أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللّه... (أم) منقطعة ففيها معنى (بل) للاضراب عن السياق السابق، وهمزة الاستفهام للاستنكار، فالآيات السابقة كانت تبيّن ما شرع اللّه تعالى لعباده من الدين، وما يترتب على العمل به من نتائج. وهنا يضرب عنه وينتقل الى شق آخر وهو السؤال عنهم: هل لهم شركاء شرعوا لهم دينا غير ما شرّعه اللّه؟ والمراد بهم من يدّعون لهم الشركة في الربوبية، فهم بزعمهم شركاء لله تعالى، وإضافتهم اليهم بهذا الاعتبار. والمراد بالشركاء كل من يعتقدون فيه الشركة في الربوبية ومنها تشريع الاحكام وهذا السؤال للاستنكار، اذ لا يحقّ لأحد ان يشرّع قانونا الا باذن اللّه تعالى، فانّ الحكم ليس الا له، وخصوصا فيما اذا شرّع اللّه أمرا فلا يجوز لاحد مهما كان أن يشرّع ما يخالفه، فالمقصود من هذه الجملة الاستغراب من رفضهم لشريعة اللّه تعالى اذ ليس لها معادل فمن لا يلتزم بمتابعة شرع اللّه باي قانون يلتزم مع انه لا يملك احد حق التشريع؟!
وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ... المعروف في التفاسير أنّ المراد بالكلمة إمهال الانسان الى يوم القيامة، وعدم التعجيل في عذابه، وأنّ المراد بالقضاء بينهم هو تنفيذ الحكم الجزائي عليهم في هذه الحياة. وقد ذكروا مثل ذلك في الآية (14) من هذه السورة، أي قوله تعالى (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ولكن لو صحّ ما ذكروه هناك فلا يصح هنا لعدم مناسبته للتعبير عن الكلمة بكلمة الفصل. وقلنا في تفسير تلك الآية إنّ المراد بالكلمة ارادته تعالى المتعلقة بابتلاء الانسان، وبقاء الامر مبهما الى يوم القيامة، حيث تتبين الحقائق، وينكشف الغطاء، وهو المراد بالقضاء بينهم. وهنا نقول إنّ كلمة الفصل ــ على الظاهر ــ هي ما تُظهر الحق يوم القيامة، وتفصل بين الحق والباطل، اي ولولا أنّ كلمة الفصل يجب أن تظهر في ذلك اليوم لقضي بينهم في هذه النشأة، وتبيّن الحقّ من الباطل. والضمير في قوله (بينهم) يعود الى البشر.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ... وهذا هو الحكم الذي يفصل بين الحق والباطل يوم القيامة. والظلم ــ كما قلنا مرارا ــ لا يختصّ بالعدوان على أحد، بل كل ما يصدر من الانسان في غير موضعه يعدّ ظلما. ومنه إطاعة الطاغوت وكل مشرِّع بدون اذنه تعالى.
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ... الخطاب في قوله (ترى) لكل مخاطب فهو ترسيم لحالة الظالمين ــ الذين مر ذكرهم آنفا ــ يوم القيامة، وهم ينتظرون ما سينزل بهم، وحالتهم حالة الاشفاق والحذر، والاشفاق: الخوف. وهو يقابل بيان حالة المؤمنين في آية سابقة (والذين آمنوا مشفقون منها) فهم كانوا مشفقين في الدنيا وأفادهم ذلك حيث اتقوا ما يستلزم العذاب واما الظالمون فلم يشفقوا في الدنيا حين كان لهم مجال الحذر والتوقي وانما اشفقوا مما كسبوا اي من عملهم بسبب العذاب المترتب عليه حينما كان عملهم او العذاب واقعا بهم، والظاهر أن الوقوع ضُمّن معنى الاحاطة فتعدّى بالباء والمراد بالاحاطة قرب تحققه اذ لا معنى للاشفاق بعد الوقوع والجملة حالية اي تراهم حذرين من العذاب الذي اكتسبوه بعملهم حال كونه واقعا ومحيطا بهم ومصيبهم عن قريب فلا فائدة في الاشفاق والحذر. وهذه الآية ممّا يدلّ بظاهره على تجسّم الاعمال لأنّ الضمير في قوله (وهو واقع) يعود الى ما كسبوا وهو ظاهر في نفس العمل، ويمكن تأويله بالجزاء فان الانسان يكسب الجزاء بعمله.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ... بعد بيان حال الظالمين وعاقبتهم يذكر حال المؤمنين الذين عملوا الصالحات، اي ما يصلحهم لدخول الجنة والتشرف بكرامة اللّه تعالى، ليكون حافزا لعمل الخير بعد بيان ما هو وازع عن الظلم ومتابعة الطاغوت.
وروضات الجنات مكان مميّز منها. قيل: إنّ الروضة الارض المخضرّة، وقيل: إنّها المكان الوسيع وقيل: المكان المونق الحسن. والجنة البستان كثير الشجر وملتفها بحيث يستر وجه الارض فالاضافة هنا بتقدير (من) اي في روضات من الجنات. والجمع باعتبار الافراد فكل منهم في روضة. ويظهر من العبارة أنّه ثواب خاص بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلعلّه لا يشمل من لم يعمل الصالحات بل ارتكب السيئات ثم تاب الى اللّه تعالى وان قبلت توبته. ويظهر اختصاص آخر ايضا، وهو أنّهم لهم ما يشاءون فلعل هذه ايضا ميزة خاصة وليس عاما لكل اهل الجنّة. وقد ورد هذا التعبير في موارد عديدة في شأن المتقين ومن خشي الرحمن بالغيب. وغاية التنعم للانسان أن يجد كل ما يشاء.
