مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

 

إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى‏ وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طينٍ لازِبٍ (11)

 

إنّا زيّـنّـا السماء الدنيا بزينة الكواكب... (الدنيا) مؤنث أدنى من الدنوّ اي القرب. والظاهر أنّ المراد بالسماء الدنيا أقرب سماء الينا، فتدل الآية على انّ كل ما نجده من الاجرام العلوية والكواكب والنجوم انما هي في آخر سماء بالنسبة الينا. ويحتمل أن يكون المراد بغيرها من السماوات العوالم العلوية التي ليست من المادة، وليس فيها كوكب ولا نجم، والعلوّ فيها ليس بمعنى العلوّ الحسيّ بل هو علوّ معنوي.

كما يحتمل ان يراد بها الأجرام الفلكية التي لا نراها لبعدها عنا فلا يصل الينا نورها ولا تعتبر زينة لنا، بل لا شكّ في أنّ بعض ما اكتشفه البشر ايضا بل أكثره لا يعدّ زينة حيث لا نراها بالعين المجرّدة، فالواقع أنّ وراء كل ما نراها من أجرام نيّرة سماوات ومجرّات وأجرام اخرى كثيرة جدّا جدا لا يحصيها الا الله تعالى.

وقوله (الكواكب) بدل عن الزينة. والمراد التنبيه على جانب عظيم من مظاهر الربوبية، وهو الجانب الجمالي في الكون، فإنّ من الواضح أنّ هناك هدفا مقصودا وابداعا مستهدفا في تزيين الطبيعة الخلابة سواء على الارض او السماء. ويقال ان الكواكب انما نجدها زينة على الارض بفعل المجال الجوّيّ المحيط بنا فانه هو الذي يتسبب في تلألؤ الكواكب، ولا نجد هذا الجمال اذا خرجنا من المجال الجوي. فسبحان الله الجميل خالق الجمال ومبدع الزينة الطبيعية البهيجة.

وحفظا من كل شيطان مارد... اي وحفظناه حفظا، فيكون مفعولا مطلقا لفعل مقدر، او هو معطوف على قوله (بزينة) باعتبار المعنى، لانه في المعنى مفعول لاجله، فكانه قال زيّنّا السماء الدنيا بالكواكب زينة وحفظا.

والشيطان ماخوذ من الشطن بمعنى البعد لانه بعد عن رحمة الله تعالى، او بعد عن الحق او الخير، او من شاط يشيط بمعنى احترق لانه مخلوق من النار، قال تعالى: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) الرحمن: 15، والمارد من المرود وهو التجرّد، يقال شاب أمرد اي لا لحية له، ويقال ذلك لكل عاتٍ من الجن والانس لانه تجرّد عن الخير.

والظاهر انّ المراد جعل الكواكب حفظا اي وسيلة للحفظ من كل شيطان مارد كما قال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطين‏..) الملك: 5. وسيأتي الكلام حول ذلك ان شاء الله تعالى.

لا يسّمّـعون الى الملإ الاعلى... (يسّمّعون) في الاصل (يتسمعون) والتسمّع هو الاصغاء، ولذلك تعدّى بـ (الى) والمراد أنّهم لا يمكنهم الاصغاء مهما حاولوا، في اشارة الى ردّ ما كان يظنّه العرب من أنّ الجنّ تأتي بأخبار السماء الى الكهنة، وبذلك يخبرون عن الغيب. ويظهر من قوله تعالى: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَدا) الجن: 9، أنهم كانوا كذلك في زمان ثم منعوا عنه.

وهناك روايات تدل على انهم كانوا يتلقون بعض الاخبار من السماء، ولكن لا يستوعبونها بدقّة فكانوا يخبرون الكهنة، ولكن يظهر فيها الخطأ من جهة عدم استيعابهم، او انهم كانوا يضيفون عليها من انفسهم كذبا لخبثهم، او استنباطا كما يصنعه بعض البشر.

روى الطبرسي في الاحتجاج (وعن ابي عبدالله عليه السلام ــ في حديث طويل ــ واما أخبار السماء فان الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك وهي لا تحجب ولا ترجم بالنجوم، وانما منعت من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله لاثبات الحجة ونفي الشبهة، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها ثم يهبط بها الى الأرض فيقذفها الى الكاهن، فاذا قد زاد كلمات من عنده فيختلط الحق بالباطل، فما أصاب الكاهن من خبر مما كان يخبر به فهو مما اداه اليه شيطانه مما سمعه، وما اخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه، فمذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة.

