مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللّه يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)

 

فانهم يومئذ في العذاب مشتركون... الفاء للتفريع ايضا، والجملة حكاية كلام الله سبحانه، وأنّ نتيجة ما تقدم اشتراكهم في العذاب لاشتراكهم في ما يستوجبه وهو الطغيان، وان اختلفوا في درجاته حسب اختلاف اعمالهم، كما قال تعالى: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) الانعام: 132. ولا شك أن المضلّين أشدّ عذابا كما قال تعالى (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ..) العنكبوت: 13.

ولعل الوجه في التذكير بهذه المخاصمات التي تدور يوم القيامة بين الاتباع والمتبوعين هو تذكير الاتباع في الحياة الدنيا بما سيحصل لهم من متابعة الغاوين، وانه لا يؤثر في ذلك كونهم اتباعا، وان المتبوعين سيرفضونهم هناك ولا ينصرونهم.

ومن الغريب أنّ البشر حتى المؤمنين منهم لا يتذكرون بهذا التذكير، ولا يتركون متابعة الزعماء بدون مستند ودليل، فتجد قوما من المؤمنين يتبعون طريقة خاصة ابتدعها بعض من يزعمون انّهم علماء، ويرفضون حتى التفكير في كون هذه المتابعة صوابا او خطأ، بل يصرّون على متابعة من يتناسل من متبوعهم وان كان جاهلا !!!

إنّا كذلك نفعل بالمجرمين... الجرم هو القطع، ويقال المجرم لمن اكتسب اثما وخطيئة كانه قطع لنفسه نصيبه من الحياة عن طريق الاثم، ولكن لا يقال ذلك لمن اكتسب امرا اخر وان كان الاعتبار المذكور عاما. هكذا ورد في كتب اللغة.

ويحتمل ان يكون الوجه في التعبير أنّ المجرم يقطع صلته بالمجتمع بارتكابه الخطيئة، ولذلك لا يطلق عرفا الا على من ارتكب اثما فظيعا من وجهة نظر المجتمع ويختلف باختلاف الحضارات. ولعل إطلاقه في القرآن الكريم على خصوص من يرتكب جريمة دينية لانه يقطع صلته بالله تعالى، ولذلك لا يطلق المجرم على كل آثم ولكن لا يختص بالكفار والمشركين، بل يشمل الطغاة ممن يدّعون الايمان بالله تعالى. وعلى كل حال فالآية تدل على أنّ هذه عاقبة المجرمين عامة.

انّهم كانوا اذا قيل لهم لا اله الا الله يستكبرون... تعليل لهذه المعاملة التي يواجهها المجرمون. والظاهر أنّ الآية تحكي عن جملة تقال عنهم يوم القيامة وتخبر عن حالتهم التي كانوا عليها في الدنيا. ولا تخبر عن حادث عابر بل عن حالة مستقرّة كما يستفاد من التعبير بـ(كانوا). ومعنى الجملة أنهم كانوا يرفضون الاعتراف بما تتضمنه كلمة التوحيد استكبارا منهم وعلوّا.

والسؤال أنّهم لماذا كانوا يستكبرون اذا سمعوا كلمة التوحيد ويرفضونها؟ السبب أنها تتنافى مع أهوائهم، وتتنافى مع ما ورثوه من آبائهم، وتتنافى مع ما درّت عليه معائشهم، ومع ما انيطت به علاقاتهم الاجتماعية. قال تعالى حكاية عن ابراهيم عليه السلام: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ الله أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) العنكبوت: 25، فالذي يؤمن بالله الواحد يجب ان يتبع ما ينزل عليه من كتاب، ويخلع عن ذمته طاعة كل احد الا الله تعالى ومن امر الله بطاعته، ولا يؤمن بقانون الا ما أنزله الله سبحانه او نفّذه من أوكل الله اليه الامر.

وهذا لا يتماشى مع طاعة الطواغيت ونفوذ قوانينهم وسننهم كما لا يتماشى مع حرية الانسان في متابعة هواه، ولذلك يأنف الذين يتبعون الشهوات من الخضوع امام هذه الجملة والتسليم لمحتواها حتى لو تلفّظوا بها وأعلنوا ايمانهم.

وهذا الاستكبار مشترك بين الكبراء والتابعين. والاستكبار والتكبر سواء، فالتكبر معناه حسب صيغة التفعل أن يتلبس بالكبر وهو ليس بكبير لان الكبرياء خاص بالله تعالى، والاستكبار بمعنى طلب الكبر والنتيجة واحدة.

والاجرام انما ينشأ من الاستكبار لا عدم القناعة النفسية فربما لا يؤمن احد بمضمون كلمة التوحيد لعدم قناعته فليس هذا هو المجرم، بل المجرم من يحاول اقناع نفسه لئلا يدخله الايمان بها، حتى لو ظهر له الحق طريقا ابلج واضحا يحيد عنه ليتبع هواه.