وقوله (عند ربّهم) متعلق بما تعلّق به (لهم) اي لهم عند ربهم ما يشاءون. ومعنى ذلك أنّه تعالى تعهد لهم أن يهيّء لهم كل ما يشاءون، وهناك فرق بين أن تقول: لك ما تشاء وأن تقول: لك عندي ما تشاء. وقيل: هو خبر ثالث، فهم في روضات الجنات، ولهم ما يشاؤون، وهم عند ربّهم، كما قال تعالى (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).[1]
ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ... إشارة الى ما مرّ من الجزاء. والفضل: الزيادة. ويطلق على كل ما يمنح زيادة على مقدار الاستحقاق. ولا شكّ في أنّ كل ما يعطيه اللّه تعالى أحدا فهو فضل، اذ لا يستحق أحد عليه شيئا. ولكن توصيفه من قبل اللّه تعالى بكونه فضلا كبيرا يدل على غاية العظمة.
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللّه عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... يعود السياق هنا ليؤكّد على قيمة هذا الامتياز الذي منحه اللّه تعالى بفضله الكبير لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فأشار اليه باسم الاشارة الخاص بالبعيد إيذانا بعظمته وعلوّ مكانه. وذكر أنّه بشارة من اللّه تعالى لعباده في الدنيا فتكون البشارة بذاتها ثوابا معجلا. والتعبير عنهم بالعباد مضافا الى الضمير العائد اليه تعالى يفيد نوعا من التشريف والاختصاص. وقوله (الذي يبشر اللّه) اي الذي يبشر به اللّه ليعود الى الموصول. ولعل في تكرار التوصيف بالايمان والعمل الصالح اشارة الى ما مر من كون هذا الثواب ميزة لهم في قبال من دخل الجنة بالتوبة فحسب.
قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى... المودّة: المحبّة. والحبّ أعم موردا من الود تقول اُحب الصلاة ولا تقول اودّها. والقربى مصدر بمعنى القرب، ولكن يستعمل في القرابة في النسب فقط، فقربى الانسان أقرباؤه في النسب بتقدير (ذوي القربى). والضمير في قوله (عليه) يعود الى القرآن او الى تبليغ الرسالة. و(في) للظرفية المجازية اي اظهار المودة بشأن ذوي القربى.
والظاهر من ذكر الاجر أن المراد استثناء أجر واحد للرسالة يطلبها الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأمر من اللّه تعالى، وهو التودّد الى قرباه. ولا شكّ في أنّ المراد ليس هو الحبّ في القلب اذ لا أثر له لو صح الامر به بل المراد إعلان الحب والتودّد اليهم. وقد أكّد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم على ذلك في أكثر من موطن. وكرره كثيرا حتى نقلته الرواة متواترا على الرغم من كثرة الدواعي السياسية لإخفائه.
وقد ورد في أحاديث الفريقين أنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم عيّنهم بقوله (هم علي وفاطمة وابناهما) كما في الكشاف وغيره. والروايات في ذلك عن طرقنا كثيرة جدّا، كما أنّ الروايات المطلقة في وجوب ولايتهم عن طرق القوم ايضا متواترة قطعا لا ينكرها الا معاند ختم اللّه على قلبه.
وفيما يلي نذكر بعض الاحاديث الخاصة بهذه الآية تيمنا:
روى البرقي في المحاسن باسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: ان الرجل يحب الرجل ويبغض ولده فأبى اللّه عز وجل الا أن يجعل حبنا مفترضا أخذه من أخذه وتركه من تركه واجبا، فقال: (قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى).
و عن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عز وجل (قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى) فقال: هي واللّه فريضة من اللّه على العباد لمحمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم في أهل بيته.
وعن حجاج الخشاب قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول لأبي جعفر الأحول: ما يقول من عندكم في قول اللّه تبارك وتعالى (قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى)؟ فقال: كان الحسن البصري يقول: في أقربائي من العرب، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: لكني أقول لقريش الذين عندنا: هي لنا خاصة، فيقولون: هي لنا ولكم عامة، فأقول: خبّروني عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم إذا نزلت به شديدة من خصّ بها؟ أليس إيّانا خص بها حين أراد أن يلاعن أهل نجران أخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، ويوم بدر قال لعلي وحمزة وعبيدة بن الحارث؟! قال: فأبوا يقرون لي، أفلكم الحلو، ولنا المرّ؟!
