مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَإِنَّ مِنْ شيعَتِـهِ لَإِبْراهيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَليمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبيهِ وَقَـوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْـكاً آلِهَةً دُونَ اللّه تُريدُونَ (86) فَما ظَنُّـكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ (87)    

 

وإنّ من شيعته لإبراهيم... إبراهيم عليه السلام يدعى أبا الانبياء لأنّ أنبياء بني اسرائيل وهم معظم من ذكروا في القرآن من ذريته. والله تعالى يعتبره من شيعة نوح عليه السلام، والشيعة هم الذين يشايعون احدا اي يتبعونه.

وفي سرّ هذا التعبير احتمالان:

(الاول) أنّ ابراهيم يعتبر ممن يتبع شريعة نوح عليهما السلام وذلك لانه لم يكن بينهما شريعة اخرى مع بعد الزمان. ويؤيّد هذا الاحتمال انه اعتبره من شيعته اي بعض شيعته ولا شك ان الذين اتبعوا شريعة نوح في زمانه وبعده الى عهد ابراهيم عليهما السلام كثير جدا لبعد الزمان.

(الثاني) انه تبعه في خصوص كونه من العباد المؤمنين الذين بكمالهم في العبودية والايمان بلغوا درجة الاحسان فاستحقوا ذلك الجزاء الجزيل من الله تعالى في الدنيا والآخرة. ويشهد لهذا الاحتمال قوله في مقام التعليل او الظرفية (اذ جاء ربه بقلب سليم) فتكون المشايعة في هذا الامر بالخصوص لا المتابعة في الشريعة التي لا تخص الانبياء .

وعلى كل حال فهذه الآية تدل على سموّ مقام نوح عليه السلام ورفعته حيث اعتبر ابراهيم عليه السلام مع جلالة قدره كما سيتبين من الآيات التالية من جملة اتباعه. ويحق له ذلك فانه مضافا الى تحمّله الشدائد لنشر التوحيد وتبليغ الشريعة قد أسدى للبشرية نعمة عظيمة بصنعه السفينة وإبقائه على النسل البشري، بل كان هو السبب في نزول السلامة والبركة من الله تعالى على اجيال البشر بعده حيث خوطب حين نزوله من السفينة (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ...) هود: 48.

اذ جاء ربّه بقلب سليم... في مجيئه الى ربّه احتمالان:

الاول ان يراد به حضوره عند ربّه مع قلب سليم فتكون الباء للمصاحبة. والانسان يحضر عند ربّه في الدنيا حين عبادته وصلاته وتوجهه الى ربه. والثاني أن يكون الباء للتعدية فالمعنى أنه أحضر عند ربه قلبا سليما والاول أوفق بتنكير القلب.

وهناك مورد آخر للحضور بقلب سليم وهو الحضور يوم القيامة كما ورد عن لسان ابراهيم عليه السلام (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) الشعراء: 88 ــ 89.  

وقد ورد في الحديث ان القلب السليم هو القلب الذي يلقى الله عز وجل وليس فيه احد سواه. فابراهيم عليه السلام حضر امام الله سبحانه وليس في قلبه الا الله، لا يحب شيئا الا في الله ولا يبغض شيئا الا في الله.

ولذلك عقبه بالاستشهاد بموردين أبرز فيهما ابراهيم تفانيه في الحب لربه، احدهما في مواجهته لابيه وقومه دون هوادة والثاني ــ وهو اجلّ واعظم ــ محاولته ذبح ابنه بيده اطاعة لربه. وهو الولد الذي طالما دعا ربه ان يرزقه فلما صار غلاما يتوقع منه النفع ورآى منه غاية الايمان لربه حيث طالبه بالاسراع في التنفيذ حاول ذبحه بيده تنفيذا لامر الرب. والظاهر ان هذا مما لم يبتل الله تعالى به احدا من المرسلين وغيرهم. ولا يكون ذلك الا من يكون قلبه في غاية السلامة ليس فيه مجال لاحد غير الله سبحانه.

وورد في حديث آخر أن المراد السليم من الشك. والشك امر غريب يتسلل الى قلوب المؤمنين المخلصين، ولا يمكن لاحد أن يزعم أنه سليم منه، وأنّ ما في قلوبنا هو اليقين الكامل، والله تعالى يقول: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ..) البقرة: 45 ــ 46، فكل ما نجده ونحن نعتقد اننا مؤمنون وخاشعون ليس الا الظن، والله تعالى لا يريد منا اكثر من ذلك لانه اعلم بما خلق، ويعلم ان السليم من الشك قليل جدا، فلا يمكن لاحد ان يقول (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا) الا امير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن ابي طالب عليه السلام.

ولولا السلامة الكاملة من الشك في قلب ابراهيم عليه السلام لم يقدم على ذبح ابنه بيده لرؤيا رآه، ولو كان غيره لالتمس شتى المعاذير للتهرب حتى لو لم يكن حلما بل كان امرا صريحا فانا نجد من انفسنا ومن غيرنا كيف نتهرب من التكاليف العامة حتى لو كان يتعلق بدفع المال فكيف ببذل النفس واي نفس؟!

