وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقينَ (125) اللّه رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللّه الْمُخْلَصينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرينَ (129)سَلامٌ عَلى إِلْياسينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنينَ (132)
وان إلياس لمن المرسلين... وقع الكلام في التفاسير في أنّ إلياس هل هو ايليا احد الرسل الذين ارسلوا الى الشام، او انه الخضر، او انه إدريس، او غير ذلك؟
وهذا البحث لا طائل تحته، ولا مستند لهذه الاقاويل، وليست منسوبة الى معصوم، ويكفينا ما اهتمّ به القرآن الكريم، فإلياس عليه السلام بهذا الاسم رسول بعثه الله تعالى الى قوم، وهذا هو الفارق بين الرسول والنبي. فالنبي كل من انبئ بالوحي من السماء، والرسول من ارسل الى قوم فيتحمل مسؤولية هدايتهم وامامتهم.
اذقال لقومه ألا تتقون... يظهر من الآية وما بعدها أنّ قومه كانوا يعبدون الاصنام، وانّهم كانوا يعتقدون بالله تعالى كمشركي الجزيرة العربية. ولذلك قال لهم: ألا تتقون. فهذه الجملة لا يخاطب بها من لا يؤمن بالله اساسا، ولكن القوم كانوا لا يقولون بانّ الله هو رب العالمين، ولا يعتقدون انه يكفي عبده، ويعتقدون أنّ هناك اربابا يؤثرون في الكون يضرون وينفعون فكانوا يعبدونها خوفا وطمعا.
اتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين... قيل: إن بعل بمعنى الصنم. وقيل: انه اسم لصنم خاص. ولذلك استدل بعضهم بهذه الآية على ان إلياس عليه السلام ارسل الى بلدة بعلبك، وأن بكّ بمعنى المدينة، وبعل اسم لصنمهم.
ولكن ليس لما ذكر مستند فهو محتمل كما يحتمل ان يكون استنكارا لعبادة الاصنام من دون التعرض لصنمهم الخاص اي اتدعون الاصنام، وتطلبون منها حاجاتكم وتتركون الطلب والدعاء من الله تعالى وهو احسن الخالقين؟!
وهذا استدلال منه عليه السلام على ربوبية الله وحده والوهيته لانه الخالق للكون باحسن وجه حيث كانت الوثنية تعترف بان الله هو الخالق للكون. والمهم في الاستدلال ان الله تعالى خلق الكون بأحسن وجه، بحيث لا يحتاج الانسان في التنعم بنعم الله الطبيعية الى أيّ أحد آخر، فليس في نعم الله وخليقته نقص يحتاج الى إكمال من ربّ آخر.
ولذلك نجد بعض البشر ينكر وجود الله تعالى لانه يجد الطبيعة مستغنية عن مدبر يديرها، وهو وان كان خطأ فادحا الا انه يدل على ان الكون كامل، وانه تعالى اغنى البشر من الرجوع الى غيره، والبحث عن اله غيره، فالانسان يمكنه الوصول الى كل ما يحتاجه من الطبيعة نفسها. وهذا استدلال واضح وقوي جدا.
ولكن هنا سؤالا حول التعبير بأحسن الخالقين حيث يوهم ان هناك خالقا غيره تعالى وانه احسنهم خلقا. وهذا ينافي الاعتقاد بوحدة الخالق الرب جل وعلا.
واجاب بعض المفسرين ان القياس لعله الى ما يصنعه البشر من صور الموجودات فان البشر لا يخلق شيئا بمادته وانما يغير صور المواد فالتركيب الحادث بفعله يعدّ مخلوقا له.
وهذا غير صحيح فلا يصح ان يقاس بالله شيء، ولا يصح ان يقال ان الله خالق والبشر خالق ولكن الله احسن منه خلقا. بل ان ما يصنعه الانسان ايضا مخلوق للّه تعالى حتى الصورة المبتدعة فالانسان يعدّ ما يكون قابلا لافاضة الوجود من الله تعالى عليه فيوجده الله ولا موجد الا هو، بل ان العمل الذي يفعله الانسان ايضا مخلوق للّه تعالى كما قال تعالى: (وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الصافات: 96، ولا يمكن لشيء ان يوجد الا بامره تعالى. بل انّ الارادة التي تتحقق في نفس الانسان حين عمله مخلوق للّه تعالى ايضا لانه خالق كل شيء.
والصحيح انّ الافضلية بالقياس الى اي خالق يفرض، والمراد ان خلقه احسن خلق يفرض، فلا يمكن فرض خليقة افضل مما خلق، فقد خلق الخلق باحسن وجه، واحسن تقويم يتصور.
ومثله ايضا قوله تعالى (خير الرازقين) فالله تعالى هو الرازق لا رازق سواه لان الرزق ليس بمعنى ان ياتيك الله بالمال او الطعام وانت جالس في عقر دارك لا تحرك ساكنا، فانك ان فعلت ذلك متّ جوعا ولم ياتك رزقك، وانما رازقيته تعالى بان جعل لكل موجود حي بصورة طبيعية رزقا على هذا الكوكب، وجعل له وسائل يتمكن بها من تحصيل رزقه، فلكل حيوان في الطبيعة طعام ياكله، وله بصورة طبيعية وسيلة للوصول اليه وتناوله.