وعن عبد اللّه بن عجلان قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عز وجل (قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى)؟ فقال: هم الأئمة الذين لا يأكلون الصدقة ولا تحل لهم) [2]
وروى الكليني قدس سره في الكافي بسنده عن زرارة عن عبد اللّه بن عجلان عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) قال: هم الأئمة عليهم السلام. [3]
وروى ايضا بسنده عن إسماعيل بن عبد الخالق قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: أتيت البصرة؟ فقال: نعم، قال: كيف رأيت مسارعة الناس إلى هذا الامر و دخولهم فيه؟ قال: واللّه إنهم لقليل ولقد فعلوا وإن ذلك لقليل، فقال: عليك بالأحداث فإنهم أسرع إلى كل خير، ثم قال: ما يقول أهل البصرة في هذه الآية (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)؟ قلت: جعلت فداك إنهم يقولون: إنها لأقارب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم، فقال: كذبوا إنما نزلت فينا خاصة في أهل البيت في علي وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء عليهم السلام. [4]
وروى الصدوق قدس سره في الامالي قصة ورود سبايا أهل البيت الى الشام الى أن قال: فأقيموا على درج المسجد حيث يقام السبايا، وفيهم علي بن الحسين عليهما السلام وهو يومئذ فتى شاب، فأتاهم شيخ من أشياخ أهل الشام، فقال لهم: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وقطع قرن الفتنة فلم يأل عن شتمهم، فلما انقضى كلامه قال له علي بن الحسين عليهما السلام: أما قرأت كتاب اللّه عز وجل؟ قال: نعم. قال: أما قرأت هذه الآية (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)؟ قال: بلى، قال: فنحن أولئك. ثم قال: أما قرأت (وآت ذا القربى حقه)؟ قال: بلى. قال: فنحن هم. قال: فهل قرأت هذه الآية: (إنما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)؟ قال: بلى. قال : فنحن هم، فرفع الشامي يده إلى السماء، ثم قال: اللّهم إني أتوب إليك، ثلاث مرات، اللّهم إني أبرأ إليك من عدو آل محمد، ومن قتلة أهل بيت محمد، لقد قرأت القرآن فما شعرت بهذا قبل اليوم. [5]
وروى الحاكم النيسابوري في المستدرك بسنده عن عمر بن علي عن أبيه علي بن الحسين قال خطب الحسن بن علي الناس حين قتل علي فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال لقد قبض في هذه الليلة رجل لا يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون... ثم قال أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا الحسن بن علي وانا ابن النبي وانا ابن الوصي ... وانا من أهل البيت الذي اذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وانا من أهل البيت الذي افترض اللّه مودتهم على كل مسلم فقال تبارك وتعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم (قل لا أسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت.[6]
ورواه الهيثمي باختلاف عن أبي الطفيل ثم قال (رواه الطبراني في الأوسط والكبير وأبو يعلى باختصار والبزار بنحوه ..... ورواه أحمد باختصار كثير. وإسناد أحمد وبعض طرق البزار والطبراني في الكبير حسان). [7]
وروى الطبراني ايضا بسنده عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)، قالوا: يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال (علي وفاطمة وابناهما) رضي اللّه عنهم. [8]
ثم إنّ القرآن الكريم ينقل عن الرسل صلوات اللّه عليهم ايضا أنّهم خاطبوا اُممهم بعدم المطالبة بأجر على الرسالة مطلقا قال تعالى حكاية عن مجموعة منهم (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ..)[9] وهذا هو المتوقّع منهم. وهو أمر طبيعي، فالذي يبلّغ عن اللّه تعالى لا يطلب أجرا الا منه. ومن الواضح أنّ الرسل عليهم السلام حتى من تمكّن منهم من تأسيس دولة وتبعهم الناس كانوا يعيشون عيشة الفقراء، ويبتعدون عن مظاهر البذخ والتجمل كما يفعله الملوك والرؤساء. وملك سليمان عليه السلام انما كان معجزته من اللّه تعالى وكانت معيشته الشخصية معيشة الزهاد.
والرسل ما كانوا يطلبون لأنفسهم من الناس شيئا. ولكنهم كانوا يطالبون ــ بطبيعة الحال ــ من الذين آمنوا بهم أن ينفقوا اموالهم في سبيل اللّه. وبعض ذلك يجب أن يدفع الى الرسول من حيث إنه إمام الخلق ووليّ أمرهم ليصرفه في المصالح العامّة. ولكنّ ذلك لا يعتبر أجرا لأنّ الرسول لا ينتفع به لنفسه بل يعود النفع فيه الى الناس انفسهم.
واللّه تعالى أمر رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم ايضا بأن يعلن عدم مطالبته لأجر على الرسالة قال تعالى (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)[10] ولم يقل له بصيغة النهي (لا تسألهم أجرا) بل أمره أن يخبرهم بصيغة النفي لأنه ما كان يطلب ذلك فعلا كما أخبر عنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بقوله تعالى (وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)[11] ولكنه هنا طالب بأجر للرسالة، وهو المودّة في القربى، الا أنّه أوضح في موضع آخر أنّ هذا الاجر يعود نفعه اليهم، وليس أجرا له، فهو نظير ما يأخذه من الاموال لينفقها في المصالح العامة، قال تعالى (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللّه..)[12] والوجه في رجوع النفع الى الناس أنّ اللّه تعالى جعل ولايتهم أساسا للوحدة، ومانعا من التفرّق، كما قالت الصدّيقة الطاهرة عليها السلام في خطبتها العظيمة بعد وفاة أبيها صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: (فجعل اللّه الايمان تطهيرا لكم من الشرك... وطاعتنا نظاما للملّة وإمامتنا أمانا من الفرقة). [13]
وذلك لأنّ الوحدة المطلوبة في مقابل التفرق هي الوحدة في الاعتصام بحبل اللّه تعالى والا فالوحدة في سبيل آخر ليست مطلوبة، بل الواقع أنّ الناس أقرب الى الوحدة والاتفاق لولا الدين والالتزام به. وقد قال تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ..)[14] ويلاحظ أنّ دعوة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم أحدثت الاختلاف في بادئ الامر في المجتمع المكّي، ثمّ وحّدتهم تحت راية الإسلام. ولذلك لم يامر اللّه تعالى بالإتّحاد الا مع الاعتصام بحبله قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّه جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا..)[15] وفي رواياتنا أنّ ولايتهم عليهم السلام هي حبل اللّه المتين، ويدل عليه حديث الثقلين ايضا.
