بسم الله الرحمن الرحيم
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
السورة مكية بشهادة المضامين والخطابات الخاصة بالمشركين. وتتعرّض لإثبات الحشر يوم القيامة، وبيان بعض حوادثه، ثم قصص المرسلين عليهم السلام.
والصافّات صفّا... أقسم في الآيات الثلاثة الاولى بجماعات صافّة، ثم جماعات زاجرة، ثم جماعات تالية للقرآن. وصفّا مفعول مطلق يفيد التأكيد على الاتّصاف بالاصطفاف. وهو بمعنى تنظيم شيئين او اكثر على خط واحد. والصافّات جمع صافّة اي الجماعة الصافّة، فالتأنيث باعتبار كون مفردها جماعة. قيل: إنّ المراد بهم جماعات المجاهدين في صفوف القتال، وقيل: جماعات المصلين.
ولكنّ الظاهر أنّ المراد بهم جماعات الملائكة، كما سيتّضح بملاحظة الآيتين التاليتين والعطف بالفاء الدالّ على الترتيب.
وتوصيف الملائكة بالصافّة، إمّا بمعنى أنّهم مصطفّون في الصلاة والذكر والتسبيح، او بمعنى أنّهم صافّون أجنحتهم ــ وهي تعبير عن القوى ــ في تنفيذ أوامر الله تعالى منتظرين لما يؤمرون به، او بمعنى أنّهم مصطفّون تمهيدا لنزول القرآن. وعلى كل حال فهو كناية عن الاستعداد التامّ.
وقد ورد في نفس السورة (الآية 165) حكاية قول الملائكة (وإنّا لنحن الصافّون * وإنّا لنحن المسبّحون). والاقرب من بين المحتملات أنّ الاصطفاف بقرينة ما يليه هو الاصطفاف لنزول القرآن الكريم، كما ذكره جماعة منهم العلامة الطباطبائي رحمه الله.
فالزاجرات زجرا... الزجر هو المنع، او المنع بصوت، والفاء تدل على الترتيب، اي تأتي بعد الجماعات الصافّة. والظاهر أنّ المراد بهم الجماعات من الملائكة الزاجرة المانعة الرادعة للشياطين من أن يغيّروا او يبدّلوا او يسرقوا شيئا من القرآن.
وهذا المعنى قد تكرّر التأكيد عليه في الكتاب العزيز، نظرا الى أنّ المشركين كانوا يقولون إنّ الشياطين يلقون الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بهذه الكلمات، او يتساءلون: ما يمنع من أن يدسّ الشياطين فيها؟ ونحو ذلك من الاقاويل.
وقد ردّها القرآن الكريم في موارد شتى بأنّـه ليس مما يمكن للشياطين أن تتفوّه به، ولا يمكنهم الاندساس في صفوف الملائكة، فمنها قوله تعالى (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطينُ * وَما يَنْبَغي لَهُمْ وَما يَسْتَطيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) الشعراء :210ــ 212، ومنها ما سيأتي من الآيات هنا حول طرد الشياطين بالشهب، وكذلك في مواضع اخرى. ومنها ايضا قوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُون) الحجر: 9، وغير ذلك.
وهناك أقوال اخرى في تفسير الزاجرات، فمنها أنّهم الملائكة التي تزجر عن المعاصي، او تسوق السحاب! ومنها انهم المؤمنون الناهون عن المنكر وغير ذلك.
فالتاليات ذكرا... وهنا ايضا الاقرب ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله من أنّها الجماعات من الملائكة الذين يتلون القرآن على الرسول صلى الله عليه واله وسلم، او ما يعم تلاوة سائر الكتب السماوية على الرسل، او تلاوة الوحي غير القرآن على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.
ومن هنا يتبين الوجه في العطف بالفاء، فانه للدلالة على مراحل ايصال الوحي، فهناك جماعات من الملائكة مصطفّين تمهيدا لنزول الوحي الالهي على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويا له من جلال وعظمة، ثم الجماعات الزاجرة الطاردة للشياطين من ان يقربوا الرسول او الوحي، وبعد ذلك الجماعات التالية للذكر.
وتلاوة الذكر ليست مجرد قراءة للقرآن حتى يتوهّم انها لا تحتاج الى جماعة فضلا عن جماعات، بل إيصال للوحي وهو موجود سماوي الى قلب الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلّم، وهذه عملية مهمّة صعبة، ولعله لذلك كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يشعر بثقل، بل يثقل جسمه واقعا ــ على ما في الروايات ــ فاذا كان على دابّة لم تتحمل ثقله، وكان يتصبّب العرق منه حتى في الشتاء، بل كان يغشى عليه من ثقل الوحي، وفي ذلك بحث سيأتي ان شاء الله في تفسير قوله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقيلاً) المزّمّل: 5.
ثم انّ ذلك لا ينافي كون الملك النازل بالوحي هو جبرئيل عليه السلام، فانّه هو الرسول الكريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثَمَّ (اي في صفوف الملائكة) امين (على الوحي) ولكن تحت امره جنود مجندة من الملائكة، فالفعل كما ينسب اليه ينسب الى الملائكة الاعوان ايضا، كما قال تعالى: (في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدي سَفَرَةٍ * كِرامٍ بَرَرَةٍ) عبس: 13ــ 16.