فقال (اي السائل): كيف صعدت الشياطين الى السماء وهم أمثال الناس في الخلقة والكثافة، وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود عليهما السلام من البناء ما يعجز عنه ولد آدم؟ قال: غلظوا لسليمان لمّا سُخّروا، وهم خلق رقيق غذاءهم التنسم، والدليل على ذلك صعودهم الى السماء لاستراق السمع، ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء اليه الا بسلّم أو بسبب). [1]

وعلى كل حال فهذه الآية تدل على أنّهم لا يمكنهم الاستماع، وهذه الجملة مستقلة وليست جملة وصفية لكل شيطان كما في الميزان، اذ يكون المعنى حينئذ وحفظنا السماء من كل شيطان لا يتسمّع، او لا يمكنه أن يتسمّع، وأمّا من يمكنه ذلك فلا يمنع منه. وهو غير صحيح.

والملأ يطلق على أكابر القوم وعِلْيتهم لأنّهم يملأون العيون عظمة وبهاءا. والملأ الأعلى هم الملائكة، ولعل المراد أكابر الملائكة الذين بيدهم رتق الامور وفتقها، او المراد عالم الملائكة لانّهم كلهم عظماء في الخلق.  

ويُقذفون من كل جانب... جملة معطوفة في مقام التعليل لعدم تسمّعهم. وفاعل القذف الملائكة. ويدلّ ذلك على أنّ الشياطين يستمرّون في المحاولة، ويبدو أنّ المحاولة مستمرّة أبدا حيث اُتي بالافعال بصيغة المضارع. ويدلّ هذا الاستمرار على غاية خبثهم، وعلى غبائهم ايضا حيث لا يتفطّنون الى عدم التمكّن من ذلك نهائيا، وانّهم يقاومون القدرة المطلقة التي لا يمكن أن يقاومها شيء، ولعلّ هذا من وجوه كفر الشيطان مع علمه بانّ الله تعالى هو الخالق البارئ. ومثله بعض جبابرة الإنس. 

دحورا ولهم عذاب واصب... اي ويدحرون دحورا اي إبعادا، فيكون مفعولا مطلقا، او يقذفون لاجل الدحور والابعاد فيكون مفعولا لاجله. ومنه يعلم انهم يحاولون الدخول والملائكة تطردهم بحيث لا يتمكنون من الاقتراب.

وهكذا جنود الشر لا تفتؤ تحاول النفوذ في صفوف جنود الحق والخير، وعلى جنود الحق ان يبعدوهم حتى لا يطمعوا في النفوذ. ويظهر ان الشيطان الاكبر حيث اخرج من السماء واهبط الى الارض لم يزل يحاول العود. ومن غرائب الكون أن الله تعالى أمهله هذا الامهال لا بحسب الزمان فقط بل حتى بحسب مجال العمل وفسحة المطاردة والركض للفساد في الكون.

والواصب: الثابت الدائم. قال تعالى: (وَلَهُ الدِّينُ واصِبا) النحل: 52، فالمراد انهم في نفس الوقت معذبون لا يكاد ينفك عنهم العذاب، او انّ لهم عذابا ثابتا يوم القيامة، كما قال تعالى: (وَجَعَلْناها رُجُـوماً لِلشَّياطينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعيرِ) الملك: 5.

الا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب... الخطف هو الاختلاس بسرعة. فمن الشياطين من يبلغ به الغباء انه يحاول اختلاس الخبر من السماء ليبلغ به الارض، فما يكون من الملائكة الا ان يقذفوهم بشهاب ثاقب. والشهاب الشعلة الساطعة من النار، ووصف بالثاقب لانه يثقب وينفذ في ما يصيبه. وظاهر الآية انّ الملائكة ترمي الشياطين المسترقة بالشهب الثاقبة فتهلكها، وأنّ ذلك من نفس هذه الكواكب والنجوم كما مر.

وقد اشكل الامر على المفسرين حتى انّ بعضهم اكتفى بنقل الاقوال. وذلك لانّ كون هذه الكواكب والنجوم شهبا ترمى بها الجن امر مخالف لما هو معلوم ومشهود حتى قبل الاكتشافات الحديثة، فذهب بعض المفسرين الى لزوم الاخذ بهذا الظاهر وان كنّا لا نعلم حقيقة الحال.

وهذا لا باس به في حد ذاته، ولا يلزم منه اي محذور فهناك كثير من الحقائق العلمية لم تكشف بعد للبشر، وربما لا تنكشف أبدا. والآيات لا تدل على انّ كل ما يرى في السماء من اجرام مضيئة فهي رجوم للشياطين، وانما تدل على انّ بعضها تستخدم لرجمها، وهذا لا دليل على بطلانه حتى يستبعد او يستغرب. ونحن لا نعلم حقيقة الشياطين، وانّها كيف خلقت، وبأيّ شيء تندحر، فربما يكون في هذه الكواكب اشعّة ثاقبة تدحرها.