ولذلك نجد انه تعالى جعل بعض الحيوانات طعاما لبعض آخر وجعل للآكل وسيلة اصطياده، والله تعالى خير الرازقين لانه جعل لكل مسترزق رزقه في متناول يده بصورة طبيعية، وجعله بحيث يمكنه الوصول اليه بنفسه من دون التوسل بشيء خارج عن الطبيعة، فهو خير الرازقين اي خير كل من يفرض ويتصور كونه رازقا اي أنّ رازقيته على احسن الوجوه المتصورة.
الله ربّكم وربّ آبائكم الاولين... هذا استدلال آخر على وحدة الربوبية في الكون، وذلك لانّ ملاحظة تاريخ البشرية تدلّنا على أنّ ربّ البشر طيلة القرون المتمادية واحد، وانّ ادارة الكون بما فيه البشرية وشؤونها الطبيعية طيلة التاريخ البشري ادارة واحدة متناسقة لا يتدخلها ارادة ربّ آخر، والا لاختلّ النظام ولتغيّر الوضع الطبيعي. فاساس الاستدلال ملاحظة شؤون البشر بما انهم جزء من الكون حيث ان تاريخهم تتناقله الاجيال ويمكن ملاحظته والتامل فيه. ويعبّر تناسق النظم في الكون عن وحدة الربوبية.
وهكذا واجه نبي الله إلياس عليه السلام قومه بالدليل والمنطق ولكنهم قابلوه كغيرهم من المجتمعات البشرية بالتكذيب من دون الاستناد الى منطق وبرهان.
فكذبوه فانهم لمحضرون * الا عباد الله المخلصين... انهم محضرون اي يؤتى بهم قسرا يوم القيامة ليجازوا على تكذيبهم، ولا يستثنى منهم احد الا عباد الله المخلصين.
والوصف (المخلصين) اذا قرئ بكسر اللام كما لا يبعد على ما قدمنا في تفسير الآية 40، فالظاهر ان المراد الذين اخلصوا عبادتهم للّه تعالى بمعنى انهم لم يشركوا به ولم يعبدوا غيره، وليس بمعنى الاخلاص الكامل الذي لا يكون الا عند الاوحدي من المؤمنين، بل ربما لا يكون الا عند المعصومين، فان الانسان له دواع اخرى من عبادة الله تعالى وان كان ربما يغفل عنها او تكون دواع ثانوية وتبعية.
واذا قرئ بالفتح كما هو الموجود في المصحف الحالي فلا يمكن حمله على من اخلصه الله تعالى لنفسه كما مر هناك ايضا اذ المستثنى من الاحضار قسرا يوم القيامة من امة إلياس هم من آمنوا به لا المعصومين. وعليه فلا بد من حمله على من اخلص الله تعالى قلبه للايمان فوفّقه لنبذ الشرك وعبادة الاوثان.
وتركنا عليه في الآخرين... مر الكلام في هذه الآية.
سلام على إلياسين... وقع البحث في انه لماذا ابدلت الكلمة من إلياس الى إلياسين؟
واجيب عنه بان الكلمة يمكن ان تلفظ بالوجهين بل ربما يكون التلفظ في لغتهم مختلفا عن التلفظ في العربية. وهناك له نظائر كطور سيناء وطور سينين، فيمكن ان يكون الياسين لغة في إلياس.
ولكن ورد في حديث ان القراءة الصحيحة آل ياسين، ويؤيده ان الخط القرآني في بعض المصاحف فصل بين ال وياسين. و لكن الخطّ القرآني لا يمكن الاستناد اليه في مثل ذلك لانه لا يتبع نهج الخط العربي المتداول.
ويبقى الكلام في المراد بآل ياسين، فقيل: انه ايضا لغة في إلياس. وهو بعيد. وورد في الحديث أنّ المراد آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان ياسين اسم من اسمائه وكذلك طه.
ولكن هذا الامر غير ثابت ولعل منشأ القول هو الجملة التي تلي هذه الحروف، ففي سورة يس ورد (انك لمن المرسلين) وفي طه (ما انزلنا عليك القرآن لتشقى) فيوهم ذلك ان يس وطه خطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وهناك روايات تدل على ذلك كالمنقول من خطبة الامام زين العابدين عليه السلام (انا ابن طه وياسين). ولكن كل ذلك لا يصل الى درجة الدليل المعتبر والظاهر انها من الحروف المقطعة كسائر موارد هذه الحروف.
ومن جهة اخرى يستغرب ان يذكر كل من ورد ذكره من الرسل هنا بعد الاشارة الى قصته ويسلّم عليه، ويترك ذكر إلياس عليه السلام.
وأغرب منه ان الضمير في قوله تعالى بعد ذلك (انه من عبادنا المؤمنين) يبقى بلا مرجع اذ لو كان المرجع آل ياسين لزم الاتيان بضمير الجمع. اذن فالظاهر أنّ المراد هو إلياس عليه السلام وإلياسين لغة في إلياس.