إنّ الهكم لواحد... هذا جواب القسم. والخطاب للبشرية. والاله اي المعبود. والبشر انما يعبد من يخاف عقابه ويرجو ثوابه. وقد انحرفت الوثنية عن الفطرة الالهية فاعتبرت لنفسها آلهة، آلهة تؤثر في الخير وآلهة تؤثر في الشرور، وعكفت على عبادة هذه الآلهة المزعومة، فبعث الله المرسلين وأرسل الكتب لهداية البشرية وسوقها الى عبادة الله تعالى. وهذا الخطاب المؤكّد بالقسم وبحرف (انّ) ولام القسم يؤكّد للبشر المخاطب بأن المعبود واحد لا يتعدد كما زعمت الوثنية بتعدد أسباب الخير والشر، فكل ما في الكون مخلوق للّه تعالى وتحت تدبيره وربوبيته.
وتبين بما ذكر أنّ المراد بالوحدة هنا الوحدة بالعدد ونفي التعدد المزعوم. وليس هذا صفة لله تعالى فهو لا يوصف بالوحدة العددية كما قال أمير المؤمنين عليه السلام (واحد لا بعدد) وانما الواحد صفة للاله اي المعبود.
وربما يتساءل: ما فائدة القسم؟ فانّ من لا يؤمن أنّ الكلام للّه تعالى لا يهمّه أن يشفع الكلام بقسم او لا يشفع به، ومن يؤمن به لا يحتاج الى القسم. والجواب أنّ القسم للتأكيد وتعميق التأثير في نفس السامع، سواء كان مؤمنا ام كافرا، مع أنّ هذه الجملة متعقّبة بالدليل، فليست تحكي عن دعوى مجردة. والدليل الآية التالية.
وقلنا غير مرّة إن القسم في الاصل انشاء ربط اعتباري بين كرامة المقسم به وصحة ما يدّعى اذا كان الحلف لإثبات أمر أو نفيه، وربط بين كرامته والالتزام بما يتعهد به الحالف اذا كان الحلف على تعهد. فحينما يقول الانسان والله كان كذا فكأنه يقول إن صدق كلامي منوط ومرتبط بإعظامي لله تعالى، ولذلك يعتبر الحلف كذبا من المعاصي الكبيرة. وحينما يقول الانسان والله لأفعلن كذا فكأنه يقول: ان التزامي بهذا الوعد منوط بتعظيمي لله تعالى، ولذلك يعتبر المخالفة اثما يستلزم الكفارة.
وأما القسم الوارد في كلامه تعالى فقد قيل انه لا يفيد نفس المفاد بل يفيد التأكيد فقط وذلك لأن أكثر ما يقسم به الله ليس مما له كرامة خاصة لديه تعالى.
ولكن الظاهر أنه لا يشذّ عن القسم المتعارف والله تعالى لا يقسم بكل شيء وانما يقسم بذاته المتعالية وبرسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم وبكتابه المجيد وبالملائكة الكرام وبمخلوقاته في الطبيعة وهي ايضا من حيث استنادها اليه تعالى كريمة ولذلك ورد فيها غالبا العطف بما يشير الى جهة جمال او كمال فيها كقوله تعالى (والشمس وضحاها) وقوله (والليل اذا يغشى والنهار اذا تجلى) ونحو ذلك.
ويبدو أن اختيار بعض الاشياء في القسم من جهة التناسب مع المقسم عليه. ويلاحظ أنه تعالى لم يقسم بأحد من البشر في ما نعلم الا بالرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) الحجر: 72.
ربّ السماوات والارض وما بينهما... السماوات والارض وما بينهما كناية عن كل الكون، إمّا بلحاظ أنّ السماوات عبارة عن العوالم العلوية المجرّدة، والارض عبارة عن عالم الطبيعة ومجموعة الافلاك وتوابعها، وإمّا بلحاظ أنّ الانسان لا يجد في ما حوله الا السماء والارض فيطلق هذا التعبير ويريد كل الكون.
وهذه الآية كالدليل على كون الاله واحدا، وذلك لانّ هذا النظام الكوني يشهد بمقتضى وحدة التدبير والانسجام الموجود في كل اجزاء الكون انّ الربّ المدبّر له واحد، واذا كان للكون ربّ واحد يديره فهو الاله الذي يستحق العبودية، ولا دخل لغيره في تدبير الكون فيتخذ الها.
والآية تنبّه على أنّ ربّ السماء هو ربّ الارض، وانّ النظام فيهما نظام واحد، فهناك ارتباط وثيق مشهود بين تدبير السماء وتدبير الارض، والقسم المذكور ايضا يتناسب معه فانّ دور الملائكة في هذا العرض المتوالي هو دور الربط بين السماوات والارض.
والمراد بما بين السماوات والارض يمكن ان يكون الملائكة المامورين بايصال الاوامر الالهية وتنفيذها في عالم الطبيعة، وبغير ذلك من الاعمال الموكولة بهم، بناءا على ما مرّ من أنّ المراد بالسماوات العوالم العلوية الخارجة عن نطاق الطبيعة، وبالارض عالم الطبيعة الشامل للافلاك كلها، واما اذا اريد بالسماوات الاجرام العلوية فهناك اجسام كثيرة بينها وبين الكرة الارضية.
ورب المشارق... لعل الجمع باعتبار انّ للشمس في كل يوم مشرق على افق كل بلد، ويتغير تدريجا حسب ايام السنة. والتعرّض لهذا المورد بالخصوص من بين ما اشتملت عليه السماوات والارض من مظاهر الربوبية من باب ذكر نموذج من النظام الموحد في الكون، وهو مثال واضح تتجلى فيه الدقّة المتناهية، فان اختلاف المشارق في كل يوم يتبع نظاما دقيقا لا يتغير طيلة القرون المتمادية، وهو ايضا يربط نظم السماء بنظم الارض، ولكن بمعنى اخر فهو نظام مترابط بين الكرة الارضية وجرم من الاجرام السماوية وهو الشمس.
<