وذهب العلامة الطباطبائي رحمه الله الى انّ هذه التعابير كلها كناية عن امر غير محسوس فهي كالفاظ العرش والكرسي واللوح ونحوها، وانما تشير الى حقيقة غير محسوسة، وهي دحر الملائكة الشياطين عن عالم الملكوت الذي ليس هو من العالم المحسوس بوسائل تناسب ذلك العالم والداحر والمدحور. وما ذكره قدس سره غير بعيد اذ لا شكّ في أنّ الملائكة ليسوا من هذا العالم المحسوس اي الاجسام المتزاحمة فكذلك الشهب.

ويدلّ على ذلك قوله تعالى (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَديداً وَشُهُباً) الجن: 8، فيظهر منه انّ الشهب حالها حال الحرس، وكذلك السماء فليس المراد بها هذه الاجرام العلوية، اذ ليست هي مساكن الملائكة، ولا مهابط الوحي ولا مصادره، وانما السماء بمعنى العالم العلوي الخارج عن نطاق الطبيعة هي مسكن الملائكة ومجمعها، فالشياطين تحاول الاقتراب منها وليس هذا اقترابا جسميا ولا صعودا فلكيا، ولا قطع مسافة حسّية بل هو نوع خاص من الاتصال.

والشهب ايضا ليست شعلا من النار، وليس المقصود هذه الاجرام المضيئة المعروفة التي نعبّر عنها بالشهب. والدليل على ذلك أنّ هذه الشهب كانت تنزل على الارض دائما فهي صخور سابحة في الفضاء تدخل المجال الجوّي وتشتعل بفعل الاصطكاك بالجو، وهذا أمر طبيعي لا علاقة له بالوحي وزمان نزوله، ولم يكن شيئا حادثا في عصر الرسالة. ولا شك في أنّ هذا مما كان يحسّ به الناس كلهم قبل نزول الوحي فكيف تنزل الآية وتقول (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) الجن: 9، مما يدلّ على انّه امر حدث في ذلك العصر؟!

فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا انا خلقناهم من طين لازب... (فاستفتهم) فعل أمر من الاستفتاء، وهو طلب الفتوى او الفتيا (بضم الفاء). قيل: انّ الفتوى كل خبر جديد. وقيل: انها الجواب عن ما يشكل من الاحكام. ولم أجد تعبيرا في كتب اللغة والتفسير في شرح هذه الكلمة بمختلف استعمالاتها.

والذي يظهر من استعمالات القرآن انّ المراد بها الجواب عن أمر مهم، فورد في تعبير رؤيا الملك في سورة يوسف عليه السلام، ولعله عبّر عنه بذلك لاهتمامه به شخصيا، وورد في السؤال عن الحكم الشرعي كقوله تعالى (ويستفتونك في النساء)، وورد في سؤال ملكة سبأ عن ما تقتضيه المصلحة في مقابلة سليمان عليه السلام. والحاصل أنها لا تدل على كل خبر جديد او اي جواب عن حكم ولكنها لا تختص بفتاوى الفقهاء كما يظهر من اكثر تعابير اللغويين.

ومهما كان فالمراد هنا اسألهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا. واللازب اي اللاصق. قيل: المراد به الملتصق بعضه ببعض.

والمعروف المتداول بين المفسرين في تفسير هذه الآية أن المراد بـ (من خلقنا) من سبق ذكرهم من الخلائق اي السماوات والكواكب والملائكة والشياطين والشهب. وبناءا عليه فالتعبير عن المجموعة بـ (من) الدال على ذوي العقول من باب التغليب. وقال بعضهم ان ذلك نظير قوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) النازعات: 27.

قالوا: والاستفهام للتقرير اذ من الواضح أن الانسان ليس أشد خلقا مما ذكر. والمراد بكونها أشد خلقا صعوبة الخلق فان سياق الآيات التالية يدل على أن الغرض ردّ استبعادهم لاحياء الموتى فالاستفتاء لاخذ الاقرار منهم بأنّ السماوات والملائكة ونحوها أصعب خلقا منهم فمن كان قادرا على ذلك لا يعجز عن اعادة خلق البشر.

والغرض من بيان خلق الانسان من طين لازب ــ بناءا على هذا الوجه ــ التنبيه على ضعف الخلقة فيهم ليكون تعليلا للجواب المحذوف عن سؤال الاستفتاء، فان الجواب هو النفي طبعا، فالمعنى أنهم أضعف خلقا لانا خلقناهم من طين لازب، والطين الملتصق بعضه ببعض ليس خلقا معقدا. او المراد ــ كما قيل ــ الاشارة الى أن اعادة بناء الطين الملتصق بعضه ببعض امر يسير فلا وجه لاستبعاد المعاد.

ويلاحظ على هذا التفسير المشهور اولا أن كون السماوات وغيرها أشد خلقا من الانسان لا يستلزم امكان الاعادة ولا يرفع الاستبعاد، اذ من الممكن أن يقال ان خلق الشيء وان كان معقدا أيسر من الاحياء بعد الموت ولا تلازم بين الامرين.

