مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرينَ (90) فَراغَ إِلى‏ آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللّه خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلينَ (98)

 

فنظر نظرة في النجوم * فقال اني سقيم... المنقول هنا قصة ابراهيم عليه السلام مع قومه باختصار، وقد فصل بعض مواضعه في سور اخرى، وهكذا القران يركز في كل موضع على جهة من جهات القصة فيفصلها، ويهمل جهات اخرى، او يجملها، والتركيز هنا على قوة ايمان ابراهيم واحسانه، وانه استتبع الجزاء الجميل من الله تعالى، كما هو الحال في سائر ما ينقل هنا من قصص الانبياء عليهم السلام.

قيل في تفسير هذه الآيات أنّ قوم ابراهيم عليه السلام كانوا يخافون من ان ينال آلهتهم بسوء خصوصا بعد ما هدّدهم بذلك بقوله: (وَتَالله لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) الانبياء: 57، وانهم كان لهم يوم عيد فكانوا يخرجون من المدينة لتقاليد خاصة بذلك اليوم ويتركون الاطعمة ونحوها عند اصنامهم يعتقدون انها تتبرك بهم، ثم يتناولونها بعد رجوعهم، ففي ذلك اليوم طلبوا او توقّعوا من ابراهيم عليه السلام ان يخرج معهم فنظر نظرة في النجوم فقال اني سقيم.. وهكذا اعتذر من الخروج معهم.

ويقال في وجه نظره في النجوم امران: احدهما انه ربما كان لمرضه موعد يعلمه فنظر اليها لمعرفة الوقت فتبين له انه موعده. والثاني انه اراد بذلك ايهامهم انه يستوحي من النجوم جريا على اعتقاداتهم في تاثير الكواكب.

واعترض على هذا التفسير وهو مذكور في التفاسير عامة انه يستلزم نسبة الكذب الى ابراهيم عليه السلام حيث قال: اني سقيم ولم يكن مريضا.

واجيب تارة بانه لعله من معاريض الكلام فيكون قد استخدم التورية كما لو قصد انه سيكون مريضا في المستقبل ولكنه يوهمهم بذلك انه مريض فعلا.

واجيب اخرى بانه لعله كان مريضا والانسان لا يخلو من مرض وان لم يكن مرضه مانعا من خروجه معهم فالايهام انما هو من هذه الجهة.

ويمكن ان يكون مراده عليه السلام انه سقيم نفسيا من جهة تاثره البليغ من كفرهم وعنادهم، وهذا ربما يسبب في الانسان مرضا وسقما ابلغ مما تؤثره العوامل الاخرى.

وقد دار البحث بين المفسرين حول جواز صدور التورية من الرسول. ووقع مثل هذا الاشكال في قوله عليه السلام: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) الانبياء: 63، حيث نسب كسر الاصنام الى كبيرهم الذي لم يكسره ابراهيم عليه السلام ولعله تركه ليلقي الاثم عليه ويثير فيهم التساؤل.

ومهما كان فهذا التفسير يبتني على تقدير ما لا دليل عليه في اللفظ اذ لا بد من تقدير ان قومه ارادوا الخروج للعيد وطلبوا منه الخروج معهم فنظر نظرة في النجوم... وهو بعيد عن ظاهر اللفظ حيث ان ظاهره أن نظره الى النجوم والقول بانه سقيم هو المترتب على ما سبق من اعتراضه على آلهتهم لمكان الفاء في اول هذه الآية، وهو الباعث على توليهم مدبرين لمكان الفاء ايضا على تلك الآية.

وروى الصدوق في معاني الاخبار عن رجل من أصحابنا عن أبي عبدالله عليه السلام قال: (قلت له قوله تعالى: اني سقيم فقال: ما كان إبراهيم سقيما وما كذب انما عنى سقيما في دينه مرتادا) [1] والظاهر أن المراد انه كان طالبا وباحثا عن الحقيقة كالسقيم الذي يبحث عن العلاج.

ويبدو من هذه الرواية أن النظر في النجوم اشارة الى القصة المذكورة في سورة الانعام من انه نظر الى الكوكب فقال هذا ربي فلما افل قال لا احب الآفلين ثم رأى القمر ثم الشمس.

ويقع السؤال في هذه القصة أنه عليه السلام هل كان مترددا واقعا او انه كان يظهر نفسه كذلك ليجرّ القوم الى التفكر والتدبر في امر الربوبية والانتهاء الى ربوبية رب العالمين دون سواه، فاقترح عليهم عبادة الكوكب واعتباره ربا لانه افضل من الصنم واجمل، وهكذا القمر ثم الشمس، ثم انتهى الى تفنيد كل ربوبية الا ربوبية الله سبحانه وتعالى؟

الصحيح أنه عليه السلام لم يكن مترددا واقعا بل كان يظهر ذلك ليجرّ قومه الى الايمان. وان لم تصرّح الايات بهذا الامر.

وعلى كل حال فالظاهر حسبما يستفاد من هذه الرواية ان هذه الآية تشير الى تلك القصة ولا حاجة الى تقدير.