ولعل المراد بقوله تعالى (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا)[16] هو الاشارة الى أنّ هناك أجرا طلبه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم منهم ولكنه ليس لصالحه، بل هو سبيل الى اللّه تعالى عرّفهم به، فمن شاء أن يتخذ الى ربه سبيلا فعليه أن يتمسك به، وهو المودّة في القربى، وإن كان الاقرب في معنى الآية أنّ الاستثناء منقطع، ومعناه: ولكن من شاء أن يتخذ الى ربّه سبيلا فهذا هو السبيل. وبتعبير آخر لا اريد منكم اجرا وإنّما اردت ان آتيكم بسبيل الى ربكم لمن شاء ان يتخذ سبيلا اليه.
ومهما كان المعنى في هذه الآية وفي آية سورة سبأ فإنّ المراد بالآية التي نفسّرها واضح، وهو أنّ الرسالة لها أجر وإن كان الاجر لصالح الامّة ايضا، وهو المودة في القربى، أي قربى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم. ولعل التعبير بالاجر بنوع من المسامحة والتجوز لعدم صدق الاجر عرفا على ما لا ينتفع به صاحب العمل منفعة مادية.
ولكنّ القوم أبوا الا تأويل الآية وصرفها عن ظاهرها، وأصرّوا على إسناد ذلك الى ابن عباس، لدفع الاتّهام عن أنفسهم باعتبار أنّـه من القربى. روى البخاري (عن ابن عباس انه سئل عن قوله الا المودة في القربى فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلى اللّه عليه وسلم، فقال ابن عباس: عجلت، إنّ النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن بطن من قريش الا كان له فيهم قرابة، فقال: الا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة). [17]
وقد فُسّرت الآية بناءا على هذا الحديث بأنّ المعنى: إلّا أن تكفّوا أذاكم مراعاة للقرابة، وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم اليه، فيكون هذا هو الاجر الذي أطلبه منكم. وبناءا على هذا التفسير فالخطاب للكفار مع تقدير عدم قبولهم للرسالة. وهذا غير صحيح قطعا اذ لا معنى لطلب الاجر منهم على ذلك، فإنّ المفروض بناءا على هذا أنّهم يعتبرون دعوى الرسالة جريمة يستحق عليها القتل، فهو يندّد بدينهم ودين آبائهم ويسفّههم ويدعو الى نبذ آلهتهم. فهل هذا موضع استحقاق الأجر حتى يقول: إنّي لا أطلب عليه اجرا؟!
ولكن يمكن أن يقال: إنّ الانبياء كلهم كانوا يخاطبون بذلك اُممهم قبل أن يؤمن بهم أحد منهم، كما يظهر من خطاباتهم المحكية في سورة الشعراء.
والجواب: أنّهم إنّما كانوا يقولون ذلك على تقدير الايمان، أي إنّي لا أطلب أجرا منكم على رسالتي لو آمنتم بي. ولذلك وقع كل ذلك عقيب قولهم (فاتّقوا اللّه وأطيعون) فالمعنى أنّكم إن أطعتموني وآمنتم بي فإنّي لا أطلب أجرا لنفسي. وأين هذا من مخاطبة المشركين الذين يعادون النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأنّي لا أطلب منكم أجرا، وإنّما أطلب أن لا تؤذوني من اجل القرابة ؟! فهذا كلام مضحك.
وربّما يُفسّر الكلام المنسوب الى ابن عباس بأنّ المراد إلّا أن تؤمنوا بي مودّة في القربى. وهذا ايضا مهزلة اخرى، فالايمان لا يكون على أساس المودّة والقرابة.
وربّما يُفسّر بأنّ المراد لا أطلب أجرا الا اذا دفعتم لي شيئا لقرابتي منكم. وهذا أفظع، فإنّه يطلب مالا ولكن لا لأجر الرسالة بل لقرابته منهم. حاشا الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم أن يطلب ذلك! فهو لم يطلب منهم قبل الرسالة ايضا.