ويقولون ائنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون... عطف على (يستكبرون). وهذا هو السر في استكبارهم. ويبدو من التعبير وجه اهتمامهم بالاصنام، وهو انها آلهتهم فالاضافة اليهم هو الذي يضفي عليها القداسة، وهكذا الانسان المستكبر لا يتعاظم في عينه الا ما يتعلق به ويضاف اليه وان لم يكن له في حد ذاته ما يوجب الاهتمام به، فهذا شيخ عشيرته، وهذا رئيس جمهوره، وهذا امام مسجده، وهذا نائبه في المجلس التشريعي وهكذا...

وهذا الامر هو اساس الشرك والوثنية فان الصنم هو كل ما تصنعه بيدك ثم تضفي عليه القدسية لمجرد اضافته اليك، وهذا الامر يسري في جوانب كثيرة من الحياة فالذي لم يأمر الله تعالى باطاعته ويعتقد بعض الناس أنه ولي الامر وتجب اطاعته ليس الا صنما صنعوه بايديهم، بمعنى ان شخصيته انما تتقوم بما يضفى عليه من القاب وصفات اعتبارية لا اساس لها.

اذن فاساس استكبارهم في قبال كلمة التوحيد ودعوة الرسول هو الالتفاف حول ما يسمونها آلهتهم، واستيحاشهم من تركها، وترك الاعتقاد بها. وهذا ايضا امر طبيعي لانه اعتقاد آبائهم، ويصعب على الانسان ان يترك معتقد آبائه ويحكم ببطلانها، لانه يستوجب الاعتقاد بانهم على ضلال، والانسان بطبيعة الحال يرفض الالتزام بذلك بالنسبة لآبائه واجداده.

والامر الآخر انهم لا يمكنهم التسليم لقول شاعر مجنون، وهذا من غاية فجورهم وبعدهم عن الانصاف، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم عاش بين ظهرانيهم اربعين سنة لم يقل شعرا بل لم ينشد لغيره، وكان في غاية الرزانة والحكمة لم يجد منه الناس امرا يشينه ويعاب به، ولكنهم حيث لم يتمكنوا من انتقاصه لا في نفسه ولا في محتده رموه بالشعر، ليقولوا انّ ما جاء به من القران انما هو شعر انشده اي كلام تخييلي وليس سردا لحقائق الكون.

ومن غريب أمرهم الجمع بين كونه شاعرا وكونه مجنونا، فالشاعر لا يكون الا عاقلا ذو شعور حسّاس، وقوة متنامية في التعبير عن ما يعرفه او يتصوره، فكيف يكون مجنونا لا يعقل شيئا؟! ولكنه البغض كالحب يعمي ويصم.  

بل جاء بالحق وصدق المرسلين... ردّ وابطال لقولهم، فالقرآن كله حقائق، وليس شعرا وتخييلا. وليس المراد بالشعر كل كلام منظوم بل المراد ما يبتني على التخييل والتاثير على الانسان من طريق التلاعب بمشاعره.

والقرآن يدعو الى التفكر والتدبر والتعقل وشتان بين السبيلين. بل القرآن ينبه الانسان بالحقائق المرّة التي لا يحب ان يسمعها ويحاول التغافل عنها بالرغم من ادراكه لها بفطرته. يتغافل ليفرغ قلبه وباله لمتابعة شهواته وملذاته فان الذي يفكر في الموت وسكراته وما يتعقبه من ظلمات كيف تحلو له الحياة؟! وكيف يمكنه ان يتقلب في خلاعاته ومجونه؟!

واما قوله تعالى (وصدق المرسلين) فيردّ به على رميه صلى الله عليه وآله وسلّم بالجنون مع انّ كل ما اتى به انما هو على غرار ما اتى به الرسل. وهل يمكن رمي كل رسل السماء بالجنون؟! لا شكّ أنّ المنطق السليم يأبى ذلك، وقريش بنفسها كانت تفتخر كذبا انها تتبع سنة ابراهيم عليه السلام. وملاحظة كتب السماء والسؤال عن علماء أهل الكتاب كاف لاثبات أنّ ما اتى به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ليس الا اكمالا لشريعة السماء.

انكم لذائقو العذاب الاليم... جزاءا لتكذيبكم الرسول واتّهامكم اياه. وصدّر الجملة بكلمة ان التاكيدية، ثم اتى بلام القسم على الخبر ليدل على ان هناك قسما في التقدير. ولعل السر في هذا التاكيد ونظائره دفع ما ربما يتوهم ان ما ورد من الوعيد انما هو للتهديد، لكي يصلح الناس شأنهم في الدنيا، كما يتوهمه بعض من يدعي الدين، او يحاول القاءه في اذهان الشباب، او ان ما يقال انما هو عرض تصويري، وتشبيه للحالة النفسية، وسائر ما يقال في تأويل ما صرّح به في كتب السماء، او يتوهم ان الله تعالى ربما يخلف وعده، او يبدّل رأيه فهذه التأكيدات تبطل كل هذه الاوهام.

وما تجزون الا ما كنتم تعملون... يعني ان الله تعالى لا يظلم احدا وانما ترون يوم الجزاء نفس اعمالكم التي صدرت منكم في الدنيا بصورتها الواقعية البشعة الفظيعة وتلك هي النار بحقيقتها.