فتولوا عنه مدبرين... التولي هو الاعراض. و(مدبرين) حال مؤكدة لان التولي يقتضي بنفسه الادبار. فبناءا على تفسير القوم: تولوا عنه حينما سمعوا اعتذاره وخرجوا من البلد على عادتهم، وبناءا على هذه الرواية: تولوا عنه حينما دعاهم الى عبادة الله سبحانه واستدل على نفي ربوبية الاصنام بما ذكر.

والتعبير يوحي بانهم بعدوا عنه جدا وتيقن عدم عودتهم قريبا فانتهز الفرصة لكسر الاصنام. ولو صحّ تفسير القوم لكان المناسب ان يشار الى خروجهم عن المدينة ولا يكتفى بتولّيهم وادبارهم.

فراغ الى آلهتهم... الروغ والروغان الميل على سبيل الاحتيال، ويطلق على حركة الثعلب للانقضاض على الفريسة. والمراد انه هجم على الاصنام مسارقة لئلا يشعر به احد فيمنعه. وهذا يتم بناءا على الرواية فانه كان بحضور القوم في المدينة، وأما بناءا على تفسير القوم فلا بد من افتراض أن بعض العبيد والخدم كانوا باقين في البلد ليصح التعبير بالروغان.

فقال الا تاكلون * ما لكم لا تنطقون... يظهر من هذا السؤال ايضا انه كان هناك بعض الناس حاضري الموقف فاراد ان يهديهم الى الحق، وانّ هذه الاصنام لا تعقل شيئا ولا تنطق ولا تفهم الخطاب، فكيف تكون آلهة تدبر الكون؟! فخاطبها امامهم: ألا تأكلون؟!  

وقيل: يمكن ان يكون ذلك من قبيل حديث النفس فان الانسان خصوصا في مثل هذه الظروف العصيبة يحدث نفسه ويحدث الاشياء، فلعـله خاطـبها بذلك منفردا ليفرغ شحنته التي كادت تنفجر من سخطه على جهل الناس وغبائهم.

هكذا ورد في التفاسير وان كان ذلك بعيدا عن ابراهيم عليه السلام وهو يعلم ان الاصنام جمادات لا روح فيها. والاقرب هو الاول وانه عليه السلام كان يخاطبها بحضور بعض العبيد والمستضعفين من الناس طمعـا في هدايتـهم فالانبياء يميلون اليهم اكثر من كبــراء القوم وهـم ايضا الى الانبيـاء اميل.

فراغ عليهم ضربا باليمين... اي مال عليهم، وضمن معنى الضرب فقوله (ضربا) مفعول مطلق، او يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل اي ضاربا باليمين اي باليد اليمنى، والضرب باليمين كناية عن انه ضربها بقوة فكسّرها تكسيرا فان اليد اليمنى رمز للقوة والشدة.

فاقبلوا اليه يزفون... الزفاف الاسراع او الحركة مصاحبا للهجوم، مما يدل على غضبهم وهياجهم. والمراد تصوير حالتهم في مقابلة رجل واحد وهم حشد كبير من الناس في حالة هياج وغضب شديد هجموا عليه منتقمين لآلهتهم، ولكن هذا الواحد اقوى من كل من على الارض فلو اجتمع عليه اهل الارض جميعا ما هابهم، لانه مدعوم من جبار السماوات والارض فلا يهاب الصعاليك مهما كثر جمعهم، واشتدت قوتهم، وهاجت ضمائرهم.

والقصة مذكورة هنا باختصار وقد ورد بعض التفاصيل في سورة الانبياء، فمنها انه ترك كبيرهم حتى يوهم الجهال انه هو الذي كسرهم ليستتبع انكارهم لذلك وعدم تمكنه من كسرها، فيكون انكار كبراء القوم لتمكن كبير الاصنام من الكسر منبها للضعفاء والشباب بعدم امكان ربوبية الاصنام.

ومنها انهم حينما جاءوا الى معبدهم او رجعوا من سفرهم الجماعي على ما ذكره القوم سالوا او تساءلوا فيما بينهم: من فعل هذا بآلهتنا؟ وجاءهم الجواب: (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم) فيحتمل ان يكون هذا الجواب من بعضهم وهم الذين سمعوا منه مقولته الواردة في سورة الانبياء ايضا (تالله لاكيدن اصنامكم بعد ان تولوا مدبرين) ويحتمل ان يكون من العبيد والخدم والمستضعفين الباقين في المدينة. ولعلهم مالوا اليه واستحسنوا فعله فلم يذكروا ما شاهدوه ولم يصرحوا به بل اكتفوا بهذه المقولة خوفا من الاخفاء التام.

قال اتعبدون ما تنحتون... هنا ايضا يختصر القصة وفي سورة الانبياء يتبين انه عليه السلام تمكن في بدو الامر من تنبيههم وتحريك ضمائرهم المتحجرة (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ) الانبياء: 62 ــ 65.

