مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي سَيَهْدينِ (99) رَبِّ هَبْ لي‏ مِنَ الصَّالِحينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَليمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى‏ فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى‏ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُني‏ إِنْ شاءَ اللّه مِنَ الصَّابِرينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرينَ (108) سَلامٌ عَلى‏ إِبْراهيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى‏ إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبينٌ (113)

 

وقال اني ذاهب الى ربي سيهدين... لم يذكر القرآن الكريم كم بقي ابراهيم عليه السلام في قومه بعد ذلك وانما ورد انه تركهم وهاجر ففي سورة مريم (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله...) مريم: 48. وهنا: وقال اني ذاهب الى ربي سيهـــدين..

ولهذه الهجرة مغزى عميق حيث لم يذكر ابراهيم عليه السلام وجهة مقصده فهو لا يقصد مكانا خاصا بعينه انما يهاجر الى ربه كما ورد في سورة العنكبوت (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي..) العنكبوت: 26، فالمقصد هو الله فخرج من عند قومه مهاجرا الى ربه متوكلا عليه تاركا وراءه كل ما يعتمد عليه الناس في شؤون حياتهم وهو واثق من انه تعالى لا يهمله ولذلك يقول برباطة جأش وطمأنينة نفس اني ذاهب الى ربي سيهدين.. وهكذا يجب ان يكون المؤمن يكل امره الى ربه وهو يتولى الصالحين.

ومن الطبيعي ان مثل هذه الهجرة في ذلك الزمان الذي كان المعوّل في كل امر على القوم والعشيرة صعب وخطير جدا، فما كان لشخص بمفرده ان يحافظ على نفسه وكيانه الا في ظل الاحتماء بالعشيرة، ولم تكن هناك حكومات تضمن حماية المواطنين، ولكن مؤمنا صادقا كابراهيم عليه السلام لا يهمّه شيء ولا يشعر بالوحدة والوحشة ومعه ربه سيهديه ويحميه وهو حسبه (أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ..) الزمر: 36، ولذلك لم يتلعثم او يتردد ابراهيم عليه السلام في الاعتماد على ربه بل صرح في خطابه بكل صراحة وصرامة وبلهجة قاطعة: سيهدين!!! وهذا كلام المؤمن الواثق بربه وبعنايته.

وأطلق الهداية فهو يتوقّع من ربّه أن يهديه سواء الصراط من كل جهة فلا يسلك سبيلا الا كان فيه خير الدنيا والآخرة. وهكذا وفّق لنيل غاية السعادة في النشأتين.

رب هب لي من الصالحين... ثم دعا ربه وطلب منه ولدا صالحا. ومن الغريب ان القرآن لم ينقل عنه عليه السلام في هذه الهجرة دعاءا وحاجة يصرّ عليها الا الولد الصالح، ولعله عليه السلام كان يحزّ في نفسه قلّة المؤمنين فكان يدعو ربه ان يرزقه اولادا صالحين يؤمنون بالله ويكملون المسيرة، فلم يكن همّه كثرة الاولاد كغيره ممن يطلب اولادا ليكثر نسله، او يتباهى بهم، او يتقوى.

ولذلك لم يطلب اولادا اقوياء او اصحاء او ذوي بهاء وجمال، وانما طلب اولادا صالحين يكملون مسيرته في الدعوة الى الله، فهذا هو هاجس الانبياء عليهم السلام فان لم يكونوا صالحين فهو لا يريدهم.

والله تعالى وهب له ما طلب ولكن بعد زمن طويل. ولا يعلم وجه الحكمة في هذا التأخير الا الله سبحانه فلم يرزق بولد الا باسماعيل ثم اسحاق عليهما السلام وذلك بعد كبر سنه ويأسه من ان يكون له ولد بصورة طبيعية. فاسماعيل عليه السلام من هاجر وهي كانت أمة لزوجته سارة وهبتها لزوجها، واسحاق عليه السلام من سارة.

ومهما كان ففي هذا التاخير والابطاء في استجابة دعوة الخليل عليه السلام درس للمؤمنين ان لا ييأسوا من روح الله تعالى اذا تأخرت الاستجابة، ولعل في التاخير خيرا لهم بل لعل في استعجالهم للاستجابة شرا لهم وهم لا يعلمون (وَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون‏) البقرة: 216.

