كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا...
قيل ان ذكر قصة ثمود للاستشهاد على ما ذكر من خيبة الفاجر وأن المقسم عليه هو قوله تعالى (قد افلح من زكاها..).
ولكن قلنا ان الاحتمال الاقوى ان تكون هذه الجملة هي المقسم عليها وانها هي المقصودة من السورة بالاساس والآيتان السابقتان مكملتان لالهام النفس فجورها وتقواها.
والغرض تهديد كفار مكة وزعماء قريش أن مصيرهم قد يكون مصير ثمود وهم كانوا عارفين بتاريخهم فان ثمود من القبائل القديمة التي كانت تعيش في الجزيرة العربية وكانت آثارهم باقية الى ذلك العهد بل هي باقية ــ على ما يبدو ــ الى زماننا وقد استخرجت آثارهم من تحت الرمال قال تعالى (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ).[1]
وهم اصحاب الحجر الوارد ذكرهم في قوله تعالى (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ)[2] وهي مدينة بائدة ورد ذكرها في التواريخ القديمة ويقال انها المعروفة بوادي القرى بين المدينة والشّام، وما يعرف اليوم باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك. واللّه العالم.
وطغوى مصدر كالطغيان والباء للسببية اي ان الموجب لتكذيبهم لرسولهم صالح عليه السلام هو طغيانهم والا فالحجة كانت تامة عليهم وقد أتاهم بآية واضحة كما هو الحال في تكذيب قريش للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.
وقيل المراد بالطغوى العذاب الذي نزل عليهم فهم ما كانوا يصدّقون انه ينزل. وذلك بقرينة قوله تعالى (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ)[3] اي العذاب الذي احاط بهم وتجاوز الحد المتعارف وكل شيء يتجاوز الحد فهو طاغ.
ولكنه بعيد جدا.
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا...
(اذ) ظرف للطغوى فان قتلهم للناقة هو غاية طغيانهم على الله تعالى لانها الآية التي طلبوها من رسولهم كما قال تعالى (مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).[4]
والانبعاث مطاوعة للبعث فيدل على أن هناك بعث له ويظهر منه أن القوم بعثوه لقتلها وسياق الآيات التالية ايضا يقتضي ذلك وهكذا سائر ما ورد في قصتهم من الآيات حيث تدل على انهم باجمعهم شاركوا في قتلها مع ان العاقر شخص واحد.
روي عن امير المؤمنين عليه السلام أنه قال (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَالسُّخْطُ وَإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا..).[5] اي عمّوا العقر وهو فعله او عمّوا العاقر والمعنى أنهم عامة رضوا بفعله.
وقيل: ان (اذ) ظرف للتكذيب. والاول اولى.
والشقاء والشقوة خلاف السعادة والاصل فيها ــ كما قيل ــ العسر والتعب والمعاناة.
والضمير يعود الى قوم ثمود وتأنيثه بتأويل الجماعة والمراد به عاقر الناقة وتوصيفه بأنه أشقى القوم بسبب فعلته هذه لا أنه كان قبل ذلك أشقاهم.
وانما كان أشقى القوم لانه باشر العمل بيده وان كانوا جميعا طاغين على ربهم وهذا من تهوّر الانسان الغبيّ الذي يرتكب ما لا يرتكب غيره من الظلم والجريمة النكراء ويعتبر ذلك شجاعة ينفرد بها دون غيره.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا...
عطف على التكذيب لا على الانبعاث لانه كان بعد هذا القول. ورسول الله اليهم صالح عليه السلام.
والنصب في قوله (ناقة الله) على التحذير وكل ما يحذّر منه ينصب بتقدير إحذر اي إحذروا ناقة الله وسقياها فلا تتعرضوا لهما.
وكان من قصتهم حسبما ورد في القرآن انهم طالبوا نبيهم بآية واضحة تدل على رسالته فأخرج الله تعالى لهم ناقة من الجبل آية واضحة وأعلمهم أن الماء قسمة بينهم فلهم يوم يشربون هم وأنعامهم والناقة تشرب يوما وكان ذلك من أعظم آياته تعالى ولكنهم ضاقوا بها ذرعا وأرادوا قتلها فحذّرهم صالح عليه السلام أن لا يتعرضوا لها ولا لسقياها بأن يسقوا أنعامهم يوم شربها والا فسينزل عليهم العذاب.