وقال بعضهم: إنّ المعنى أنّه لا يطلب منهم أجرا انما تدفعه المودّة للقربى ــ وقد كانت له قرابة بكل بطن من بطون قريش ــ ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى، ويحقّق الخير لهم إرضاءا لتلك المودّة التي يحملها لهم، وهذا أجره وكفى. وهذا تنقيص من قدر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأنّه ما كان يدعوه شيء الى الدعوة، وتحمّل هذه الأخطار والمشاقّ الا المودّة في قرباه، وهم مشركون وأعداء له ولدينه وعقيدته. ثم إنّ هذا التفسير ينزل بهذه الدعوة الى حضيض الديانة القوميّة الضيّقة، وكأنّه لم يبعث الا الى قريش حيث توجد له قرابة مع أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان يدعو في مكة كلّ من يلقاه.
وقيل في تفسير الآية الكريمة: إنّ المراد المودّة في أقربائكم. وهذا أغرب الوجوه، اذ لا معنى لاعتبار مودّة الانسان لأقربائه أجرا للرسالة التي هي تعب من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
وربما يقال: إنّ مودّة الانسان لقرابته حيث كانت من الاعمال الصالحة فلا يبعد أن تكون أجرا للرسالة من هذه الجهة. والجواب: أنّ مودّة القرابة ليست دائما من الاعمال الصالحة فليس كل قريب يصلح للمودّة، خصوصا اذا كان كافرا، والمؤمنون كانوا في ذلك العهد أقرباء للكفار، مع أنّه لا خصوصية له من بين الاعمال الصالحة ليكون أجرا للرسالة.
وأغرب منه القول بأنّ المراد حبّ التقرّب الى اللّه تعالى. مع أنّ القربى لا تستعمل الا في النسب على ما في بعض كتب اللغة. والمودّة ليست مرادفة للحب، بل تشتمل على نحو من الحنان والرعاية. ثمّ ما معنى هذا الاستثناء؟ هل حبّ التقرب أجر الرسالة أم أنّ الاستثناء منقطع، فالمعنى ولكن اُريد منكم أن تحبّوا التقرّب الى اللّه؟ وما علاقة هذه الجملة بما قبل الاستثناء؟! ثمّ إنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم يطلب منهم نفس التقرّب لا حبّه، مع أنّ المشركين ايضا ما كان ينقصهم حبّ التقرّب، فكانوا يعتذرون عن عبادتهم للاصنام أنّهم ما يعبدونها الا لتقرّبهم الى اللّه زلفى. وعلى كل حال فحمل هذا التعبير على هذا المعنى غريب جدا.
وبعضهم حاول تأويل القربى بحيث لا يختصّ بمن خصّهم بها الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهم ــ كما مرّ ــ أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء وابناهما سلام اللّه عليهم اجمعين. فقال بعضهم: إنّه كلّ آل عبد المطلب، او كلّ بني هاشم، او كلّ قريش.
كلّ هذه المحاولات من أجل أن لا يعترفوا بفضل لاهل البيت عليهم السلام!!!
ولكنّ بعضهم اعتذر عن ذلك بأنّه لا يمكن حمل الآية على هذا المعنى ــ وإن كان ظاهرا فيه ــ لعدّة اُمور:
الاول: أنّه ينافي مقام الرسالة، فإنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لا ينبغي أن يطلب أجرا على رسالته لا لنفسه ولا لذويه.
والثاني: أنّه يوجب إتّهام الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأنّه يقدّم أقاربه على عامّة الناس.
والثالث: أنّه ينافي قوله تعالى في سورة يوسف (وما تسألهم عليه من أجر..) حيث نفى الاجر بقول مطلق.
وقد تبين الجواب عن كل ذلك ممّا ذكرناه، فإنّ هذا الاجر ليس أجرا عائدا للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بل هو لصالح المجتمع. ولذلك لو قيل إنّ الاستثناء منقطع لم يكن بعيدا. وأمّا تخصيص ذوي قربى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بخصائص ماديّة فهو أمر حاصل في الدين، وبأمر من ربّ العالمين، شاءت الأهواء أم أبت. وناهيك في ذلك آية الخمس، وتحريم الزكاة عليهم، وتعليل ذلك من قبل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأنها من أوساخ أيدي الناس.
هذا مضافا الى أنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يأل جهدا في إعلان وجوب المودّة، وحرمة الإيذاء بالنسبة لأمير المؤمنين وفاطمة والحسنين عليهم السلام، ولزوم احترام ذرّيّــته صلى اللّه عليه وآله وسلّم بصورة عامّة.
وأمّا تقوّل الناس فهو أمر متوقّع. وقد قال الشانئون ما قالوا في هذا الشأن، وفي أحكام النساء الخاصّة بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، حتى إنّ عائشة قالت له صلى اللّه عليه وآله وسلّم بعد نزول تلك الآيات (ما ارى ربك الا يسارع في هواك ) والحديث مروي حتى في الصحيحين. [18] وفي بعض الروايات أنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم أجابها بقوله: (انك ان اطعت اللّه سارع في هواك). ولكن اللّه تعالى أعلن الاحكام المذكورة بالرغم من كل تلك الاقاويل، وذلك بعد بسط الاسلام سيطرته على جزيرة العرب. وسيأتي في الآية التالية الجواب عن التقوّل في هذا المورد بالذات.
ولم أجد في التفاسير وجه ارتباط هذه الجملة بما قبلها فإنّ فيه خفاءا، خصوصا على ما ذكره القوم من المعنى، فإنّ ما قبلها وما بعدها مرتبط بالمؤمنين فان كانت هذه الجملة خطابا للمشركين كان توسيطها بين هذه الجمل غير مناسب.
