فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لي قَرينٌ (51)يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ في سَواءِ الْجَحيمِ (55) قالَ تَاللّه إِنْ كِدْتَ لَتُرْدينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْاُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
حديث شيّق يدور بين اهل الجنة لمزيد من التلذذ بنعيمها فان تذاكر النعم وتداول الحديث عنها يزيد في ابتهاج الانسان بها، وهو ايضا من نعم الله تعالى عليهم بل لعله من احسن اللذّات حتى في الحياة الدنيا مضافا الى انه شكر للّه تعالى على ما انعم به عليهم.
فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون... اي يسأل بعضهم بعضا عن امور تخصهم، وبطبيعة الحال لا يتعرضون لما يكدر صفو العيش بل لعلهم لا يتذكرونها اصلا كما قال تعالى (ونزعنا ما في صدورهم من غلّ).
ومن احاديثهم تذكّر ما كان عليه الضالّون في الدنيا، وما كانوا يتبجّحون به ويفتخرون، وما كانوا يقولونه لدى مواجهتهم للمؤمنين من تحقير وتسفيه، ثم ملاحظة ما آلت اليه عاقبة امرهم من العذاب والخزي، فانّ تذكّر ذلك ومقارنته لما غمرتهم من النعم في حد ذاته لذّة وغبطة عظيمة وشفاء لما في صدورهم من حنق وغيظ، فإنّ أهمّ ما يحزّ في نفوس المؤمنين في هذه الدنيا ما يجدونه من تنعّم الكفرة والظالمين، وما يتعقّبه من تبختر وزهو وخيلاء وتفاخر في مقابل اولياء الله تعالى طيلة التاريخ البشري. وانّ الغليل الذي يحدثه ذلك في صدور المؤمنين لا يشفيه شيء الا الانتقام الالهي في الحياة الآخرة. والتحدث بذلك في مجتمع اهل الجنة يزيدهم تشفيّا وابتهاجا.
قال قائل منهم اني كان لي قرين... هذا احد احاديثهم يذكره الله سبحانه في هذه الآيات كمثل ونموذج، وانما يتعرض له بالخصوص لما يحتوي عليه من دروس وعبر. والقرين من كان يعيش قريبا منه فربما يكون صديقا او شريكا او اخا او زوجا او زوجة او استاذا او تلميذا او غير ذلك.
ومهما كان فهو شيطان من شياطين الانس، وأخطأ من توهم أنّ المراد به الشيطان من الجنّ الذي عبّر عنه في القرآن بالقرين، كقوله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) الزخرف: 36، لان الغرض من التذكير بهذه المحادثة المستقبلية انما هو التنبيه على انه سيأتي يوم تضحك فيه أيّها المؤمن من الذي كان يضحك منك في الدنيا، نظير ما ورد في الآيات الأخيرة من سورة المطفّفين، وقد صرّح هناك بأنّ هذا شأن الذين أجرموا.
يقول ائنك لمن المصدقين... التعبير يحكي عن دهاء القرين في وسوسته للمؤمن، وادخال الشك في قلبه، فهو يبدأ بعرض سؤال عليه ولم يسأله هل تصدّق ام لا بل اعتبر المصدّقين جماعة شاذّين، وسأله هل هو منهم ام لا؟ ليثير في نفسه دوافع الإباء. ولم يذكر ما يستنكر منه تصديقه له، وهو مقدّر بيّنه في الجملة التالية اي أإنك لمن المصدقين بيوم البعث والجزاء؟!
أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون... اي محاسبون. والدين هو الجزاء، فهو يقول: هل تصدق اننا ندان ونحاسب بعد ان هلكنا وكنا ترابا؟! والتراب حالة ما بعد كونه عظاما فكان ينبغي ان يقول عظاما وترابا وانما عكس لان بعض العظام قد لا يتحول ترابا او تبقى مدة طويلة، فالمراد انه حتى لو بقينا عظاما فان المحاسبة غير معقولة.
قال هل انتم مطّلعون... يخاطب المؤمن بذلك مجالسيه في الجنة. والاطّلاع يحصل بالرؤية من فوق. ولعل الذي يصحح التعبير بالاطّلاع هو فوقية اهل الجنة اعتبارا، والا فهناك بالطبع فاصل بين الفريقين، بل كل منهما في عالم غير عالم الآخر، ولكن الله تعالى يريهم ما يشاء.
فاطّلع فرآه في سواء الجحيم... سواء الجحيم اي وسطه، ولعل المراد به انّه رآه محاطا من كل جهة بالنار كما قال تعالى (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) الاعراف: 41. والجحيم: النار العظيمة الشديدة التوهّج.
قال تالله ان كدت لتردين... يحلف المؤمن بالله حينما شاهد قرينه في سواء الجحيم انه كاد ان يغويه فيهلكه.
والتاء للقسم، ويقال إنها تفيد معنى التعجب ايضا، فلعلّ اختيارها من جهة تعجّب المؤمن من أنه كيف نجى من الوقوع في ما وقع فيه صاحبه او من البعد بين المصيرين.
