مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

 

بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)

 

بل عجبت ويسخرون... خطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهو اضراب عن الاستفتاء، اي لا تستفتهم، فلعله اشارة الى عدم الجدوى منه او اشارة الى انهم لا يؤمنون بهذاالكلام، وانما الذي يعجب من هذا الخلق انت ايها الرسول، واما هم فانما يسخرون لسماع هذا الحديث. ويمكن أن يكون المراد تعجب الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من تكذيبهم واستهزائهم، نظير قوله تعالى: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفي‏ خَلْقٍ جَديد..) الرعد: 5. وقوله (ويسخرون) جملة حالية اي عجبت في حين أنهم يسخرون اي يستهزئون.

وقرئ عجبت بضم التاء اما بمعنى ان الله عجب من هذه الخلائق، واما بمعنى انه عجب من سخريتهم. وردّ بان الله تعالى لا يعرض عليه العجب فانه ينشأ من الجهل بالحقائق. ولكن لا مانع من انشائه اظهارا لعظمة الخلق ولا يحكي ذلك عن عروض التعجب، كقوله تعالى (فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون: 14. بل ان الآية المذكورة آنفا (وان تعجب فعجب..) تشتمل على انشاء التعجب منه تعالى كما هو مقتضى قوله (فعجب..).

واذا ذُكٍّروا لا يذكرون... اي اذا تليت عليهم الآيات التي تذكرهم بما فُطروا وجُبلوا عليه من الاعتراف بالربوبية للّه تعالى لا يذكرون العهد والميثاق الذي اخذ منهم والمشار اليه بقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) الاعراف: 172. او اذا ذكّروا باخبار الامم السالفة لم يعتبروا ولم يتأثروا.

ونفي الذكر ليس بمعنى أنهم لا يذكرون واقعا بل ينزّل عدم تأثرهم واعتبارهم منزلة النسيان وعدم الذكر اذ لا أثر له فكأنهم لم يذكروا. والاتيان بالمضارع يدل على الاستمرار وأنّ ذلك دأبهم وديدنهم.

واذا رأوا آية يستسخرون... كان القوم يطلبون من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أن ياتيهم بآية معجزة كما أتى به النبيون السابقون، كعصا موسى عليه السلام، وشفاء المرضى على يد عيسى عليه السلام، بل يطلبون آيات خاصة كما ورد في قوله تعالى: (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجيراً) الاسراء: 90-91 الى آخر الآيات.

والآيات كانت تنزل بمنع ذلك، وأنّهم يكفيهم القرآن، وانّ ذلك يضرّهم لانهم سيصرّون على عدم الايمان، ومن سنن الله تعالى انّ اي قوم طلبوا آية خاصة فنزلت عليهم ولم يؤمنوا فانه يعذبهم عذاب الاستئصال كما حدث لقوم ثمود حين طالبوا بناقة تخرج من الجبل على ما روي ثم عقروها فاهلكهم الله تعالى.

ومثله قول الحواريين لعيسى عليه السلام (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) حيث دعا عيسى ربه فجاءه الوحي (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) المائدة: 112 ــ 115. ومع ذلك فكان هناك موارد يريهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم آيات تدل على رسالته.

ومن الغريب ان بعض الكتّـاب ينكر أن يكون للرسول اي معجزة غير القرآن! وممّا أراهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أنّ الحصى سبـّحت بكفّه الشريفة، ومنه شقّ القمر، ومنه اسراؤه في ليلة واحدة الى بيت المقدس ورجوعه الى مكة، ومنه اخباره عن الغيب كاخباره بما رآه في بيت المقدس ليلة الاسراء، وبما رآه في طريقه من القافلة، واخباره عن مجيئهم وحالتهم، ومنه استدعاؤه الشجرة ان تحضر امامه فحضرت بكيفية غريبة كما ورد في كلام امير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، ومنه شفاء المرضى، والاستسقاء بوجهه الكريم في صغره وبعد بعثته، ومنه ما حدث يوم الغار، ومنه احاديثه الغيبية، وهي كثيرة جدا وغير ذلك مما تواترت به الاحاديث. ولكن القوم ما كانوا يواجهون كل هذه المعجزات الا بالسخرية والاستهزاء.

والاستسخار مبالغة في السخرية، ولعله يفيد معنى آخر زائدا على اصل السخرية وان قال في المجمع انهما بمعنى واحد، اذ يمكن أن يكون المراد طلب السخرية من الاخرين كما هو مقتضى صيغة الاستفعال، فان السخرية تارة تكون من الفرد نفسه وتارة يسخر ويحاول اثارة الاخرين للسخرية، كما هو دأب العاجزين من مقابلة المنطق بالمنطق.

وقالوا ان هذا الا سحر مبين... وهذا غاية توجيههم للآيات والمعاجز. سحر مبين اي سحر واضح، مع ان السحر ليس الا تخييلا ولا يمكن ان يؤثر في الواقع ويشفي المرضى مثلا.

أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون... استفهام انكاري. ولعل عطف العظام باعتبار ان بعض العظام ربما لا تنقلب ترابا او تبقى مدة طويلة. وهذا استغراب متكرر من الكفرة طيلة التاريخ البشري وقد تكرر ذكره وردّه في القرآن الكريم. وتكرار الاستفهام في قوله (أانا لمبعوثون) لتأكيد الانكار.

أوآباؤنا الأولون... يظهر من عطف الآباء الاولين أنّ منشأ الاستغراب طول الزمان لا اصل الاعادة اذ لو كان لاصل الاعادة لم يكن فرق بين الآباء والابناء. والخبر محذوف في هذه الجملة التالية اي أوآباؤنا الاولون مبعوثون ايضا مع بعد عهدهم، ويحتمل أن يكون (آباؤنا) عطفا على اسم (إنّ) في (أإنا لمبعوثون) فلا حاجة الى تقدير الخبر.

قل نعم وانتم داخرون... دخر: ذلّ. والدخور: الذل. امر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أن يجيبهم: نعم تبعثون وانتم صاغرون أذلاء. ولعلّ هذا التحقير في مقابل ما مرّ من الاشارة الى عجبهم واستكبارهم في قوله تعالى (فاستفتهم أهم أشد خلقا..).

فانما هي زجرة واحدة فاذا هم ينظرون... الظاهر أن الفاء جواب لنهي مقدر اي لا تستغربوا فانما هي زجرة واحدة. والضمير (هي) يعود الى البعث اُنّث بلحاظ الخبر، وحمل الزجرة على البعث لانها سببه، والزجر: المنع والطرد والانتهار. وفي المفردات: الطرد بصوت. والمراد بالزجرة هنا الصيحة التي تلازم الزجر.

و(ينظرون) يحتمل ان يكون بمعنى النظر او الانتظار. والغرض بيان ان البعث لا يحتاج الى شيء الا صيحة واحدة فيجدون انفسهم بغتة قائمين ينظرون نظرة اندهاش، او ينتظرون مستقبلهم الغارق في الظلام.

والغرض من هذه الايات تصوير يوم القيامة وبعض ما يحدث فيه من الحوادث والمخاصمات لا الاستدلال على امكانه.

وقالوا ياويلنا هذا يوم الدين... هذا حديثهم يدعون بالويل والثبور لحظة القيام ومشاهدة الموقف، حيث يتذكرون ما قاله الرسل، ويعلمون انه الحق، وانّ هذا هو يوم الجزاء. والويل: ندبة وتفجع بحلول الشر. والدين: الجزاء.