ولعل وجه ارتباطها بناء على المعنى الظاهر الذي ذكرناه وتوجيه الخطاب الى الذين آمنوا أنّه حيث بيّن مقام المؤمنين الذين عملوا الصالحات وأجرهم العظيم كان المتوقّع ان يكون له صلى اللّه عليه وآله وسلّم أجرا في مقابل هذه البشارة العظيمة، فعقّبها فورا بنفي الأجر الا أنّه أراد حثّهم على العمل الصالح، فاستثنى المودّة في القربى الذي هو من أفضل الاعمال، بل هو أساس لبقاء الدين.
ولكنه ايضا ليس وجها تستريح اليه النفس فلعلّ هذا ايضا من الموارد التي جعلت الجملة في غير موضعها، نظير قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..)[19] وقوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[20] وقد ذكرنا الوجه في ذلك في تفسير سورة الاحزاب. ويلاحظ أنّ ما يوجب الإخفاء مشترك بين الموارد الثلاثة.
وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا... الاقتراف: الاكتساب. واصله من القرف اي تقشير الشجر من لحائه. والقرف بكسر القاف قشر كل شيء. وزيادة الحسنة حسنا من اللّه تعالى تنميتها، او إظهارها بوجه أكمل وأجمل، او مضاعفة ثوابها، كما ورد في آيات كثيرة. والمراد بالحسنة كل عمل يصلح للتقرّب به الى اللّه تعالى. واقتران الجملة بما قبلها يوحي بأنّ المراد التأكيد على مودّة أهل البيت عليهم السلام باعتبارها من أبرز مصاديق الحسنة.
إِنَّ اللّه غَفُورٌ شَكُورٌ... تعليل لما سبق فلكونه تعالى غفورا يقبل العمل الناقص، ويكمله ويزيد فيه حتى يكون صالحا لتكامل الانسان وإدراجه في الصالحين. والسرّ في ذلك أنّ عمل الناس مهما كان لا يخلو عن نقص في الاجزاء او الشروط او النية، او ما يخطر على البال من عجب ورياء، وإن لم يكن بحدّ يخرجه عن التعبد لله تعالى، ولولا غفرانه وقبوله للاعمال الناقصة لم ينج أحد الا المعصومين.
ولابد للمؤمن من أعمال صالحة تهيّئ له الارضية الصالحة ليتقرب الى اللّه تعالى ويحظى برضوانه. ولذلك ورد في الروايات أنّ اللّه تعالى أمر بالنوافل، وجعلها ضعف الفرائض ليكمل بها ما ينقص من الفرائض، وهو لا يقبل من الصلاة ــ كما في الحديث ــ الا ما كان العبد فيه مقبلا عليه تعالى. وبجبر النقص بالنوافل ربما يحصل للمؤمن ما يجعله لائقا للتقرّب الى اللّه تعالى، وهو الهدف والغاية النهائية لخلق الانسان.
ولكونه تعالى شكورا يظهر اعمال عباده ويزيّنها، فإنّ الشكر هو إظهار ما يتّصف به المشكور من صفة حميدة، كما أنّ الكفر هو سترها وإنكارها.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللّه يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ... (أم) منقطعة، اي بل أيقولون افترى.. ويمكن أن يكون منشأ هذا الاتهام هو ما ورد في الآية السابقة من الامر بالمودة في القربى، والظاهر أنّ ضمير الفاعل يعود الى مشركي مكة.
ولكن ورد في بعض الروايات أنّ بعض الانصار عرضوا على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم مالا ليستعين به على حوائجه فنزلت الآية الاولى، ثم إنّ بعضهم قال: نعرض عليه المال فيطلب منا أن ندافع عن قراباته بعده!!! فنزلت الآية الثانية. ولكن مقتضى ذلك أن تكون هذه الآيات مدنية، كما قيل بذلك. وهو بعيد.
ومهما كان فالجواب من اللّه تعالى أنّه إن شاء اللّه يختم على قلبك فلا يمكنك ان تنطق بهذا الكلام وبهذه الآيات والسور، فحيث لم يختم يتبيّن منه أنّه وحي من اللّه تعالى. وعليه فمعنى الختم على القلب انغلاقه فلا ينفتح للمعارف والعلوم ولا يتسنى له الاتيان بهذا البيان المعجز. وأساس هذا الاستدلال أنّ اللّه تعالى لا يُغلب على أمره، فاذا ادّعى أحد النبوة لا يمكنه أن يظهر معجزا إن لم يكن محقّا، واذا نطق بكتاب وادّعى أنّه من اللّه تعالى تبيّن عليه الوضع إن كان كاذبا.
وليس المراد الاستدلال على كون الرسالة حقا بمجرد ان اللّه تعالى لم يعاقبه وأنّه لو كان مفتريا لعاقبه فان هذا الاستدلال سقيم ويشبه استدلال المشركين كما قال تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)[21] وهناك كثير من المدعين للنبوة والامامة لا ينزل عليهم العذاب من السماء فالمراد بالاستدلال انه لو كان مفتريا ما أنزل اللّه عليه هذا البيان المعجز.