وقد ورد ذكر قصتهم في مواضع من القرآن الكريم.
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا...
اي كذبوه في تحذيره فهذا تكذيب آخر غير التكذيب الاول المتعلق برسالته عليه السلام. وعلى اثر التكذيب عقروا الناقة.
والعقر: الجرح والقطع، وعقر الفرس او البعير قطع قوائمه، ويطلق على النحر ايضا لانهم كانوا يعقرون الابل ثم ينحرونها مستمكنين منها فاطلق العقر على النحر.
والدمدمة ــ على ما في العين ــ الهلاك المتأصل. وقال الصاحب في المحيط انه الهلاك المستأصل.
والظاهر أن الاصل فيه تكرار الدمّ كالذبذبة والزلزلة والكبكبة. والدمّ ضرب الشيء وطحنه فالدمدمة تكرار الضرب والطحن عليهم بحيث آل الى تسويتهم.
وقيل الدمدمة بمعنى التسوية اي سوّى الارض عليهم ولكنه لا يناسب قوله (فسواها) اذ يكون تكرارا.
والتعبير بالرب لبيان غاية شقائهم فان ربهم الذي اهتم بتربيتهم لم يرحمهم بل أهلكهم واستأصلهم.
والباء في قوله (بذنبهم) للسببية والقصد منه تنبيه الانسان بمدى خطورة الذنب فليحاسب كل مذنب نفسه ويتوقع من الله تعالى العقاب.
والظاهر أن الضمير في قوله (فسواها) يعود الى قوم ثمود باعتبارهم جماعة لا الى الارض اي سواهم بالارض وهوكناية عن اهلاكهم بأجمعهم لم يبق منهم أحد حتى الاطفال. ولا يمكن حمله على حقيقته بمعنى تسوية بيوتهم بالارض لان آثارهم باقية.
وقيل الضمير يعود الى الدمدمة اي سواها بينهم فلم يفرق بينهم في العذاب.
وهو بعيد.
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا...
العقبى كالعاقبة والعقاب والعُقب تبعة الشيء من خير وشر. والغالب في العقاب الاستعمال في الشر والعاقبة في الخير.
والضمير يعود الى الدمدمة وفاعل (يخاف) ضمير يعود الى الله تعالى كما هو واضح.
ولكن بعضهم اعاده الى عاقر الناقة اي لا يخاف عاقبة فعلته وبعضهم الى صالح عليه السلام اي لا يخاف عاقبة الدمدمة التي من الله تعالى.
وانما ارتكبوا خلاف الظاهر لاستبعادهم نفي الخوف عن الله تعالى اذ لا موجب لتوهم خوفه تعالى من شيء مطلقا ولا يمكن ان يخاف شيئا فكل الامور بيده والخوف لا يكون الا مع الجهل بالعواقب وهو تعالى منزه عنه.
ومن أعاده اليه تعالى اضطر الى توجيه هذا الاسناد فقيل ان المراد انه لا يخاف كما يخاف الملوك عاقبة اعمالهم.
وهذا لا يبرر اسناد ما لا يناسب شأنه تعالى فان النفي لا يصح الا في مقام يمكن الاثبات ولو في مورد اخر.
وقيل ان المراد انه تعالى غالب لا يخاف ثأر المغلوب.
وهو كسابقه فهو تعالى لا يخاف اي شيء.
والظاهر انه كناية عن عدم اهتمامه تعالى بهم وأنهم لا قيمة لهم عنده او كناية عن أنّه تعالى لا يبالي بأن يهلك قوما بأجمعهم بل يهلك من في الارض جميعا فإنّ بعض النفوس يستبعد ذلك والقرآن يصرّح بأنّ ذلك ليس على الله بعزيز كما قال تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).[6]
وهذا الاستبعاد من البشر امر خطير يتسبب في تطاوله على الله تعالى والاستخفاف بمعاصيه نعوذ بالله من ذلك.
والحمد لله اولا واخرا وظاهرا وباطنا والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمد واله الطاهرين وسلم تسليما كثيرا.
[1] العنكبوت: 38
[2] الحجر: 80
[3] الحاقة: 5
[4] الشعراء: 154- 155
[5] نهج البلاغة ص 319 الخطبة 201
[6] المائدة: 17