مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِلَّا عِبَادَ اللّه الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)

 

الا عباد الله المخلصين... قيل انه استثناء متصل على أساس أن الخطاب في الآية السابقة عام للجميع فاستثني منهم المخلصون. ولكن الظاهر انه خطاب لمن يذوق العذاب الاليم فلا يشمل المخلصين فالاستثناء منقطع.

وفيه بعد ذلك احتمالان:

الاول: ان يكون استثناءا من الضمير في (تجزون) من الآية السابقة فان اصحاب النار يجزون ما عملوا او بما عملوا لا يزيد على ذلك، ولكن عباد الله المخلصين ليسوا كذلك فان الله تعالى يضاعف حسناتهم اضعافا مضاعفة. وتدل عليه آيات كثيرة كقوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) المدثر: 38 ــ 39، فاصحاب اليمين غير مرهونين باعمالهموان كانت اعمالهم تعرض ويتنعمون بها ولكن جزاءهم لا ينحصر في ذلك.

الثاني: أن يكون استثناءا من الضمير في (لذائقو) اي ولكن عباد الله لهم رزق معلوم الى آخر الآيات. وهذا الاحتمال أقوى بقرينة الآيات التالية التي بينت وجه الاستثناء وأن عباد الله يتذوقون النعم بدلا مما يذوقه المخاطبون من العذاب.

والعباد على ما في المفردات جمع عابد. والعبيد جمع عبد بمعنى المسترَقّ. ولكن الخليل رحمه الله قال: (العبد الإنسان حرا أو رقيقا هو عبد الله ويجمع على عباد وعبدين. والعبد المملوك، وجمعه عبيد وثلاثة أعبد وهم العباد أيضا. إن العامة اجتمعوا على تفرقة ما بين عباد الله و العبيد المملوكين...).‏

 ويدل على ما قاله الخليل أنّ العباد اطلق في القرآن على قوم كفار كقوله تعالى (بعثنا عليكم عبادا لنا) ومهما كان فالاضافة هنا الى الله تعالى للتشريف والا فكل الناس عباد له تعالى كما قال (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْدا) مريم: 93.

والمخلصين ــ بفتح اللام ــ ربما يختلف معناه عن المخلصين بكسره، فالثاني يقال لكل من اخلص قلبه وعمله للّه تعالى، واما الاول فيمكن أن يختص بمن اخلص الله قلبه او اخلصه لنفسه، وهذا لا يكون الا بعناية خاصة من الله تعالى تستوجب عصمته، ولذلك استثناهم ابليس من الناس الذين يمكنه التاثير فيهم قال تعالى: (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصينَ) ص: 82 ــ 83.

وقد ورد ذكر هذه الكلمة في خمس موارد من هذه السورة هذا اولها، ولا يمكن في بعضها ان يراد بها المعصومون المقربون، ومنها هذا المورد فان الظاهر من باقي الآيات ان المراد بهم الابرار لا المقربون. واوضح منه المورد التالي في الآية 74 (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * الا عباد الله المخلصين) فان المستثنى هنا الذين آمنوا من بين المنذرين لا خصوص المعصومين لينطبق على المخلصين بالفتح.

ومثله ايضا المورد الثالث في الآية 128 (فكذبوه فانهم لمحضرون * الا عباد الله المخلصين) اذ المستثنى من قوم الياس عليه السلام هم المؤمنون به. وكذا المورد الاخير في الآية 169 (لو ان عندنا ذكرا من الاولين * لكنّا عباد الله المخلصين) نعم في المورد الرابع يمكن ان يراد به المقربون حيث يقول في الآية 160(سبحان الله عما يصفون * الا عباد الله المخلصين) بدعوى ان كل ما يوصف به الله تعالى فهو منزه عنه الا ما يقوله المعصومون، وان كان يمكن ارادة المؤمنين عامة ايضا بدعوى انهم لا يصفونه الا بما وصف به نفسه.

وعليه فاما ان يقال: ان المخلصين ــ بالفتح ــ بمعنى من اخلص الله قلوبهم للايمان لا خصوص المعصومين، او يقال: ان القراءة الصحيحة هو المخلصين بالكسر كما يظهر من بعض التفاسير كمجمع البيان حيث فسر هذه الكلمة بالذين اخلصوا عبادتهم للّه تعالى.