وللمفسرين أقوال اُخر أقواها ما قاله الزمخشري، وهو أنّ المعنى إن يشأ اللّه يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتى تفتري عليه الكذب، فإنّه لا يجترئ الكذب على اللّه الا من كان في مثل حالهم. وهذا الاسلوب مؤدّاه إستبعاد الافتراء من مثله، وأنّه في البعد مثل الشرك باللّه، والدخول في جملة المختوم على قلوبهم. ومثال هذا أن يخون بعض الامناء فيقول: لعلّ اللّه خذلني، لعل اللّه أعمى قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب، وإنّما يريد إستبعاد أن يخون مثله، والتنبيه على أنّه ركب من تخوينه أمر عظيم.
وما ذكره لا بأس به. ولكن ما مرّ ذكره أظهر.
وَيَمْحُ اللّه الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ... الجملة مستأنفة و(يمح) مرفوع اسقط عنه الواو تبعا للتلفظ تخفيفا كما في قوله تعالى (سَنَدْعُ الزَّبانِيَة)[22] وغيره. والظاهر أنّ الجار والمجرور متعلّق بالمحو والاحقاق معا، اي أنّه تعالى بكلماته يمحي الباطل ويحقّ الحقّ. والمراد بالكلمات ــ على الظاهر ــ الوحي المنزل. ومعنى محو الباطل بالقرآن بيان بطلانه. ويحصل ذلك بإحقاق الحق اي إثباته، فالقرآن حيث يحمل معه الحق يبطل الباطل. والاتيان بفعل المضارع يدل على الاستمرار، وأنّ ذلك سنة اللّه الجارية، فيمكن ان يكون المراد بهذه الجملة التأكيد على عدم امكان الافتراء، وأنّه كيف يمكن ان تفتري على اللّه تعالى وهو يمحي الباطل ويحقّ الحقّ؟! والافتراء باطل، فلا يبقى بل يمحوه اللّه تعالى بمعنى أنه تعالى ينزّل ما يظهر به بطلانه. ويمكن ان يكون المراد بها وعد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأنّ اللّه تعالى سيبطل أباطيلهم، ويحقّ ما أتيت به أي يثبته، فلا تهتمّ باتّهاماتهم وأقاويلهم.
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ... اي ما في الصدور من نوايا وأسرار، فلعلّ المراد أنّه يمحي الباطل حتى لو كان في السر فلا يخفى عليه ما في قلب النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلّم، ولا يفوته شيء، فيكون تأكيدا على أنّه لا يبقي من الباطل شيئا. وأنّ ما يقوله النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم هو الحقّ الناصع اذ لو كان باطلا مفترى لمحقه اللّه تعالى.
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ... حيث تقدّم في الآيات السابقة الانذار بالعذاب الشديد ناسب تلطيف الجو بالترغيب الى التوبة والتنبيه على أن بابها مفتوح دائما ولجميع الناس.
وفي الكشاف أنّ القبول اذا تعدّى بـ (عن) كان معناه الابانة فكأنّه تعالى أخذ التوبة من عباده وتسلّمها. وهذا تاكيد على قبول التوبة فكأنّها هدية اهدي اليه تعالى، وهو يتقبّلها من عباده المذنبين. وهذا غاية اللطف والعناية.
والتوبة في الاصل الرجوع. والمراد بها في مصطلح القرآن الرجوع الى اللّه تعالى، سواء كان من معصية لاوامره تعالى ونواهيه، او كان من توجّه الى غيره تعالى، وانشغال بامور الدنيا وان كانت مباحة. ولذلك يوصف الرسل عليهم السلام بالتوّابين وهو مبالغة في الرجوع الى اللّه تعالى مع أنّهم معصومون وانما وصفوا بذلك لكثرة رجوعهم اليه تعالى في كل لحظة يغفلون عنه وعن ذكره ويشتغلون بغيره وان كان ذلك مباحا.
والتوبة عن الذنب تتحقق بالندم على الفعل مع العزم على الترك. ولا تتوقف على الاستغفار، وان كانت تكمل به، بل لا يفيد الاستغفار في التوبة ان لم يتحقق الندم. ويشترط في قبولها أن يصلح ما أفسده فان كان عليه قضاء او كفارة او دية او قصاص او وجوب استرضاء وتحلل او ضمان لمال او وجوب اعادة لما غصب ونحو ذلك من التبعات وجب العمل بها، وإلّا لم تقبل التوبة.
ثمّ إنّ قبول التوبة هنا وإن كان مطلقا، الا أنّ له شروطا ربما لا نعلم كلها، فمن تلك الشروط ما صرّح به في الكتاب العزيز كقوله تعالى (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللّه عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّه عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).[23]
والمراد بالجهالة ليس هو الجهل بالحكم، بل السفاهة وعدم التعقل. ويقابله العناد والكبر ونحوهما، كما كان يصدر من المشركين والمنافقين في عهد نزول الآية، وكما هو الحال في كثير من المتعصّبين الذين يرفضون الانصياع للحق تعصّبا لمذهب الآباء والاجداد، فإنّ هؤلاء يختم على قلوبهم فلا يتوبون. والظاهر أنّ المراد من التوبة من قريب ما يقابل ما ورد في الآية التالية من تأخير التوبة الى حين حضور الموت. وهذا شرط التوبة الذي تعهد اللّه تعالى بقبولها فلا يمتنع أن يقبل توبة احد بغير هذه الشروط لسبب آخر من شفاعة ونحوها.
وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّه تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..)[24] وهذه الآية تدل على ان التوبة المقبولة هي التوبة النصوح، اي الخالص. ولعل المراد هو صدق النية فإنّ من الناس من يتوب الى اللّه تعالى وهو غير عازم على ترك المعصية، فهو غير صادق في توبته، بل ربما تكون توبته معصية، كما لو كان عازما على الاتيان بعد ذلك، فقد ورد في الحديث أنّ هذا يعدّ استهزاءا، وهو ذنب ربما يكون أقبح من ذنبه الذي يتوب منه.
روى الكليني قدس سره بسنده عن جابر عن ابي جعفر عليه السلام قال: (سمعته يقول: التائب من الذنب كمن لا ذنب له والمقيم على الذنب وهو مستغفرمنه كالمستهزئ).[25]
وروى عن ياسر عن الرضا عليه السلام قال: (مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرك فيتناثر، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه).[26]
وروى الصدوق قدس سره في الخصال حديثا طويلا فيه وصايا من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لاميرالمؤمنين عليه السلام ومنها (ولا تصرّ على الذنوب مع الاستغفار فتكون كالمستهزئ باللّه وآياته ورسله).[27]
ومهما كان فليس للانسان أن يتحتّم على اللّه تعالى بقبول توبته، وإنّما يرجو بذلك القبول، فيبقى بين الخوف والرجاء، حتى في التوبة النصوح اي الخالص، كما هو ظاهر قوله تعالى في الآية المذكورة (عسى ربكم ان يكفر عنكم سيئاتكم..) فليس هذا أمرا محتوما.
وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ... يبدو من العطف أنّ العفو عن السيئات مغاير لقبول التوبة فلا يتوقف عليها، وربما يعفو اللّه تعالى عنها بدون التوبة ايضا، كما ورد في قوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)[28] وبالطبع فان هذا العفو ليس لكل احد يجتنب الكبائر، اذ قد يكون اجتنابه خوفا من الفضيحة او الجزاء الدنيوي او لأي سبب آخر، بل هو جزاء لمن يجتنب الكبائر تورّعا وتقرّبا الى اللّه تعالى، وهو بنفسه من أعظم القربات، بل ربّما يكون أكبر وأعظم من كثير من العبادات. وبقرينة المقابلة يعلم أنّ المراد بالسيئات هنا ما لا يعتبر من كبائر المعاصي.
ومما يدل على أن اللّه تعالى قد يعفو عن السيّـئة من دون توبة قوله تعالى (إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ..)[29] ولا شكّ في أنّ المراد المغفرة بدون التوبة، اذ التوبة توجب الغفران او تقتضيه على الاقل حتى عن الشرك ايضا فالسبب هنا امر آخر فقد يكون عملا صالحا او شفاعة مع عمل يسير.
وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ... اي لا يتوهم احد منكم أنّ ما يفعله يخفى على اللّه تعالى، او أنّ خلوص التوبة يخفى عليه، فهو يعلم بما تفعلون وبحدوده وبما يصاحبه من نية.
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ... عطف على الجملة السابقة. فقوله (يستجيب) عطف على (يقبل) اي وهو الذي يستجيب الذين آمنوا.. والاستجابة تتعدى بنفسها كما هنا وتتعدى باللام كقوله تعالى (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ..)[30] وقيل (الذين آمنوا) فاعل (يستجيب). ولكنه لا يناسب السياق.
ويستجيب بمعنى يجيب والمعنى أنه تعالى يجيب دعاء الذين آمنوا ويلبي دعوتهم فهذا هو بنفسه غاية المطلوب ولا شيء أغلى للمؤمن من أن يلبّي اللّه دعوته ويسمع له ولكنه تعالى لا يكتفي بذلك بل يزيدهم من فضله ويعطيهم من نعمه في الدنيا والآخرة.
وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ... ويكفيهم عذابا أنّهم ابتعدوا عن ربّهم فلم يشملهم بعنايته الخاصة التي يستجيب بها للمؤمنين ويزيدهم من فضله.
[1] القمر: 55
[2] المحاسن ج1 ص 145
[3] الكافي ج2 ص513
[4] الكافي ج 8 :93
[5] امالي الصدوق: 230
[6] مستدرك الحاكم ج3 ص172 وج11 ص114
[7] مجمع الزوائد ج9 ص 146
[8] المعجم الكبير ج 11 ص 351
[9] الشعراء: 109/127/145/164/180
[10] ص: 86
[11] يوسف: 104
[12] سبأ: 47
[13] الاحتجاج ج1 ص135
[14] البقرة: 213
[15] آل عمران: 103
[16] الفرقان: 57
[17] البخاري ج6 ص37 باب حم عسق
[18] راجع صحيح البخاري باب ترجئ من تشاء
[19] المائدة: 3
[20] الاحزاب: 33
[21] الانعام: 148
[22] العلق: 18
[23] النساء: 17- 18
[24] التحريم: 8
[25] الكافي ج2 ص 435 ح10
[26] الكافي ج2 ص 504 ح3
[27] الخصال ص 543
[28] النساء: 31
[29] النساء: 48 و116
[30] آل عمران: 195