وابراهيم عليه السلام بلغ حدا قريبا من اليأس، ولذلك استغرب التبشير بالولد من الملائكة ولكنه نفى ان يكون من القانطين كما في سورة الحجر.

فبشرناه بغلام حليم... الفاء للترتب اي حيث دعا ربه وطلب الولد بشرناه بغلام حليم ولم تكن البشارة في نفس الوقت بل بعده بزمن طويل.

والغلام: الولد الذكر. وقيل انه يطلق عليه من اول الولادة ولكن في اكثر كتب اللغة انه لا يطلق الا في سن المراهقة ويعبرون عنه بالطارّ الشارب اي في أوائل نبات الشارب لديه، وهو يناسب معنى الغلمة اي هيجان الشهوة.

وربما يستغرب توصيفه بانه غلام حليم، فان الغلام لا يناسبه الحلم بل ميزته التسرّع والهيجان والاندفاع واللعب، وانما الحلم صفة الشيوخ والكبار. فهنا قد اجتمع الضدان الغلمة والحلم. فقيل إنّ المراد أنه يبقى الى زمان الحلم، فيكون ذلك جزءا من البشارة ايضا.

ولعل السر في هذا التعبير هو توصيفه بالحلم حين كونه غلاما ــ كما يقتضيه قوله تعالى (فلما بلغ معه السعي) على ما سيأتي توضيحه ان شاء الله تعالى ــ وهو امر غريب بل في غاية الغرابة، وخصوصا أنه حلم لم يسبق له مثيل، ولم يخلفه نظير كما سيأتي ذكره. 

وقد وقع البحث في ان هذا الغلام هل هو اسماعيل او اسحاق عليهما السلام فأكثر احاديث المسلمين تنص على انه اسماعيل وهناك دليل واضح من القرآن عليه وهو أنه في هذه السورة بالذات بعد ان اكمل قصة الغلام الحليم وسلم على ابراهيم قال سبحانه (وبشرناه باسحاق نبيا من الصالحين) فيتبين منه بوضوح ان هذا المبشر به غير من بشر به اولا.

وهناك رواية صحيحة مشهورة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (انا ابن الذبيحين) فأحدهما ابوه عبد الله والآخر اسماعيل وهو جد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. ولكن اليهود يدعون ان قصة محاولة الذبح تخص جدهم اسحاق وهناك روايات مستقاة من اليهود تدل على ذلك وهي من الاسرائيليات.

فلما بلغ معه السعي... شروع في قصة اخرى من حياة ابراهيم الخليل عليه السلام مما أبدى فيه صلابة ايمانه وتوكله على الله فأيده الله تعالى بلطف خاص وكرامة باهرة، وقد قلنا فيما سبق ان الغرض من ذكر الانبياء في هذه السورة تسليط الضوء على هذا الجانب من حياتهم ليكون درسا وتذكيرا وتسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين وباعثا للطمأنينة في نفوسهم.

والظاهر أن المراد ببلوغه السعي انه بلغ حدا يمكنه أن يسعى ويبذل جهده في الحياة ويكتسب المال ويدافع عن نفسه وعن قومه ونحو ذلك من النشاط المتوقع من الشباب. وهذا هو الحد الذي يتوقع الانسان ان ينتفع بولده فأحد الدواعي للاستيلاد هو هذا الانتفاع في الكبر ليكون مساعدا له ومعينا، فهو يخدم الولد قبل بلوغه حدّ السعي لينتفع به بعد ذلك. فالغرض من التركيز على ذكر هذا التاريخ أنه بلغ الحدّ الذي كان ابراهيم يحتاج اليه، فهو قد بلغ الكبر وولده بلغ السعي.

وهناك تأكيد على كون هذا البلوغ معه اي مع ابراهيم فلو كان يبلغ السعي وهو بعيد عنه لكان الأمر أهون اذ لم يكن في معرض الانتفاع به. فالتأكيد على كل هذه الامور لبيان أنّ القصة وقعت في زمان كان ابراهيم عليه السلام في أمسّ الحاجة الى ولده فهو لم يكن له ولد وقد دعا ربه أمدا طويلا فكان يتلهّف للاستمتاع بوجود ولد صالح بجانبه، وها قد بلغ الكبر ويئس من ذلك بصورة طبيعية. ثم إنّ الله تعالى بشّره بالولد وبشّره بانه غلام حليم فانظر كم كان هذا العبد الصالح متعلقا بهذا الولد الذي مدحه الله تعالى؟ ثم إنه بلغ السعي ايضا وبلغه وهو معه وفي خدمته وهنا امر بذبحه فيا لها من مصيبة!!!