اولئك لهم رزق معلوم... التعبير أبهم رزق العباد المخلصين اشعارا بعظمته، او لانّ الالفاظ لا يمكنها ان تعبر عن ذلك الرزق كما ابهمه في مواضع اخرى ايضا كقوله تعالى (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ق: 35، فلم يذكر ما هو المزيد وكأنّه لا يمكن ان يذكر، وأغرب منه انه فوق ما يشاؤون فهذا التعبير يشمل كل ما يشاؤه الانسان من نعم وهو غير محدود بحد، وتطلّع الانسان ايضا غير محدود فما هو هذا المزيد الذي لا يشاؤونه؟

الظاهر انه مما لا تصل اليه افهامهم واوهامهم فهو فوق كل التطلّعات والأماني. وكقوله تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) السجدة: 17، وغير ذلك مما ورد في القران الكريم حول هذا الامر.

ولعل المراد به رضوان الله، كما قال تعالى (وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ) التوبة: 72، او لقاؤه والنظر اليه كما قال تعالى (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) القيامة: 23. وليس المراد الرؤية بالبصر اي الحاسة فان الله ليس جسما ولا يحدّ بحدّ، وانما هو تشرّف معنوي لا يدركه الا أولياء الله تعالى بما أعلمهم اياه. والتعبير هنا يوحي بذلك فإنّ ظاهره أنّ هذا الرزق معلوم له تعالى فقط وليس معلوما لاحد غيره.

وللقوم في تفسير المعلوم أقوال: قال في الكشاف: (فسر الرزق المعلوم بالفواكه (الى أن قال) ويجوز أن يراد رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل معلوم الوقت كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وعن قتادة: الرزق المعلوم: الجنة). وقال بعضهم الرزق المعلوم اي  الذي لا يتخلف عن ميعاده ولا ينتظره أهله.

وملاحظة استعمال الكلمة في القرآن الكريم يبين أنّ المراد به كونه معيّنا عند الله تعالى ومجهولا لغيره قال تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) الحجر: 4، وقال: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) الحجر: 21، وقال ايضا: (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلينَ وَ الْآخِرينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلى‏ ميقاتِ يَوْمٍ مَعْلُوم‏) الواقعة: 49 ــ 50.

والرزق هو العطاء والانعام، وليس فيه معنى الجريان كما في المفردات، كما أنّه لا يختص بالعطاء المحدد بوقت خاص كما في مقاييس اللغة، ولا يختصّ بالاكل كما ذكره بعض المفسرين، بل يدخل فيه كل ما يحتاجه الانسان لبلوغه الكمال المطلوب. وسيأتي الكلام حوله في تفسير قوله تعالى (وفي السماء رزقكم...) في سورة الذاريات ان شاء الله تعالى. 

فواكه وهم مكرمون... (فواكه) عطف بيان للرزق المعلوم. ولا شكّ ان الطعام هناك لا يختص بالفواكه، ولعل تخصيصها بالذكر للاشارة الى أنّ كل ما يأكله اهل الجنة انما هو للتفكه والتلذذ اذ لا يحتاجون الى طعام لسدّ الجوع او لكسب الطاقة.

وقوله (وهم مكرمون) جملة حالية، اي تقدم لهم الفواكه والحال انّهم مكرمون عند الله سبحـــانه. ويا لها من نعمة ولذّة تصغر عندها كل نعم الجنة!! فكيف بما في هذه الدنيا من لذّات يشوبها الخوف والالم، وتتعقبها الامراض والآفات؟! 

في جنات النعيم... ومن نعم الله تعالى عليهم انهم يعيشون في بيئة محبوبة لدى الانسان بطبعه، وهي الجنة اي الشجر الملتف التي تستر الارض، مأخوذ من جنّ الشيء اي ستره، والنعيم بمعنى كثرة النعم فهي جنات تكثر فيها النعم.   

