مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللّه الْمُخْلَصينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللّه الْمُخْلَصينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)

 

وجعلوا بينه وبين الجنّة نسبا... الظاهر انّ هذه الآية ترد فكرا خاطئا آخر سائدا بين الوثنيين وغيرهم، وهو انّ الجنّ لهم ارتباط بعالم الغيب وانتساب الى الله تعالى. والنسب يطلق على اي نوع من الارتباط، وليس بمعنى الانتساب بالولادة خاصّة كما ربما يتوهم.

قال ابن فارس (النون والسين والباء كلمة واحدة قياسها اتصال شيء بشيء) وقال (النسيب الطريق المستقيم لاتصال بعضه من بعض). فالظاهر أن المراد بالنسب اعتقادهم باتصالهم بالله تعالى وقربهم لديه. وهذا هو المناسب للآية التالية التي تردّ على هذا التوهم.

والاعتقاد بانّ للجن سلطة غيبية وانّهم يتصرفون في الكون او في مساحات شاسعة منه بلا منازع اعتقاد سائد بين عوام الناس الى يومنا هذا، بل في كلام الملائكة المحكي في القرآن الكريم انّ اكثر الناس يعبدون الجن (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) سبأ: 41.

وكانوا قديما يراجعون الكهنة للتعرف على الغيب، وكان الكهنة يدّعون انّهم انّما تصلهم اخبار الغيب عن طريق الجن، كما كانت الجنّة ايضا تدعي ذلك. بل كان جمع من البشر يعوذون ويلجأون الى الجن من كل شر، قال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) الجن: 6. ولعل هذا هو معنى عبادتهم لهم حيث انّهم كانوا يطيعونهم خوفا من شرّهم وجلبا لمنافعهم، بل نفس الالتجاء وطلب الحاجة منهم يعتبر عبادة وتذلّلا.

ولقد علمت الجنة انهم لمحضرون... هذه الآية تردّ على كل هذه الاوهام، فالجنّة تعلم وتعترف بأنها مكلفة كالانس، وأنهم محضرون يوم القيامة للمحاسبة والجزاء. ومعنى محضرون أنهم يحضرون قسرا كغيرهم من الانس. والغرض من ذلك بيان أنّهم ليس لهم قرب لدى الله تعالى، ولا يختلفون عن سائر المكلفين.

ولكن جمعا من المفسرين حيث توهّموا انّ المراد بالنسب ليس الا الانتساب بالولادة، وحيث لم يجدوا بين العرب من يقول بانّ الجن اولاد الله او اخوانه مثلا، فتشبّثوا بوجوه غريبة، فالزمخشري في الكشاف فسّر الجنّ بالملائكة لان الجنّ بمعنى المستور فالملائكة صنف من الجنّ.

ثم تساءل: لماذا عبّر عنهم بالجنّ؟ وأجاب بان ذلك للتحقير. ومثّل لذلك بأنّ احدا لو قارن بين ملك واحد خواصه لاعترض عليه بانّك تقرن بيني وبين عبدي، مع انه ليس عبدا له وانما يعبّر عنه بذلك تحقيرا له. وهنا ايضا التعبير عن الملائكة بالجنّ انّما ورد تحقيرا في مقابلة من اعتبرهم بنات للّه تعالى.

وهذا باطل لانّ التعبير بالجن ان كان باعتبار انّ معناه المستور فليس فيه تحقير لهم، بل هو تعبير موافق للواقع. انما الكلام في أنّ الله تعالى لا يعبّر عنهم بالجنّ والقرآن مليء بذكر الملائكة في مقابل الجنّ، ومنها الآية السابقة في سورة سبأ، ومنها قوله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ...) الكهف: 50.

وقال بعضهم: ان من العرب من كانوا يعتقدون أنّ من الجن من أولد للّه الملائكة فكأنّهنّ أزواج الله تعالى عمّا يقول الظالمون. ولكن هذا لا دليل عليه ولم يسمع من احد من العرب فكيف يسند الى القوم بصورة عامة؟!        

