحبله تعالى.

 


[1] الكافي ج2 ص364 باب خلف الوعد

[2] المرجع الديني الاعلى في هذا العصر سماحة السيد علي السيستاني اطال الله بقاءه

[3] البقرة: 44

[4] ال عمران: 103<