على سرر متقابلين... ومن اكرامهم جلوسهم على السرر الفاخرة، وان بعضهم يقابل بعضا في مجلسهم. ولعل الغرض من ذكر ذلك بيان الجوّ الاجتماعي الذي يعيشونه، وهو جوّ الوداد والوئام قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) الحجر: 47، والتقابل احسن انواع الاجتماع للتخاطب.

يطاف عليهم بكأس من معين... اي انّهم مخدومون يطاف عليهم بالطعام والشراب، وفي مواضع اخرى من القرآن أنّ غلمانا مخلدين يطوفون عليهم بالكؤوس. والكأس على ما قيل لا يطلق الا على الاناء ان كان فيه خمر، وان كان اسما للاناء بقول مطلق. وقيل: ان المراد به الخمر نفسها لانه أفرده مع انّ المطاف عليهم جماعة فلو أراد الاناء لقال (بكؤوس).

والمعين العين التي يجري ماؤها على الارض. وقد ورد في سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم: (وانهار من خمر لذة للشاربين) فالخمر التي يشربون منها عين تجري على الارض بل عيون وانهار، كما انّ العسل واللبن ايضا انهار.

بيضاء لذة للشاربين... قيل: إنّ بيضاء صفة للكأس، ولكن الكأس مذكر. والظاهر انّها صفة للخمر وكذلك ما بعدها. واللّذة ان كانت مصدرا فالاطلاق من باب المبالغة في ايجابها اللذة، وان كانت صفة مشبهة كصعب فيدل على ان ايجابها للّذة ثابت دائمي.

لا فيها غول... الغول هو الهلاك من حيث لا يشعر. وفي هذا اشعار بان الخمر التي يشربها الناس في الدنيا تهلكهم من حيث لا يشعرون، وتقتلهم تدريجا وهم لا يعلمون، وليست كذلك خمر الجنة.

ولا هم عنها ينزفون... يقال نَزَفَ الماءَ اذا نزحه كله، ويقال نزيف الدم او نزيف الدمع اذا كان صبيبا غزيرا، ويقال نُزف الرجل (بضم النون) اذا سكر بمعنى انه نزع منه عقله كله. وخمر الجنة لا تسكر. والتعدية بـ (عن) باعتبار السببية اي لا ينزفون بسببها.

وعندهم قاصرات الطرف عين... الطرف هو الجفن. و يعبّر عن النظر بالطرف لانه يستوجب تحريك الجفون، فالمراد بقصر الطرف على الظاهر انهنّ لا ينظرن الى غير ازواجهنّ فيقتصرن في النظر على ازواجهنّ، وهذه صفة يحبها الرجل في امراته.

ويمكن ان يكون المراد أنّهنّ لا ينظرن الى احد، وهذه ايضا صفة ممدوحة في المراة اما باعتبار أنّ طبيعة المرأة تقتضي ان تكون مطلوبة لا طالبة، او باعتبار أنّ هذا أمر مطلوب لدى المجتمع العربي، او بحسب التقاليد الدينية بوجه عامّ فهي تقتضي أن لا تنظر المراة هنا وهناك بحثا عن الرجل. وهذه ايضا صفة يستحبها الرجال من النساء ان كانوا ذوي غيرة او ذوي ايمان لا كرجال العصر.

والعين ــ بالكسر ــ النساء ذوات العيون الواسعة الجميلة ومفردها العيناء. ومن لطيف التعبير الجمع بين قصر النظر وسعة العين.

وقيل: إنّ قصر الطرف اشارة الى حالة انكسار في الجفون بحيث تشبه جفن السكران المترنّح وان هذا نوع جمال في العين. ولكن الظاهر أنّ هذا لا يعبر عنه بقصر الطرف في اللغة العربية.

كأنّهنّ بيض مكنون... هذه الآية ايضا تمتدحهنّ بعدم البروز للرجال فهنّ كالبيض الذي يصان عن المسّ خوفا من الكسر. والمكنون اي المستور. وهذا يدل على سترهنّ عن الانظار، وهذه ايضا صفة يستحبّها الرجل المؤمن الغيور على امرأته فيمتدح الله تعالى ما كتبه لهم من الازواج في الجنة بأنّهنّ لم يمسّهنّ أحد ولم ينظر اليهنّ أحد.