قال يا بني اني ارى في المنام اني اذبحك... يظهر من الآية تكرر الرؤيا المذكورة فهو المناسب للتعبير بالفعل المضارع ولو تحققت مرة واحدة لقال اني رايت... ومن الطبيعي انه لا يجوز لاحد ان يذبح ابنه لمجرد انه رأى ذلك في منامه وان تكرر ذلك، بل حتى لو رأى أن الله تعالى يأمره بذلك مكررا ولكن رؤيا الانبياء تختلف عن رؤيا غيرهم فهي نوع من الوحي الالهي اذ لا يمكن للشيطان ان يؤثر في رؤياهم وليس له سلطان عليهم.

يبقى السؤال عن السرّ في عدم نزول الوحي بذلك عن طريق الملك على ابراهيم عليه السلام، فيمكن ان يكون السرّ فيه أنّ التصريح بمثل هذا الامر والمواجهة فيه لا يخلو من حزازة فاراد الله سبحانه ان لا يثقل على خليله فيأمره بذلك عن طريق الوحي المباشر.

ويمكن ان يكون السر هو القصد الى ابراز صلابة ابراهيم وقوة ايمانه حيث انه يطيع ربه في هذا الامر الخطير حتى لو كان ابلاغه اليه عن طريق الرؤيا، فيكفي لابراهيم ان يعلم ان الله تعالى يريد منه ذلك، بل يكفيه ان يعلم انه تعالى يحبه فهذا يكفي ليحقق الداعي في نفسه الشريفة فلا حاجة الى ابلاغ الامر بصرامة وصراحة فضلا عن انشاء حكم جزائي ووعيد بالعقاب على المخالفة. هكذا كان اخلاصه عليه الصلاة والسلام.

ولعل أغرب منه هو اخلاص الغلام الحليم اسماعيل عليه السلام فهو في سن المراهقة والاماني والاحلام، واستقبل الذبح بصدر رحب، وقد امتحنه ابوه فابتدأ كلامه بتعبير مثير للشفقة (يا بنيّ) والعرب تأتي بالتصغير في مثل هذا الخطاب ايذانا بالاختصاص. ولا نعلم اللغة واللفظ الدائر في هذا الخطاب بين ابراهيم واسماعيل عليهما السلام الا ان تعبير القرآن ينمّ عن تعبير في الاصل مثير للشفقة.

ثم ذكر له منامه مع انه ما كان من المفروض ان يخبره، وهو لا يريد ان يستشيره، بل يريد ان يظهر صلابة ايمان ابنه كما ظهر صلابة ايمان الاب، ويريد ان يقبل اسماعيل هذا الامر برضاه فلا يكون مرغما على ذلك.

وهل كان يرى ابراهيم عليه السلام انه يذبحه؟ ورد في الروايات انه كان يرى من يامره بالذبح فما ورد من التعبير هنا حكاية لنتيجة المنام.

فانظر ماذا ترى... وهكذا استفهمه ابراهيم عليه السلام وكأنه يطلب منه ان يتروى ولا يستعجل ولكن اسماعيل لم يترو ولم يتردد ولم يستمهل بل...

قال يا ابت افعل ما تؤمر... فهو ايضا ابتدأ كلامه بخطاب عاطفي (يا ابت) ثم طلب منه ان ينفّذ ما اُمر به مهما كان. وهذا التعبير يدل على انه كان يُلحّ على ان لا يتهاون ابوه في تنفيذ ما امر به.

وتعليق الطلب بالامر دون ان يطلب منه نفس العمل يفيد انك لا بد لك من العمل بما أمرك به ربك لانه أمر ربك حتى لو كان بتفجير العالم برمّته فكيف اذا كان الامر ذبح ابنك؟

ستجدني ان شاء الله من الصابرين... فهو واثق من نفسه ومن ايمانه فيؤكد لابيه دون اي ارتياب اوترديد انه سيكون من الصابرين، ولكنه لادبه امام ربه ولايمانه ان لا حول ولا قوة الا بالله يعلق تأكيده هذا على مشيئة الله تعالى.

ومثله ما ورد فيما حكى الله سبحانه من كلام شعيب عليه السلام بعد ان طلب منه قومه ان يعود الى ملتهم: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله..) الاعراف: 89، فالانبياء المعصومون انما عصمهم الله تعالى بلطفه ولا عصمة لهم بالذات.

