مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)

 

وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون... عرض لمخاصمة التابعين والمستضعفين مع الكبراء والزعماء. وقيل: ان المخاصمة المذكورة بين الشياطين وكفار الانس. والسياق يأباه. وقد ورد ذكر ذلك في موارد عديدة من القران الكريم، منها قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) سورة ص: 64، ولعل السبب في هذا التأكيد دفع ما ربما يتوهم من أنّ ما يحكى في الكتاب انما هو عرض تمثيلي، فهذه الآية الكريمة تؤكّد أنّ ذلك لحقّ.

وطبيعة الحال تقتضي ذلك ايضا لأنّ التابع المستضعف الذي كان يعلّق الآمال على ما يلقيه عليه الكبراء، وتؤكّده الدعايات والشعارات، وتلاحقه حتى في عقر داره بكل وسائل التبليغ والدعاية صوتا وصورة، وتتطور بشتّى الطرق، وفجأة يجد يوم القيامة أنّ كل ما كان يسمعه من زعماء السياسة والدين وغيرهما كانت أوهاما وشعارات زائفة لا حقيقة لها، ويجد أنّ هذا الصنم الهائل الذي كان يقف امامه خاضعا متعبدا خرّ صريعا في النار فلا يبقى امامه سبيل يفرغ غيظه الا التنديد بهم والتبري منهم، ولا تبقى له حيلة الا الاعتراض عليهم:

أين هذه الوعود الزائفة؟!

اذا فهذا امر طبيعي، وخصوصا اذا كان الزعيم يدّعي أنّه يهدي قومه سبيل الرشاد كما قال فرعون (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) غافر: 69، وهذا لا يختص بالمشركين وعبدة الاصنام بل يشمل اصحاب المذاهب الباطلة جميعا، وسيأتي قوله تعالى (انا كذلك نفعل بالمجرمين) مما يدلّ على التعميم.

وقوله تعالى (يتساءلون) اي يسأل بعضهم بعضا. والسائلون هم الاتباع، والمسؤولون هم المتبوعون. وليس مضمون السؤال استفهاما، بل هو احتجاج واستجواب واستنكار. وهذا هو الفرق بين هذه الآية وقوله تعالى (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) المؤمنون: 101 فالتساؤل المنفي هناك هو تفقّد كل منهم عن الآخر والسؤال عن حاله حتى في ما بين الاقارب، بل الآباء والامهات واولادهم، او المراد الانتصار وسؤال النصرة.

قالوا انكم كنتم تاتوننا عن اليمين... هذا بالطبع ليس اول سؤال موجه اليهم، فهنا حذف وتقدير. واول سؤال بالطبع هو استنكار ما فعلوه من إضلال وستر للحق ونشر للباطل.

والجواب: انا لم نعمل شيئا انما دعوناكم فاجبتمونا، فتوجّه اليهم الجملة الحاضرة، وهو في الواقع تهرّب عن المسؤولية الملقاة على عاتق التابعين، والقاء لكل الاثم على المتبوعين: انكم كنتم تاتوننا عن اليمين...

ما هو اليمين؟ قيل: المراد به جهة الخير لان العرب تعبر عن الخير باليمين، ومثل ذلك ايضا قوله تعالى: (اصحاب اليمين). وفي مقابلهم اصحاب الشمال، مع ان اليمين والشمال لا يختصان بالخير او الشر الا انّ العرب كانوا يتفألون بالطائر الذي يمرّ على يمينهم ويسمونه السانح، ويتشاءمون به اذا مر على شمالهم ويسمونه البارح.

وعلى ذلك فالمراد انكم كنتم تاتوننا من جانب الخير، إمّا باعتبار أنّهم كانوا يعِدونهم بالخير كالاموال والمناصب ونحو ذلك، وإمّا أنّهم كانوا يدّعون بانهم لا يريدون لهم الا الخير، وانّ ما يدعون اليه خير لهم ولامتهم ولوطنهم ونحو ذلك من الدعايات.

وقيل: إنّ المراد باليمين جانب القوة والقهر، وهذا ايضا تعبير شائع، ومثله قوله تعالى (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) الصافات: 93، فانّ المراد أنّ ابراهيم عليه السلام ضرب الاصنام بقوة، ويصح التعبير حتى لو ضربها بشماله، فالمراد انّكم أتيتمونا من جانب القهر والغلبة. واحتمله الزمخشري. وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله: ان هذا التفسير يناسب ما اجابوا به من قولهم (وما كان لنا عليكم من سلطان).

ولكن لو كان هذا هو المراد لكان المناسب أن يقال (باليمين) لا (عن اليمين) بخلاف الاحتمال الأول فانه يناسب التعبير.  