نعم التلازم معقول بين امكان الابداع واولوية امكان الاعادة، لان الاول خلق من العدم من دون مثال يحتذى، بل من دون مواد اولية يصنع منها الشيء. وهذا هو الذي يؤكد عليه قوله تعالى (وَهُوَ الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه) الروم: 27. وقوله تعالى: (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) غافر: 57. كما أنه لا يبعد أن يكون المراد بقوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) ايضا هذا المعنى فالمراد بالسماء الكون ككل حيث ابتدع الله الخلق لا من شيء.

وثانيا أن هذا التفسير لم يبين الوجه في توصيف الطين باللازب وانما ذكروا وجه التركيز على كون الانسان مخلوقا من الطين وهو هشاشة خلقه او سهولته وعدم تعقده وأما توصيفه باللازب فاكتفوا فيه بالتفسير بأنه اللاصق او الملتصق بعضه ببعض. وهذا يشكّل فجوة في التفسير.

والذي يخطر بالبال أن المقارنة في هذه الآية يمكن أن تكون بين خلق الانسان والملائكة، وهم الذين اهتمت الآيات السابقة بذكرهم، وبيان أصنافهم، وزجرهم للشياطين، وحفظهم للوحي، فلا يشاركهم في هذه المقارنة السماوات والشياطين والشهب. ولا حاجة بناءا على هذا التفسير أن يوجّه التعبير بـ (من) فانه استعمل لذوي العقول خاصة.

وعلى هذا فوجه التطرق لبيان مبدأ خلق الانسان واضح، وهو أنه لا يقاس بخلق الملائكة وهم من أعجب خلق الله تعالى. ولم يذكر في القرآن مبدأ خلقهم، ولا عامة خصائصهم بل اشير الى بعضها والى بعض وظائفهم.

ويتبين بمراجعة الآيات أن خلقهم عظيم جدا ومن خصائصهم التي اشير اليها أنهم يتمثلون بأشكال اخرى وأنهم تمثلوا بشرا في بعض الموارد، كما في بشارة مريم وضيافة ابراهيم ولوط عليهم السلام. ومن أعمالهم المذكورة في القرآن انزال الوحي على الرسل وغيرهم، ومنها انزال العذاب على بعض الامم السالفة، ومنها نصرهم للمؤمنين في بعض الحروب، ومنها قبضهم وتسلمهم للارواح حين موت الانسان، وغير ذلك مما يقومون به في هذه الحياة وفي الحياة الاخرى وهو أعظم وأعجب. بل صرّح في القرآن بأنهم يدبّرون الامور.

وعليه فالمراد بالاشدية في الخلق كون خلقهم أعظم وأعجب لا صعوبة الخلق. والمراد بأن الانسان مخلوق من طين لازب تصغير شأنه من حيث اصل الخلقة في مقابل خلق الملائكة وسائر شؤون العالم العلوي ليردعه من الكبر والخيلاء، فان من دواعي عدم الايمان هو الكبر وعدم تسليم هذا الانسان الضعيف في قبال أوامر خالقه ونواهيه. وهذا ما نجده حتى اليوم منتشرا بين البشر ونسمع من كثير منهم ما ينمّ عن الاستكبار وعدم تقبّل أن يؤمر الانسان بما لا يقتنع به من الاحكام، ونسمع ذلك حتى من بعض المؤمنين اذا لم يكن الحكم لصالحهم.

ولعلّ الوجه في توصيف الطين باللازب لصوقه بالارض وبعالم الطبيعة، فلا يتمكن من السير في العوالم العلوية الا اذا جرّد نفسه عن الهوى، وعن الاخلاد الى الارض. ويمكن أن يكون بمعنى اللازم كما هو أحد معانيه، بل قيل ان الباء مبدل من الميم، فالمراد أنه مخلوق من طين لازم له لا يمكنه الخلاص منه الا برياضات شاقة، فكيف يقاس بالملائكة المقربين الذين يجتاحون العوالم العلوية، وينقلون أوامر الله التكوينية والتشريعية الى كل أرجاء الكون.

ولو قيل بأن المراد بمن خلقنا ما يشمل الشياطين ايضا لم يكن بعيدا كل البعد، من جهة التأكيد على انهم مع كونهم قادرين على الاقتراب من السماء والاستماع الى اخبار الملائكة، يدحرون ويعذبون، فكيف بالانسان المخلوق من الطين اللازب فالمراد على كلا الوجهين ردع الانسان من الاستكبار في مواجهة آيات الله تعالى. وقد مرّ التنبيه على مشابهة بعض البشر للشياطين في غبائهم حيث يحاولون مقاومة القدرة الالهية المطلقة. ولكن الاختصاص بالملائكة هو الاقرب.



[1] الاحتجاج ج2 ص81