سبحان الله عما يصفون * الا عباد الله المخلصين... بعد ان نقل عن المشركين اقوالهم في اعتبار الملائكة بنات للّه وانتساب الجن اليه تعالى نزّهه عن كل ما يصفونه به. والظاهر انّ الاستثناء يعود الى ضمير الفاعل في (يصفون) فالنتيجة انّه تعالى منزه عن كل ما يصفه به الناس جميعا الا عباد الله المخلصين.

وقد مرّ ان المخلصين ــ بفتح اللام ــ وبأحد معنييه، هم من أخلصهم الله تعالى لنفسه بالعصمة والتوفيق، فكل ما يوصف به الله سبحانه فهو منزه عنه لانه نابع من الفهم القاصر لمقامه تعالى، واما ما يصفه به عباده المخلصون الذين لا يصفونه الا بما اثنى به على نفسه واوحى اليهم او الهمهم به فهو الوصف الصحيح الذي ينبغي ان يوصف به الرب تعالى شانه.

وقيل: انّ الاستثناء يرتبط بالآية السابقة (ولقد علمت الجنّة انهم لمحضرون) اما على تقدير أن المراد بالجنة الملائكة وان الضمير في (انهم) يعود الى المشركين والاستثناء منهم او انه من الجنة وهو على كل تقدير استثناء منقطع وجملة (سبحان الله...) معترضة. وكل ذلك تكلف ظاهر.

فانكم وما تعبدون * ما انتم عليه بفاتنين... الخطاب للمشركين. والضمير في (عليه) يعود اليه تعالى. والفاء في أول الجملة لعلها تفريع على ما مر من التنزيه نظرا الى وضوحه لدى اصحاب الحكمة، فالنتيجة الحاصلة من هذا التنزيه الواضح أنكم وما تعبدونه من الاصنام وغيرها لا تفتنون الناس ضده تعالى، ولا تفسدون عليه العباد، نظير ما يقال ان فلانا افسد على فلان ابنه او خادمه، فالاستعلاء هنا بمعنى المضادّة.

ولعل الأولى أن تكون الفاء لتفريع هذا المضمون على استثناء عباد الله المخلصين فيكون المعنى أن الله تعالى منزّه عما يصفه به الناس الا عباده المخلصون، فإنّكم لا تتمكنون من اضلالهم، وانما تضلون من هو صال الجحيم. ومثل ذلك قوله تعالى (..وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصينَ * قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقيمٌ * إِنَّ عِبادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوينَ) الحجر: 39-42.

وينبغي حينئذ أن يكون (المخلصين) بمعنى من أخلص الله قلوبهم للايمان فيشمل عامة المؤمنين لا خصوص المعصومين، او يكون المراد بالفتنة ما يشمل المعاصي ولا يختص بالكفر.

وعطف (ما تعبدون) عليهم من جهة انّ الاصنام وغيرها مما يعبده المشركون تجذب اليها انظار الجهلة بتاثير الدعايات والشعارات فالآية تنفي تاثير كل من الداعين والمدعو اليهم في النفوس التي تسير على النهج الذي رسمه الله تعالى في فطرتها وانما تؤثر في النفوس المريضة التي تبحث عن كل ما يبرر لها فجورها.

ويمكن أن يكون المراد بـ(ما تعبدون) الجن وشياطينهم وقد مرّ آنفا الحديث عنهم وعبادة الناس للشيطان بمعنى اطاعته كما قال تعالى (أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَني‏ آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطان‏..) يس: 60.

والفتنة اصلها الاحراق بالنار وحيث اطلق على اذابة المعادن بالنار لتخليصها من الشوائب اتّخذت معنى كل ما يوجب التخليص، ومنها مشاكل الحياة وكل ما يؤثر في اضلال الناس وافسادهم، لان الناجي من هذه المحن ليس الا القوي صاحب النفس المطمئنة. وبذلك عبر عن كل محاولة لتضليل الناس بالفتنة.

الا من هو صال الجحيم... الصلي هو الاحتراق بالنار او لمس حرارتها المحرقة. والجحيم: النار العظيمة. والاستثناء مفرّغ اي لا تفتنون أحدا الا من هو صالي الجحيم. وقد تشبث القائلون بالجبر بهذه الآية للاستدلال على ان هناك من الناس من قدّر الله له النار فهو مفتون لا محالة.

