اللّه الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ... حيث كان الكلام في الآية السابقة حول محاجّتهم في اللّه تعالى ساق الحديث في هذه الآية عن فعل من أفعاله تعالى يرتبط بالبشر، وبه يمتاز الخبيث منهم عن الطيب وهو انزال الكتاب والشريعة. والباء في قوله (بالحق) للمصاحبة اي أنزل الكتاب مصاحبا للحق، والحق هو ما يطابق الواقع، فليس في هذا الكتاب كذب او خطأ، ولا امور وهمية او تخيلات، بل هو مطابق للواقع تماما. والميزان معطوف على الكتاب، وهو ما توزن به الاشياء. وقد ورد ذكره في سورة الحديد ايضا، قال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..).[1]
ويبدو من التعليل أنّ الميزان وسيلة لاقامة القسط في المجتمع، وهو الدين الذي يحدّد للناس حقوقهم الاجتماعية والحدود الشرعية. وهذه الاحكام ليست كلها مذكورة في الكتاب فليس عطفا للجزء على الكل كما قيل بل كثيرا ما تكون الروايات مستند الاحكام الاجتماعية والحدود الشرعية. وبذلك يتبيّن أنّ وجه التسمية بالميزان أنّه مناط تحقيق العدالة في المجتمع. ويمكن أن يراد به مطلق الاحكام الشرعية لأنّها ميزان الاعمال يوم القيامة، وعلى أساسها تحاسب الاعمال ليجزى الانسان بها. ويؤيّد هذا الاحتمال الجملة التالية.
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ... اي ما يدريك ايها الانسان بزمان قيام الساعة التي تحاسب فيها على عملك، وينصب لك الميزان فلعله قريب. و(ما) للاستفهام ويفيد الانكار، اي ليس هناك شيء يدريك عن وقت الساعة. وحكي عن ابن عباس أنّه قال: (كلّ ما في القرآن "ما أدراك" فقد أدراه، وكلّ ما فيه "ما يدريك" فقد طوي عنه).
والفرق من جهة اللفظ أنّ نفي الدراية في الماضي لا ينافي الدراية في المستقبل، ولكنّ نفيها في المستقبل معناه أنّه ليس هناك شيء يدريك أبدا، ومن حيث التطبيق على الموارد أنّه تعالى عقّب قوله (ما أدراك) في جميع موارده بما يبيّن حقيقة ذلك الأمر نوعا مّا، كقوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ)[2] وقوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)[3] وقوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[4] وقوله تعالى (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ).[5]
ولم يبيّن حقيقة الامر في تعقيب موارد قوله (ما يدريك) وهي ثلاثة مواضع: اثنتان في تحديد وقت الساعة ولا يعلم به أحد، احداهما هذا المورد، والاخرى قوله تعالى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا)[6] وواحدة لا يخاطب فيها النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم، بل من كان يمنعه من التوجّه الى الفقراء، قال تعالى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى)[7] والتزكّي من الغيب فلا يعلمه أحد.
وقد وقع الكلام في وجه قوله تعالى (لعل الساعة قريب) حيث لم يقل (قريبة) ليوافق التأنيث في الساعة. وذكرت فيه وجوه عديدة: منها تقدير مضاف للساعة، فيكون اسم لعل (اتيان الساعة) او (حلول الساعة) ونحو ذلك. ومنها تأويل الساعة بعنوان مذكر كالبعث. ومنها أنّ القريب بمعنى ذات قرب، كما يقال في اللابن والتامر، وغير ذلك من الوجوه البعيدة. والامر لا يختص بهذه الآية قال تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللّه قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[8] ومثله التوصيف بالبعد قال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ).[9] وأفضل ما قيل في هذا الباب ما حكي عن الفراء من أن القرب والبعد إن اُتي بهما لبيان القرابة النسبية وانتفائها لوحظ فيهما التذكير والتأنيث وان اتي بهما لبيان القرب والبعد المكاني او الزماني ولو تجوّزا لم يلاحظ التذكير والتأنيث، للفرق بين المعنيين ولأن الصفة في الواقع صفة للمكان او الزمان وليس معناه تقدير كلمة مكان ليختل النظم والتركيب بل بمعنى أن تذكير الصفة بلحاظ انها في الواقع للمكان ولو تجوّزا.
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا... وذلك حيث كانوا يقولون (متى هذا الوعد ان كنتم صادقين) ونحو ذلك. وهم يستعجلون بها استهزاءا وتكذيبا. والمراد بهم كل من لا يؤمن بالآخرة ومنهم مشركو مكة والجزيرة العربية، فإنّهم كانوا لا يؤمنون بها، كما ورد التعبير عنهم بذلك في موارد اخرى من الكتاب العزيز.
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا... الاشفاق هو الخوف. والمؤمنون انما يشفقون منها خوفا من نتائج اعمالهم. وحقّ لهم أن يخافوا فإنّ عذاب اللّه شديد، والانسان لا يأمن من عمله، اذ لا يعلم ما يقبل منه وما يردّ، وهو يعلم من نفسه أنّه كثيرا ما أتى بما لا ينبغي، فهو لا يرجو الا رحمة ربّه، ولا يعلم هل يستحقها ام لا.
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ... لايمانهم برسالة السماء، وبالكتب النازلة من عند ربهم، فلا يبقى لهم شك في أنّ الآخرة حق. ويتبيّن منه أنّهم لم يشفقوا منها لمجرد احتمال حدوثها بل لعلمهم أنّها الحقّ. والالف واللام في (الحق) يدلّ على الحصر والمراد الحصر الاضافي.
أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ... المراء والمماراة: المجادلة، والاصل فيها المرية بمعنى الشك، ولعل الاطلاق من جهة أنّ المجادل يحاول إلقاء الشك في قلب الخصم. والضلال البعيد بمعنى أن يضلّ الانسان عن الطريق الصحيح، ويذهب بعيدا بحيث لا يؤمّل منه أن يهتدي، او يصعب عليه الرجوع الى الجادّة. وانّما صدق عليه هنا الضلال البعيد لأنّـه لم يكتف بالترديد والشك، بل قام يجادل المؤمنين فيها، وهو لا يعلم شيئا عنها، فالشك وعدم العلم لا يمكن أن يكون منصّة للمجادلة والنقاش، بل حتى للانكار خصوصا في ما لا يمكن إدراكه بالطرق الطبيعية. والمجادلة ليست بمعنى البحث والنقاش لتكون وسيلة للمعرفة بل بمعنى محاولة إلقاء الشك من دون الاستناد الى طريق علمي.
اللّه لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ... اللطف له معنيان: الرفق بالشيء، والثاني الدّقّة وصنع الاشياء الدقيقة والوصول الى الاهداف بخفية. ولعل من الاول قوله تعالى (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللّه وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللّه كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)[10] ويحتمل ان يكون من الثاني كما أن منه قوله تعالى حكاية عن سيدنا يوسف عليه السلام: (يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا... إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ..)[11] وقوله تعالى في سورة لقمان (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّه إِنَّ اللّه لَطِيفٌ خَبِيرٌ).[12]
وهنا يحتمل الامران فانه تعالى يرزق الناس رأفة بهم ورحمة عليهم كما يرزقهم بطرق خفية ودقيقة. ويمكن إرادة المعنيين معا بأن يكون المراد انه تعالى لرفقه بعباده يوصلهم الى رزقهم ولو خفية وبطريق غير مباشر، فهناك رزق متوقّع يطلبه الانسان بالطرق العادية المتعارفة ويصل اليه. وهناك من الرزق ما يصل الى الانسان من حيث لا يحتسب. ولكن الأنسب من جهة تعدي اللطف بالباء إرادة الرفق بهم. والتوصيف بالوصفين الكريمين (القوي العزيز) تعليل لما مرّ من التعليق بالمشيئة الالهية، فإنّه تعالى يقوى على ما يريد، ولا يمنعه شيء، وهو معنى العزّة والغلبة.
وتناسب هذه الآية مع سابقتها حيث كان الحديث عن الآخرة من جهة أن الرزق يشمل رزق الدنيا ورزق الآخرة كما يشمل ايضا الرزق المادي والمعنوي، بل الثاني هو الرزق الواقعي، لأنه يتعلق بالحياة الابدية. وهذه الآية مقدمة ايضا للآية التالية حيث انه تعالى يرزق كل صنف ما يناسبه.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ... الحرث قيل: هو الزرع، وقيل: إلقاء البذر في الارض، وقيل: إثارة الارض للزرع، وقيل: العمل في الارض زرعا كان او غرسا، وقيل: معناه مطلق الكسب والجمع، وقيل غير ذلك. ولو كان المعنى الزرع ونحوه، فالمراد ما يحصل منه من ثمر ونحوه. وهذا استعارة لما يحصل من عمل الانسان في الدنيا والآخرة، وتشبيه له بمن يحرث الارض ليزرع ويحصد.
والعمل ــ مهما كان ــ تارة تقصد به الآخرة، وتحصيل رضا اللّه تعالى وثوابه، وتارة تقصد به منافع الدنيا فحسب. فالاول يريد حرث الآخرة، واللّه تعالى يبارك له فيه ويزيد في حرثه أضعافا مضاعفة، بل الى ما لا نهاية له، فانه يبلغ الى مكان له فيها ما يشاء، فيكون الوصول الى غاية ومقصود لا يحتاج الا إرادته. والثاني يريد حرث الدنيا فقط، وهو يصل الى شيء منه، ولا يصل الى غايته القصوى أبدا، لأنّ طمع الانسان لا ينتهي الى حدّ، فهو يصل نادرا الى كثير من مآربه. والغالب منهم لا يصل الا الى مقدار ضئيل من مقاصده. وأمّا في الآخرة فلا نصيب له بتاتا، وذلك لأنّه لم يقصد بعمله الا الدنيا. وأمّا الذي عمل للآخرة فانه يحصل على نصيبه من الدنيا، وربّما يكون رزقه في الدنيا واسعا ايضا.
وهكذا يتبيّن أنّ اللّه تعالى كيف يلطف ببعض عباده، فيرزقه رزقا واسعا في الدنيا والآخرة. ويتبيّن من الآية أنّ المناط في القسمين هو القصد، فربّما كان الانسان بكسبه وتجارته يقصد الآخرة، وربما يقصد بعبادته الدنيا حتى لو لم يكن مرائيا، فهناك من الناس من يعبد اللّه تعالى ولا يريد منه الا أن يزيد في رزقه المادّي، او يوصله الى مآربه الدنيوية.
[1] الحديد: 25
[2] المدّثّر: 27- 29
[3] الانفطار: 17- 19
[4] القدر: 2- 3
[5] البلد: 12- 14
[6] الاحزاب: 63
[7] عبس: 3
[8] الاعراف: 56
[9] ق: 31
[10] الاحزاب: 34
[11] يوسف: 100
[12] لقمان: 16