والنحت بري الخشب او الحجر او نحوهما حتى يكون بالهيئة التي تريدها، يعني ان العبادة يجب ان تكون للربّ الذي يؤثر في الكون ويرجى منه كل الخير ويخاف سطوته وغضبه لا ما تنحتونه بايديكم، فهذا امر يحتاج في تكونه اليكم فكيف يتصور ان يكون مؤثرا في الكون؟!

وهذا الامر على غرابته من أدواء البشرية في كل عصر فالانسان يطيع الشخصية التي هو يصنعها وهو يكبرها ويعظمها، ولولا انتخابه واختياره وتصفيقه لكلامه لم يكن له اي ميزة ولم يستحق اي تبجيل. ومع ذلك فهو بعد اختياره يتحول الى صنم يقدس ويطاع وينظر الى اقواله التافهة وكانها حِكمٌ صدرت من حكيم!!! مع انه لم يزد على ما كان عليه قبل الاختيار.

والله خلقكم وما تعملون... يعني أتعبدون الاصنام وتتركون عبادة الله الذي خلقكم وخلق هذه الاصنام التي تصنعونها وتعبدونها. وذلك لان صنع الانسان ليس الا تغييرا في الصورة واما مادة الصنم فهي من الطبيعة ومخلوقة للّه، بل الصورة ايضا مخلوقة له تعالى فان الانسان لا يستطيع ان يعمل شيئا الا باذنه تعالى ولا حول ولا قوة له الا به.

وقد صارت هذه الآية مثارا لجدل طويل بين الاشاعرة والمعتزلة، فالاشاعرة يقولون ان ما هنا مصدرية ومعناه انه تعالى خلقكم وخلق اعمالكم فالانسان ليس له اي دور في الوجود بل هو مسيّر كما اراد الله تعالى، والمعتزلة يقولون ان ما موصولة والمراد انه تعالى خلق ما تعملونه اي تصنعونه والمراد به الاصنام، فلا يدل على انه تعالى خالق لافعالنا. والصحيح ان كلا الوجهين جائز وانه لا يدل على شيء من المذهبين كيفما فسرت كلمة (ما).

قالوا ابنوا له بنيانا فالقوه في الجحيم... هكذا يردّ المتعصبون الجهلة على المنطق والحجة، وهكذا يواجهون المصلحين والانبياء. ويظهر من السياق انه عليه السلام أثر في المجتمع وتوجهت اليه القلوب بل يستفاد من سورة الممتحنة أنّ جمعا آمنوا به واتّبعوه حتى في شدّته وتصلّبه في مقابلة اعداء الله. قال تعالى: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في‏ إِبْراهيمَ وَالَّذينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ...) الممتحنة: 4، وان كان من المحتمل ان ذلك حدث بعد الاعجاز الذي رأوه من أنّ النار صارت عليه بردا وسلاما.

ومهما كان فالذي يظهر من الآية ان القوم خافوا تاثيره العميق في المجتمع فارادوا التهويل وارعاب القلوب حتى لا تميل اليه والى افكاره، ولذا لم يكتفوا بقتله بل ارادوه قتلة فجيعة فظيعة والا لم يكن حاجة الى بناء بنيان ثم تأجيج نار عظيمة. والجحيم هو النار العظيمة الشديدة التأجّج.

ويشهد لهذا التاثير ان القوم حينما سمعوا كلامه في اتّهام كبير الاصنام بكسر الباقين رجعوا الى انفسهم وقالوا انكم انتم الظالمون.

فارادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين... نعم ان القوم كادوا بهذا النبي العظيم شر مكيدة، ولكن الله تعالى كان في عون عبده فحفظه من كيدهم. ولابراهيم عليه السلام مكانة عظيمة لدى الله سبحانه ولذلك حفظه وأفاض عليه النعم في الدنيا والآخرة قال تعالى (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) العنكبوت: 27.

ومن جلالة قدره الذي لا يبلغ علاه ان الله تعالى اتخذه خليلا وهذا التعبير لم  يرد في احد غيره، وهو تعبير عجيب فاين الانسان واين رب السماوات والارض؟ وكيف يمكن ان يكون خليلا له؟ لا يسعنا التفكير في ذلك حتى نصل الى جواب!!!

والآية هنا لم تذكر تفصيل ما حدث ولكن ورد في سورة الانبياء (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) الانبياء: 69، ولكن التعبير هنا يوحي بانهم لم يتمكنوا من الحاق اي اذى به وهو قوله تعالى (فجعلناهم الاسفلين) فهذا التعبير يصوّرهم في اسفل قاع من الارض وكأن ابراهيم عليه السلام على قمة الجبل لا تصل اليه ايديهم فلعله كناية عن عدم تمكنهم منه نهائيا.

وطبيعة الامر تقتضي ذلك لان هذه النار العظيمة كان المتوقع ان لا تبقي من ابراهيم أثرا بعد القائه فيها ولكنه جلس فيها مطمئنا وفي برد وسلام ثم خرج منها منتصرا وتلك آية عظيمة ومعجزة باهرة فمن الطبيعي ان يطأطئ القوم رؤوسهم له ويهابوه ومع ذلك لم يؤمنوا به. وهذا هو الضلال المبين.

 

[1]  معاني الاخبار ص210