واجاب عنه الآخرون بانّ المراد من علم الله انه ممن سيصلى النار بسوء اختياره لا من قدّر الله له النار.

والصحيح أن مردّ الكلامين الى امر واحد فتقدير الله هو علمه، الا انّ ذلك لا ينافي انّه يصلى النار بسوء اختياره، فان التقدير ليس بمعنى انّ الله تعالى قدّر له ان يضلّ سواء اراد ام لم يرد، بل قدّر انه سيريد الضلال ويبحث عنه لما فيه من حبّ الشر والبحث عما يسهّل له السبيل.

وما منّا الا له مقام معلوم... التقدير ما منّا أحد الا... وهو حكاية لكلام الملائكة ردّا على المشركين حيث اعتبروا الملائكة بنات الله سبحانه، وهو يستلزم ان يكون للّه تعالى جنس، وان تكون الملائكة من جنسه، وكل ذلك باطل، فالملائكة يعترفون هنا بانّهم عبيد للّه تعالى خلقهم بارادته، وجعل لكل منهم مقاما معلوما ومحدّدا لا يتعدّاه ولا يمكنه تجاوزه، وهو يدلّ على انّ الملائكة ليس لهم تطوّر وتكامل.

وقولهم (وما منا) يوحي بالشمول فلا يشذّ عن هذا الحكم احد منهم. وانما عبّر عن هذه الحقائق بالحكاية عنهم ليكون آكد فانّ اعتراف من يدّعى فيه الربوبية او نحوها بالعبودية للّه تعالى اعمق تاثيرا في نفوس المدّعين.

وانا لنحن الصافّون * وانا لنحن المسبّحون... مرّ الكلام في أوّل السّورة في معنى الصفّ فالمراد اما أنهم صافّون أقدامهم في الصلاة والذكر والتسبيح او صافّون اجنحتهم في تنفيذ اوامر الله تعالى او انهم مصطفون تمهيدا لنزول القرآن. وعلى كل حال فهو كناية عن الاستعداد التام للخدمة، وانهم دائما منتظرون لتلقي الاوامر مستعدون لتنفيذها لا يعصون الله ما امرهم.

والاتيان بضمير الفصل مع التأكيد بـ(ان) ولام القسم يدل على انحصار الصّافين بهذا المعنى فيهم، فليس هناك موجود مستعدّ لأداء الخدمة كالملائكة. وكذلك المسبّحين فهم المسبحون حقا لا غيرهم، فان تسبيحهم لا يشوبه شيء، ولا يشغلهم عنه شيء. وكونهم هم المسبحون يدل بوضوح على رفضهم لما ينسبون اليهم من بنوّة الله سبحانه وتعالى.

وقيل: ان قائل هذا القول هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنون اي انه حكاية لقولهم وانه معطوف على قوله (فاستفتهم) فالتقدير: وقل لهم كذا..

وما تقدّم أقرب الى ظاهر اللفظ.

وان كانوا ليقولون * لو أن عندنا ذكرا من الاولين * لَكُنّا عباد الله المخلصين... (إن) مخففة من المثقلة بدليل ورود اللام على الخبر. واللام لام القسم، اي والله إنهم كانوا ليقولون: لو ان الله تعالى نزّل علينا كتابا وذكرا من قبيل ما نزّل على الاولين اي كالتوراة والانجيل لكنا عباد الله المخلصين ولم نكن نكذّب الرسل كما كذّب الاوّلون.

هكذا كان مشركو الجزيرة يتبجّحون. ومثل ذلك قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً) فاطر: 42. وقوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى‏ طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى‏ مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَة..) الانعام: 156-157.

فكفروا به فسوف يعلمون... اي فلما جاءهم ذكر من قبيل ذكر الاولين بل أسمى وأجلّ كفروا به عنادا وطغيانا، وحسدا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. فسوف يعلمون عاقبة كفرهم وتكذيبهم. وهذا تهديد شديد.