و(ان) مخففة من المثقلة فهي للتاكيد. والردى الهلكة. وآخر الكلمة ياء المتكلم اسقطت تخفيفا وبقيت الكسرة.
ولم يظهر من الآية ما يدل على ان هذا الخطاب كان بمسمع من الكافر اذ لا مانع من ان يقول المؤمن ذلك بينه وبين اصحابه وان كان بصورة الخطاب الموجه الى الكافر، ولكن لا يبعد سماعه اذ فيه ايضا لذة للمؤمن وتشفّ وانتقام كما ان فيه عذابا وتانيبا للكافر الذي كان يضحك من المؤمن في الحياة الدنيا ويسخر منه.
ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين... الناس كلهم يحضرون يوم القيامة وليس هناك اختيار لاحد الا ان المؤمن حيث يجد من حين موته انه سيرد على رضوان الله تعالى ورحمته فانه يرد المحشر بشوق ولهفة، ومن المؤمنين من لا يحاسب اصلا، واما الكافر والمعاند فانه يساق قسرا وقهرا الى الحشر والحساب ليلقى مصيره المحتوم وهو العذاب الاليم. والمراد بنعمة الرب الهداية الالهية.
أفما نحن بميتين الا موتتنا الاولى وما نحن بمعذّبين... خطاب من المؤمن لمجالسيه من اهل الجنة وذكر للنعم، ولكن لا يبعد انه بمسمع من الكافر ايضا. والسؤال هنا ليس استفهاما بل هو للتقرير، وذكر ما هو واضح للتلذذ به، فيقول ان نهاية عذابنا كان هو الموت في الحياة الدنيا ثم لا نجد موتا ولا عذابا.
ثم انه لم يذكر الموت الثاني وهو الموت من عالم البرزخ والانتقال الى عالم الاخرة، مع أنّ القرآن قد صرّح بأنّ هناك موتتين (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ...) غافر: 11 اما لانه لم يشعر به كما ورد في الروايات[1] من ان اكثر الناس لا يشعرون بالحياة البرزخية فلا يشعرون بالموت فيها ايضا، واما لانه يقصد بذلك ذكر الموت الذي يوجب العذاب ولم يوجب هذا الموت عذابا له.
وكل ذلك تعريض بالكافر وما يتعرض له من العذاب المستمر، وانه يذوق الموت مرة بعد مرة، وياتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت، وانما يذكر المؤمن ذلك ويتذاكره مع اخوانه ليسمعه الكافر ويتألم به، كما تألم المؤمنون بضحكه واستهزائه في الحياة الدنيا و لم يتمكنوا من الرد عليه في اكثر الاحيان كما قال تعالى (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) المطففين: 34 ــ 36.
وهذا امر طبيعي وردّ فعل من المؤمن بعد ما وجد الحرية هناك فان المؤمن في هذه الدنيا ملجم ــ كما ورد في الحديث ــ اي ان على فمه لجاما لا يستطيع ان يتكلم بكل ما يريد، وهو ملجم من قبل الاعداء غالبا وملجم من قبل نفسه ايضا، لانه يتورّع عن التحدث باللغو وبالاثم، فهو يوم القيامة يفرغ شحنته وغيظه ويضحك من الكافر ويشفي بذلك صدره.
إنّ هذا لهو الفوز العظيم... الفوز هو الظفر بالخير. والفوز العظيم ما يحصل للمؤمن في الآخرة. واما ما يفوز به الانسان من خير في الدنيا فهو مشوب دائما بما ينغصه وعلى اقل تقدير هو مهدد بالزوال.
لمثل هذا فليعمل العاملون... قال جمع من المفسرين: ان هاتين الآيتين من كلام الله سبحانه كتعقيب واستنتاج من نقل هذه القصة المستقبلية. وانما قالوا ذلك لان الامر بالعمل لا يصح ان يصدر في ذلك اليوم اذ قد مضى وقته.
ولكن لا مانع من أن يكون هذا ايضا من تتمة مخاطبة المؤمن لاصحابه بمسمع من الكافر وأنه كما قلنا تعريض وتأنيب للكافر في مقابل ضحكه عليه في الحياة الدنيا حيث كان يستهزئ بعمله الشاقّ وتعبّده وتصدّقه بماله وغير ذلك، فاليوم يؤنّبه المؤمن بانّ الذي كان يجب عليك ان تعمل له وفي سبيله هو بلوغ هذه الحياة الكريمة السعيدة لا ما أتعبت عليه نفسك من لذّة زائلة لا يكاد يعتبر لذّة في قبال هذه النعم الدائمة والسلام الدائم.
[1] في الكافي ج3 ص 235 عدة احاديث بعضها معتبرة بهذا المضمون ( لَا يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ إِلَّا مَنْ مَحَضَ الْإِيمَانَ مَحْضاً أَوْ مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً والآخرون يُلْهَى عَنْهُمْ)