ومن ادب اسماعيل ايضا انه لم يقل ستجدني صابرا بل قال من الصابرين فهو ليس منفردا بالصبر في طاعة الله تعالى وان كان صبره غريبا بل يكاد يكون منحصرا فيه، الا انه لتواضعه يعتبر نفسه من مجموعة العباد الصابرين.

وهكذا ينبغي ان يكون العبد الصالح في طاعة ربه. ولذلك امر الله تعالى مريم عليها السلام ان تركع مع الراكعين (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) آل عمران: 43، حتى لا يشعر الانسان بان له ميزة عن سائر العباد. ولذلك ايضا امرنا الله بحضور الجماعة.

فلمّا أسلما وتلّه للجبين... اي أسلما أمرهما الى الله تعالى. و(تلّه) اي صرعه ووضعه على الارض كما يوضع الكبش للذبح. والجبين طرف الجبهة. ولم يرد في الآية جواب الشرط وانما عطف عليه النداء بابراهيم ان قد صدقت الرؤيا، وانما حذف الجواب ليذهب ذهن السامع فيه كل مذهب.

 وهذه شهادة من الله تعالى بأنهما أسلما، ولو كان في نفسيهما الشريفتين مثقال ذرة من الترديد لم يشهد لهما الله تعالى بذلك، فالاسلام الحقيقي هو التسليم لامر الله تعالى الى هذا الحد الذي بلغه ابراهيم واسماعيل عليهما السلام.

واين هذا مما ندعيه من الاسلام ونحن نحاول ان نتهرب مما امرنا الله تعالى به من التكاليف التي هي في وسعنا ولا يكلف الله نفسا الا وسعها؟!

نعم نطيع الله ما درت معايشنا وما لم يعارض التكليف مصالحنا فاذا بلغنا موارد الابتلاء الصعب تجد اكثر المتقين يبحثون عن مهرب وملجأ وتأويل، وبعض ذلك صعب في الواقع فاذا صرف الشاب زهرة ايام حياته في سبيل الحصول على تخصص ثم وجد عملا في ذلك المجال يدرّ عليه مكسبا يعتدّ به ولكن اعترض سبيله الحكم الشرعي بان العمل في هذا المجال محرّم فمن الصعب جدا ان يتّقي ربه ويبحث عن عمل آخر لا يناسب تخصّصه.

ولكن هذا التورع مهما كان فهو ليس كمن يسلم أمره الى الله تعالى في التضحية بنفسه ويواجه اعداء الدين بصدر رحب مستقبلا الشهادة في سبيل الله. وهذا ايضا أسهل بكثير من ان يسلم الفتى اليافع امره الى الله تعالى ويستقبل بصدر رحب ان يذبحه ابوه كما يذبح الخروف مع كل الحب والحنان الذي بينهما.

حقا انه مدهش لا يمكن ان يقارن بما يحكى من التضحيات مهما كانت عظيمة. هذا هو الاسلام الحقيقي.

فلما اسلما.. اسلم الاب لذبح ابنه والابن ليذبح على يد ابيه لا لوحي مباشر من الله تعالى، ولا لرسالة جاء بها ملك من السماء، بل لمجرد رؤيا رآها الاب فعلما ان ذلك هو ما يريده الله تعالى، وهذا يكفي للمسلم ان يسلم امره الى الله ويستسلم.

وناديناه أن يا ابراهيم * قد صدّقت الرؤيا... لم تذكر الآية ما ورد في بعض الروايات من انه أمرّ السكين على حلقه وانه لم يقطع وانما المذكور هو انه لم يتردد في التنفيذ فأرقد ابنه الحبيب على الارض مستعدا للذبح وفجأة جاءه النداء الالهي ان يا ابراهيم قد صدّقت الرؤيا مع انه لم يكمل ولم يذبح ولكن ما هو المهم هنا ليس ذات العمل بل النية الخالصة والاخلاص للّه تعالى.

بل الامر كذلك في سائر الاعمال فالله تعالى غني عن عبادة الخلق لا ينظر الى عبادتهم وصلاتهم وركوعهم وسجودهم وانما ينظر الى اخلاصهم، ولعل صلاة المريض الراقد المومي في الركوع والسجود ينال موقعا من القرب لدى الله سبحانه لا يناله اكثر العبادات مشقة وتعبا ونشاطا.