اذ قال لابيه و قومه ماذا تعبدون... هذا هو المشهد الاول مما يدل على سلامة قلبه عليه السلام، وقد تكرر ذكر هذا المشهد ومخاطباته مع ابيه وقومه، ولكنه هنا مختصر يراد به الاستشهاد على سلامة نفسه وقلبه، وانه ما كان يهتم بالعلاقات الاجتماعية، وأواصر الود والاخاء والقرابة، فاذا اقتضى الامر ان يواجه افكار قومه وعاداتهم ويستنكرها لم يمنعه مانع ولم تاخذه في الله لومة لائم، فتجده بكل صلابة يحتقر أهمّ شيء لديهم وهو ما توارثوا احترامه وعبادته والسجود له، فيخاطبهم باستفهام انكاري: ماذا تعبدون؟ اي ما هذا الشيء الذي تعبدونه؟ وفي هذا اللحن احتقار واضح لأصنامهم.

و(اذ) في اول الجملة ظرف لقوله (جاء) او لقوله (سليم) في الآية السابقة اي ان قلبه كان سليما حيث قابل أباه وقومه بهذه الشدة ولذلك قلنا ان المراد بهذا، هو الاستشهاد على سلامة نفسه وقلبه. ويمكن ان يكون بدل اشتمال من الجملة السابقة.

هذا وقد مرّ في سورة العنكبوت البحث في أنّ ما يعبر عنه في القرآن بالاب في قصة ابراهيم عليه السلام هل هو والده ام من تربى في حجره وهو عمه او ابو امه كما يقال؟ وقلنا ان ما استدل به العلامة الطباطبائي رحمه الله في نفي كونه والده استدلال لطيف وواضح، وهو انه عليه السلام استغفر لوالديه في أواخر حياته وبعد ان بنى الكعبة وأسكن ذريته من اسماعيل عليه السلام هناك حيث قال: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ..) ابراهيم: 41، ولا يمكن ان يستغفر لابيه الضالّ حيث قال تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للّه تَبَرَّأَ مِنْهُ..) التوبة: 114، وانما استغفر له قبل ان يتبين له ذلك كدعائه المحكي في سورة الشعراء وهو بعد في قومه.

فالحاصل ان هذا الرجل ليس والده وانما يعبر عنه بالاب لانه رباه وهذا تعبير شائع، ويدل على انه كان يحترمه ويحبه بل يحتاج اليه في شؤون حياته، ولكن ذلك لم يمنعه من مواجهته واستنكار عمله، وكذلك مع قومه وكبرائهم وهو بحاجة اليهم ومستظهر بهم.

أإفكا آلهة دون الله تريدون... الافك هو الصرف عن الحق الى الباطل ولذلك يطلق على الكذب. وتريدون اي تطلبون. والارادة تتعلق بالافعال لا بالذوات فلا بد من تقدير فعل وهو الاتخاذ، والمعنى هل تتخذون آلهة بدلا عن الله كذبا وانصرافا عن الحق الى الباطل؟!

وقدم المفعول لاجله وهو (افكا) مع ان شأنه التاخير لان التركيز انما هو على ذلك فهو يريد ان يقول انكم لم تختاروا ذلك جهلا بل انكم تعلمون ان هذه الاصنام لا يمكن ان تكون آلهة وهي من صنعكم، وانما تتخذونها آلهة افكا وزورا، كما صرح عليه السلام في موضع آخر بان السر في التفافكم حول هذه الآلهة ليس الا الابقاء على العلاقات الاجتماعية الزائفة التي اسست على هذه الاوهــام (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ الله أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...) العنكبوت:25.

وهذا داء عام وبلاء عظيم نجده في كل هذه التعصبات والتحزبات الفاسدة بل حتى الانحياز الى الاشخاص من دون ما يستوجبه العقل والمنطق ونجد بعضهم يصرحون بانا لو تركنا فلانا لاختلفت وتفرقت القبائل والبيوت.

والحاصل ان هؤلاء ما كانوا يعبدون الاصنام جهلا وانما كانوا يعبدونها افكا وحفظا لتقاليد الآباء التي هي اساس الوحدة في المجتمعات المتخلفة ثقافيا، كما كانوا يقولون في بعض مخاطباتهم له عليه السلام: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) الشعراء: 72 ــ 74.

فما ظنكم برب العالمين... الظاهر ان المراد بهذه الجملة انكم ما ذا تتوقعون ان يصنع بكم رب العالمين؟ وعلى هذا فالجملة تدل على انهم كانوا يعتقدون بان للعالمين ربا وانه هو الذي يجب ان يعبد، ولكنهم يعبدون الاصنام تمسكا بتقاليد الآباء، ومعنى ذلك انهم كانوا يتوقعون عذابا من الله، ولكنهم يستهينون به كغيرهم من اهل الدنيا والتابعين لشهواتهم وميولهم.

ويشهد لهذا التفسير ما مر آنفا من آيات سورة الشعراء في محادثتهم معه عليه السلام: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) فيدل ذلك على انهم كانوا يعلمون انها لا تسمع ولا تضر ولا تنفع ومع ذلك كانوا يعبدونها تبعا للآباء. وهذه التبعية العمياء مشهودة في كثير من الناس.

ويحتمل ان يكون المراد السؤال عن تصورهم لرب العالمين يعني كيف تتصورون رب العالمين حيث جعلتم له اندادا، فهو بهذا السؤال يريد ان ينبههم الى ان جعل الانداد للّه تعالى يبتني على الجهل بمقام رب العالمين وعدم معرفته.

والاحتمال الثالث ان يكون المراد استنكار ان تعتبر الاصنام ربا للعالمين فتعبد بعد افتراض تسليمهم بان المعبود يجب ان يكون ربا للعالمين فمعنى العبارة هل تظنون ان هذه الاصنام أرباب للعالمين؟! وهذا بعيد عن معتقداتهم. ومهما كان فالاحتمال الاول هو الاقرب.