قالوا بل لم تكونوا مؤمنين... إضراب عن دعواهم أنهم باتيانهم عن اليمين منعوهم من متابعة الرسالة. والظاهر أنّ مراد الاتباع منعهم قهرا او اغواءا من الدخول في صف المؤمنين ظاهرا، وإضراب المستكبرين يقصدون به أنهم لم يكونوا مؤمنين بقلوبهم، وأن عدم تسجيلهم في قائمة المؤمنين يستند الى أمر قلبي اعتقادي، وهذا مما لا يؤثر فيه أحد بالاكراه وفرض السلطة.

ويمكن أن يقال: انهم أضربوا عن دعواهم الاضلال بأننا لم نكن السبب في ضلالكم بل أنتم بذاتكم لم تكونوا مؤمنين، فيكون ناظرا الى كونهم ممن يرفض الايمان بالغيب والتسليم للحق لمجرّد العناد والتغطرس كما هو شأن البيئة الصحراوية.

وقد قلنا في عدة مواضع أن مثل قوله تعالى (هدى للمتقين) او (ذكرى للمؤمنين) ونحوهما يدل على أن هناك فرقا ذاتيا بين من يميل بطبعه الى الايمان بالغيب والاستسلام للحق ومن يأبى التسليم الا لما يحسّ به ويشعر. وعليه فالظاهر أن مراد المستكبرين هنا التنبيه على أن الاتباع ايضا لم يكونوا بطبيعتهم ممن يميل الى الايمان.

وقيل: ان الفرق نشأ من أنهم لم يقولوا لم تؤمنوا بل قالوا لم تكونوا مؤمنين وتسليط النفي على الكون مشعر بأن الايمان لم يكن من شأنهم، فإضراب المستكبرين نشأ من هذه الجهة.

ولكن الظاهر أنه لا فرق بين التعبيرين، نعم لو قيل لم تكونوا لتؤمنوا أفاد هذا المعنى.

وما كان لنا عليكم من سلطان... السلطان مصدر بمعنى السلطة والقهر والقوة. وهذا جواب منطقي واضح جدا وذلك لان الايمان والكفر من شؤون القلب، ولا يمكن ان يكره الانسان عليهما، ولذلك قال تعالى: (لا اكراه في الدين) فجواب المستكبرين لاتباعهم بناءا على ما ذكرنا هو انكم لم تؤمنوا بقلوبكم، ولو كنتم مؤمنين قلبا ما امكننا ان نخرج الايمان من قلوبكم لان الانسان لا يسيطر على قلوب الاخرين مهما اوتي من قوة، فلا الجبابرة والطواغيت يمكنهم ذلك ولا العلماء والمثقفون.

بل كنتم قوما طاغين... أضربوا عن ذلك ايضا. ومفاد الاضراب ان عدم ايمانكم لم يكن بحاجة الى فرض السلطة عليكم لانكم كنتم قوما طاغين. والطغيان هو التجاوز عن الحد. والحدود عيّنها الله سبحانه، والوجدان البشري يرشد اليها في الغالب، فالذي يسمع آيات الله ويراها ويدرك في قرارة نفسه انها حق، ومع ذلك يحجم عن الايمان بها لانه يمنعه من متابعة شهواته طاغ متجاوز على الحدود الالهية.

والظاهر أن توصيفهم بانهم قوم طاغون بدلا من توصيفهم بانهم طاغون من دون توسيط القوم للاشارة الى أن ذلك من مميزات قومهم فالطغيان متأصّل في ذواتهم. 

والطغيان لا يختص بالجبابرة والزعماء فلا يظنّنّ احد انه ليس من الطغاة لانه فقير او مستضعف او من الاتباع، فان افظع الطغيان الطغيان على الله تعالى، والطغيان على الضمير الحي الشاعر، والطغيان على الوجدان والفطرة، وهذا مما يبتلى به كل انسان وان كان في مجتمعه ضعيفا او مستضعفا.

فحقّ علينا قول ربنا انا لذائقون... اي فثبت علينا قول ربنا: (انكم لذائقون العذاب) حذف المفعول ــ اي العذاب ــ للتهويل. والمشهور بين المفسرين أن الضمير المتكلم يعود الى مجموع الاتباع والمتبوعين. وعليه فالفاء يدل على ان ثبوت العذاب عليهم جميعا نتيجة الطغيان المشترك. والجملة المذكورة (انا لذائقون) تحكي الخطاب بوجه اخر وهو نتيجة الخطاب. والمراد ان مناط العذاب مشترك بيننا وهو الطغيان وان كان بعضنا اشد طغيانا. وسيأتي تفسير آخر للآية.