وانما يطلب من العبد الاكثار من العمل لعله يحصل على الاخلاص المطلوب في بعضها. ولذلك ورد في الروايات ان الله تعالى قدّر النوافل ضعف الفرائض لكي يكمل بها نقص الفرائض لانه تعالى لا يقبل من الصلاة الا ما اقبل فيها العبد على ربه.

ولعل العبد يعمل كل ما امر به ويكرره مرارا ولا يخاطب بما خوطب به ابراهيم واسماعيل عليهما السلام، فهناك منا من يحج كل عام ولا ينادى في ملكوت السماوات ان قد اطعت ربك. وليس ذلك الا لان جوهر العمل هو الاخلاص وهو ما تفقده اعمالنا. وابراهيم عليه السلام خوطب بالنداء مع انه لم ينجز العمل لان الله تعالى علم منه الاخلاص والتسليم.

وهل كان النداء بواسطة ملك ام انه تعالى خاطبه بخلق الصوت فسمعه ابراهيم عليه السلام؟ يحتمل الامران.

انا كذلك نجزي المحسنين... اي انما نحكم بأنّك قد صدّقت الرؤيا قبل تنجيز العمل لأنك من المحسنين. والمراد احسان العمل بالاخلاص فيه لا العمل بالحسنات.

وهذه الجملة تفيد أن هذا المضمار مفتوح للجميع وانّ جزاء الله تعالى لا يختص باحد وانما يتبع العمل والاخلاص اينما كان.

ان هذا لهو البلاء المبين... البلاء هو الامتحان. والمبين: الواضح والموضح. وهذا البلاء واضح لم نجد امتحانا اوضح وابين منه، وهو موضح يفصح عن اخلاص ابراهيم واسماعيل عليهما السلام وقوة ايمانهما.

وفي الجملة تاكيد من وجوه وهي: إنَّ ولام القسم وضمير الفصل وكون الخبر محلى بلام المعرفة المفيد للحصر، اي انه ليس هناك بلاء مبين غيره. وهذا غاية في التأكيد.

وفديناه بذبح عظيم... الظاهر أنّ هذه الجملة من تتمة الخطاب. والفدية ما يدفع عوضا عن الشيء. وورد في الروايات ان الله تعالى ارسل له كبشا ليذبحه بدلا من ذبح ولده. والذبح بمعنى المذبوح سمي الكبش به لانه يذبح.

وربما يقال: لماذا الفدية فهذا عبد امره الله بأمر وتبيّن استعداده لانجازه فرفع الله التكليف فلماذا الفدية؟

لعل السر فيه انه بقي في نفس ابراهيم عليه السلام حزازة وضيق من عدم تمكنه من امتثال امر الله تعالى ولو من جهة رفع التكليف. وهذا غاية في الايمان والاخلاص فابراهيم يشعر بالضيق لان الله تعالى رفض منه الاستمرار في التضحية ولم يوفقه للامتثال النهائي.

نعم هكذا يكون العبد المحب المخلص للّه تعالى. والله تعالى ايضا يحب عبده المخلص فلا يرضى ان تبقى في نفسه حزازة بل يرفعها عنه بهذه الفدية.

واما توصيفه بالعظيم فلعله لعظم جثته كما يقال، او ان ذلك اشارة الى ان كل ما يذبح في منى منذ ذلك العهد انما هو فداء لاسماعيل اوجبه الله تعالى على العالمين تخليدا لذكرى هذا الايمان والاخلاص العظيمين.

وتركنا عليه في الاخرين... مر تفسير هذه الآية .

سلام على ابراهيم... هذه الجملة وردت في ذيل كل قصة من قصص المرسلين المذكورة في هذه السورة. والسلام هو السلامة فكل من يسلم على احد يدعو له بالسلامة. وحيث ان السلامة من الله تعالى فاذا كانت الجملة منه كان معناها ان السلامة عليه واقعا وليس بمعنى الدعاء. واطلاقه يقتضي ان يكون المراد السلامة من كل ما يضر بالانسان ضررا واقعيا، وهي بصورة كاملة لا تتحقق الا في الجنة فان الدنيا مليئة بالمضار، ولكن السلامة الثابتة للانبياء والمعصومين في الدنيا سلامة عن الشرك والآثام وكل ما لا يليق بهم.

