وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * انهم لهم المنصورون * وان جندنا لهم الغالبون... تأكيد على التهديد المبطن في الجملة السابقة (فسوف يعلمون) وهو ينبئ أنّ التهديد يتحقق ضمن المواجهة بين عساكر الكفر وجيش المسلمين، وأنّ الله سينصر رسوله عليهم بالرغم من كثرتهم، وكثرة اموالهم وعتادهم، وذلك لانه قد سبق من الله عهد لعباده المرسلين أنّهم اذا حاربوا جيوش الكفر فانهم لهم المنصورون وانّ جند الله لهم الغالبون.
وقد امتلأ التعبير تأكيدا بتكرار (إن) واللام وتقديم اللام في اول الجملة مع (قد) والاتيان بالالف واللام على الخبر في الجملتين مما يدل على الحصر والاتيان بضمير الفصل (لهم). ومعنى سبق الكلمة أنه من التقدير الأزلي.
ومثل هذه الآيات قوله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) غافر: 51 وقوله تعالى (كَتَبَ الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ) المجادلة: 21.
وربما يتوهم ان هذا الوعد لم يتحقق في بعض الموارد كانهزام المسلمين في غزوة احد وبعض الحروب الاخرى.
والجواب يظهر بالتأمّل في مفاد الآية، فالوعد انما هو في نصرة الرسل لا الأتباع وان حاربوا باسم الدين ما لم يكن بامر الرسول. وهو وعد ايضا بغلبة جند الله، ولم يقل جنود الرسل. وهناك فرق بين العنوانين فاذا خالف جنود الرسول امره يبقون جنوده ولكنهم لا يعتبرون جنود الله سبحانه لانهم خالفوا امر رسولهم كما حدث في احد، فلا حاجة الى توجيه آخر.
ومن يلاحظ تاريخ الرسل وخصوصا تاريخ الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلّم يجد نصرة الله تعالى له واضحة في جميع حروبه ومواجهاته، بالرغم من قلة أتباعه وضعفهم عِدّة وعُدّة، فما حدث في بعض المواجهات له أسباب خاصة، ويعتبر من موارد ابتلائه تعالى للمؤمنين. هذا مضافا الى أن النصرة والغلبة في مقام الاحتجاج مستمرّ الى يوم القيامة للرسل وأتباعهم الحقيقيين.
ومن موارد الابتلاء ايضا ما حدث لأهل بيت العصمة عليهم السلام من الظلم في مواجهة فسقة هذه الامة وجبابرتها، ففيها ابتلاء لهم، وابتلاء للامة جميعا. وهو ابتلاء مستمر الى يومنا هذا، يميّز الله تعالى به صفوف المؤمنين الذين اتّبعوا أمر الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم بشأنهم عمّن خالفوهم.
ويمكن ان يقال ان المراد بالآية ونظائرها انتصار الرسل في النهاية على الكفر ولو بعد قرون فيكون المراد انتصار الهدف الرسالي. وعليه فالآية من الآيات التي تبشّر بظهور صاحب الامر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
فتولّ عنهم حتى حين... تهديد بعد تهديد لتضعيف قوى الكفر وعزيمتهم ولتسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلّم والمؤمنين. وهذا متفرع على الوعد السابق. والتولي بمعنى الاعراض اي اعرض عن ايذائهم وعنادهم لك، وكل ما يتحمله المؤمنون في مكة من الاذى، ولا تهتمّ لهم فان زمان النصر قريب. وقد تكرر الامر بالاعراض عنهم.
وقوله (حتى حين) اي حتى يحين موعد النصر عند المواجهة حيث ينصرك الله تعالى عليهم ويخزهم ويشف صدور قوم مؤمنين. والحين: الوقت. والتنكير للتقليل والتحقير، اي أعرض عنهم الى وقت قليل، فيفيد أن النصر قريب. والظاهر ان المراد به يوم بدر، ويمكن ان يراد به موعد النصر النهائي بفتح مكة.
وأبصرهم فسوف يبصرون... الابصار هو التامل. ومن لطيف التعبير الجمع بين الاعراض والابصار حيث ان الاعراض يقتضي صرف الوجه، والابصار يتوقف على التوجه.
وبعض المفسرين ذهب الى ان المراد ابصارهم يوم الهزيمة، وأنّ الأمر به آنذاك للتعبير عن كونه حتميا فكأنه متحقق حاليا بحيث يمكن ابصاره.
ولكنه لا يناسب التفريع في قوله تعالى (فسوف يبصرون) الدال على ان إبصارهم للهزيمة يتحقق في المستقبل. والظاهر أن المراد أبصر وضعهم الحالي وشوكتهم وغطرستهم وجبروتهم، ولكن لا تهتمّ لهم وأعرض عنهم فسوف يبصرون كيف تتلاشى كل هذه القوة و العزيمة.
أفبعذابنا يستعجلون... قد تكرر في القرآن الكريم أنّ الامم السالفة كانوا يطالبون رسلهم بالعذاب الموعود ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين، وكذلك تكرر نقل ذلك عن كفار قريش. وفي كل ذلك يأتي الخطاب الالهي بالتنديد بهذا الاستعجال، وأنّ الله تعالى يمهلكم لعلكم تهتدون، ولا ينزل عليكم عذاب الاستئصال كما انزل على الذين من قبلكم.
وهذا من غباء الانسان ان لا يعتبر بالعبر ويطالب بما يضيّع عليه كل الفرص. ومن المعلوم انّ هذا العذاب اذا نزل لا يبقي مجالا للتوبة والرجوع.
فاذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين... الساحة: المكان الوسيع. والمراد ما يحوم حول البلد، وهو تعبير ينمّ عن تهديد بهجوم كاسح، كأنّ جيشا من الاعداء سيهجمون على البلد ويضيقون عليهم الخناق في الساحات المحيطة بهم فساء صباحهم آنذاك. وذكر الصباح كان متعارفا في مثل ذلك من جهة انّ الهجوم والغارة كانت تتحقق عادة في الليل.
والتعبير بالمنذرين اشارة الى ان الهجوم كان بسابق انذار فالمهاجم هنا لا يخافكم ولا يخاف استعدادكم للمواجهة او الفرار وينذركم قبل الهجوم. وفي الآية اشارة الى انّ العذاب الموعود في هذه الامة ليس من قبيل العذاب في الامم السالفة من الصيحة والصاعقة ونحوهما بل من قبيل هجوم العدو.
وتولّ عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون... تكرار لنفس الجملتين السابقتين يؤكّد الموضوع بذلك. ولعل في حذف المفعول به في الامر بالابصار هنا حيث لم يقل (وأبصرهم) كما في الآية السابقة اشارة الى ان الامر لا يختص بهؤلاء بل يشمل كل أعداء الرسالة.
ولا يبعد ان يكون المراد هنا التهديد بعذاب الآخرة الشامل لجميع الكفار المعاندين. وقد تكرر في القرآن التهديد بالنوعين، واكثر ما يتحقق من العذاب الموعود انما هو في الآخرة فانا نجد انّ اكثر الظالمين لا ينالون جزاءهم في الدنيا بل يستمرون في ظلمهم وطغيانهم وعنادهم، ويعيشون في الدنيا بكل هناء ورغد وانما يتحقق الوعد الالهي بالعذاب حتما في الآخرة.