فاغويناكم انا كنا غاوين... الغي هو الضلالة، فمعنى كلامهم اننا أضللناكم لاننا كنا ضالين بانفسنا. وقوله (انا كنا غاوين) تعليل لاغوائهم. وهذا ايضا اشارة الى امر طبيعي واضح وهو ان الغاوي لا يمكن ان يبثّ  في الناس الا الغواية، ولا يتوقع منه غير ذلك. فمعنى الجملة: انكم كنتم ترون انا على باطل وعلى ضلال، ومع ذلك اتبعتمونا فهل تتوقعون منا ان نهديكم ونحن على ضلال؟!

والمراد بالاغواء، الدعوة الى الضلال، فلا ينافي ما مر من نفي مسؤوليتهم عن ضلالتهم.

ومن الغريب ان اكثر من في الارض من الاتباع يرون من المتبوعين الكذب والنفاق، ومع ذلك يتبعونهم لمجرد انهم زعماء او امراء او شيوخ عشيرة او اثرياء او علماء المذهب الذي اتبعه الاجداد ونحو ذلك من الاعتبارات الواهية.

والكلام في فاء التفريع التي صُدّر بها الآية، فانّها تدلّ على أن إغواء الأسياد والمتبوعين لأتباعهم مترتب على الجملة السابقة التي مضمونها استحقاقهم للعذاب مع أنّ استحقاق العذاب متفرع على الغواية كما هو واضح، فكيف انعكس الأمر؟

فقال بعضهم ان التفريع يعود الى ما قبل الآية السابقة، كقوله (بل لم تكونوا مؤمنين) او (بل كنتم قوما طاغين). وعلى هذا الجواب يبقى السؤال عن السر في التأخير مع أنّ النظم يقتضي أن تذكر قبل الآية السابقة او أن تعطف بالواو عليها.

وفي روح المعاني انه يتفرع على حقية الوعيد عليهم باعتبار أن وجوده الخارجي مع كونه متعلقا بهم متفرع على ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أن إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كان بملاحظة ذلك كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الاختيارية لأن الظاهر أنّ رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم.

فان اراد بهذا البيان أنّ الاغواء لا يترتب على نفس استحقاق العذاب بل على ما استوجب الاستحقاق وهو غوايتهم، فان ذلك يعلم من التعليل بجملة (انا كنا غاوين) لا من الفاء التي تدل على ترتب الاغواء على نفس الاستحقاق. وان اراد به أنّ السر في غواية الغاوين وإغوائهم هو قضاء الله تعالى عليهم باستحقاق العذاب كما يظهر من بعض عباراتهم فهو ينافي العدل الالهي ويستلزم القول بالجبر.

وقال في الميزان (ثم قالوا: فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ وهو متفرع على ثبوت كلمة العذاب وآخر الأسباب لهلاكهم فإن الطغيان يستتبع الغواية ثم نار جهنم، (الى ان قال) فكأنه قيل: فلما تلبستم بالطغيان حل بكم الغواية بأيدينا من غير سلطان لنا عليكم (الى ان قال) وبالجملة إنكم لم تجبروا ولم تسلبوا الاختيار منذ بدأتم في سلوك سبيل الهلاك إلى أن وقعتم في ورطته وهي الغواية فحق عليكم القول).

ويبدو في عبارته نحو من التناقض فهو في بدو كلامه يقول إن الغواية متفرعة على ثبوت كلمة العذاب وفي آخر كلامه يقول وقعتم في الغواية فحق عليكم القول.

ويمكن أن يقال كما حكاه في روح المعاني عن بعضهم إن الفاء لمجرد التعقيب من دون ترتب وسببية اي ان الاغواء تحقق خارجا بعد ثبوت كلمة العذاب عليهم بسبب الطغيان فالفاء في الآية السابقة للسببية وفي الثانية للتعقيب. ومثل ذلك قوله تعالى (اغرقوا فادخلوا نارا) فان دخول النار ليس بسبب الغرق.

ويمكن أن يعكس فيقال: ان الفاء في الآية السابقة للتعقيب وفي اللاحقة للسببية بناءا على أن المراد بضمير المتكلم في السابقة خصوص المتبوعين لا المجموع، وثبوت كلمة العذاب على المتبوعين لا يترتب على طغيان التابعين.

ويقوّي هذا الاحتمال استبعاد أن يريدوا بضمير المتكلم انفسهم وخصومهم معا ضمن نفس المخاصمة من دون قرينة واضحة، خصوصا مع اختصاص ضمير المتكلم في الجملة التالية بهم. وبناءا على ذلك فمفاد الآيات أنّ المتبوعين يخاطبون الأتباع: إنّكم كنتم طاغين وكنّــا غاوين، واستقرت فينا صفة الغواية فحق علينا العذاب بسبب ذلك فاتبعتمونا واغويناكم لانّ الغاوي لا يصدرمنه الا الاغواء.