كذلك نجزي المحسنين * انه من عبادنا المؤمنين... مر تفسير الآيتين. وقد تكررت الآية الاولى هنا خاصة دون سائر قصص الانبياء عليهم السلام حيث ورد ذكرها بعد قوله (قد صدقت الرؤيا) ولعل السر فيه الاهتمام بهذا الامر الذي اختص به ابراهيم عليه السلام حيث قبل الله منه عزمه على العمل بما امر به مع انه لم يكمله وانما صدرت منه المقدمات، ثم كرر الجملة هنا للاشارة الى ما انعم الله عليه من الانقاذ من النار، ومن كيد الكافرين، واستجابة دعائه بالولد الصالح، وغير ذلك.

وبشّرناه باسحاق نبيّا من الصالحين... هذه البشارة الثانية لاستجابة دعائه بالولد. واسحاق ولد له من زوجته سارة، وكانت البشارة به حينما نزلت الملائكة عليه يعلمونه بنزول العذاب على قوم لوط عليه السلام، ولوط كان نبيّا مرسلا ولكنه لم يكن صاحب شريعة، وانما كان يبلّغ شريعة ابراهيم فهو من اتباعه عليهما السلام.

ولم يذكر في القرآن السرّ في نزول الملائكة على ابراهيم بخبر العذاب مع تكرّر ذكر القصة. ولعل السرّ فيه أنّ الملائكة وبامر من الله تعالى ما كانوا لينزلوا العذاب على قوم يعتبرون تبعا لامة الرسول الا بعد استئذانه او اعلامه على الاقل، وفي القرآن انه عليه السلام اخذ يجادلهم بشأن قوم لوط ويطلب منهم الامهال، وهذا ينبئ عن غاية لطفه وحنوه على الناس كما يبدو من آيات اخرى ايضا كقوله تعالى (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ابراهيم: 36، ولذلك وصفه الله تعالى في هذا المقام بانه أوّاه حليم.

وكأنّ الملائكة قدمت له هدية قبل اخباره بنزول العذاب على قوم لوط وهي البشارة باسحاق عليه السلام وذلك بعد ان بلغ هو وزوجته الكبر، ولذلك صكّت وجهها وقالت عجوز عقيم (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) هود: 73، وابراهيم عليه السلام استغرب ايضا ذلك و(قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ) الحجر: 54-55.

واما قوله تعالى (نبيا من الصالحين) فكل من النبوّة والصلاح حال عن اسحاق عليه السلام. ولكن لا بد من تأويله اذ لم يكن حين البشارة موجودا حتى يوصف بالنبوّة والصلاح، ولعل التقدير (مقضيا فيه كونه نبيّا ومن الصالحين) ولعل المراد بالصلاح هنا صلوحه لنيل القرب من الله سبحانه.

وباركنا عليه وعلى اسحاق... البركة بمعنى الثبوت، مأخوذ من برك البعير اي استناخ، ومنه البِركة مجمع الماء، فالبَرَكة بمعنى الشيء الثابت، والبركة من الله بمعنى ثبوت الخير واستقراره، وهناك من الخير ما يقوم بأمر زائل نظير ما يفعله الانسان من اعمال الخير، والبركة من الله تعالى خير دائم.

ولعل مصداقها في هذه الآية النسل الكثير، او انّ الله تعالى جعل من نسلهما كثيرا من الانبياء فان اكثر الانبياء المذكورين في القرآن من بني اسرائيل اي اولاد يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم عليهم السلام، او المراد بها ما يشمل ذلك وسائر ما انعم الله تعالى به عليهما في الدنيا والآخرة، فان الله تعالى جمع لابراهيم عليه السلام خير الدنيا والآخرة، قال تعالى (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) العنكبوت: 27.

ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين... لعل هذا التعقيب لاستدراك ما يمكن ان يستوجبه التصريح بالبركة عليهما من اعجاب في النفس بالنسبة لذريتهما كمشركي مكة، وكما هو المشهود من بني اسرائيل طيلة التاريخ، فهذه الجملة تبين انهم ليسوا كلهم سائرين على نفس الدرب فمنهم محسن، ومنهم ظالم لنفسه، ومنهم من ظلمه بيّن واضح لا يمكن في حقه اي توجيه وتاويل كالمشركين، والذين قتلوا النبيين، واعلنوا الكفر، وتعاونوا مع الظلمة.

وظلم الانسان لنفسه يشمل كل اثم ومعصية لانه بذلك يخسر ثواب الآخرة بل يوقع نفسه في معرض العقاب الاليم وربما الابدي.