مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ... اختلفوا في بيان وجه التناسب بين هاتين الآيتين وما سبق، فقال بعضهم: إنّ الآية في سياق الكلام عن الرزق في الآية 27 حيث عبّر هنا عن تقدير الاولاد بالهبة، وهذا التعبير يناسب الرزق. وأرى أنّ نفي لزوم التناسب بين الآيات أهون من ذلك.

وقيل: إنّها تناسب الآية السابقة من جهة أن الإنعام وإصابة السيّئة ربما تثير سؤالا عن الوجه في ذلك فالآية تجيب بأنه تعالى يخلق ما يشاء.

ولكن من الواضح أنّ الغرض من هذه الآية ما بعد هذه الجملة من هبة الاولاد، وأنّ هذه الجملة مقدّمة لها، وهبة الاولاد لا علاقة لها بالآية السابقة.

والظاهر أنه لا موجب للقول بلزوم التناسب بين الآيات دائما بل حتى في الآية الواحدة ربما يتغير موضوع الكلام كما في بعض الروايات، فإن كان ولا بدّ فلعل الآيتين يعود سياقهما الى ما مرّ في أوائل السورة من التأكيد على عموم الربوبية، ومن المعروف أنّ دأب القرآن الرجوع في آخر السورة الى بدو الحديث.

 ومهما كان فالجملة الاولى تؤكّد أنّ الملكية الحقيقية في الكون بأجمعه لله تعالى، وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، فليس لغيره تعالى ملك في السماوات والارض وقد ذكرنا مرارا أنّ السماوت والارض كناية عن الكون كله. والملك بضم الميم هو التمكن من التصرف وغيره تعالى لا يتمكن من التصرف الا في حدود ما أذن له فالسلطة المطلقة والعامة والذاتية ليست الا له تعالى وهو الذي يملك القدرة في كل ما يحدث من تغيير، وكل ما يستقرّ من نظام، وعليه فهو يخلق ما يشاء. وكلّ ما يتكوّن في الطبيعة او خارجها فهو من صنعه تعالى.

والغرض من التأكيد على المشيئة في الخلق والتدبير التنبيه على أنّ الاُمور وإن كانت تسير وفقا للقوانين الكونية التي لا تتبدّل إلا أنّ كلّ ذلك يتبع مشيئة اللّه تعالى وهو لا يشاء جزافا بل لحكمة لا يعلمها بالتحديد غيره.

يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا... ومن عموم ملكه وسلطانه وربوبيته وخلقه لما يشاء وفقا للحكمة في الكون أنّه تعالى يجعل بعض الناس لا يولد له الا الذكور، وبعضهم لا يولد له الا الاناث، وبعضهم يولد له الصنفان، وبعضهم عقيما لا يولد له ولد.

وليس المراد أنّ هذه الحالات الطارئة على الانسان مرتبطة بالغيب وبإرادته تعالى بوجه خاصّ وأنّها مستثناة من سائر ما في الطبيعة حيث تخضع للعوامل الطبيعية، بل إنّ كلّ واحدة من هذه الظواهر لها علل وعوامل طبيعية، ويمكن تغييرها طبقا للسنن الطبيعية ايضا، ولكنّها في نهاية الامر من خلق اللّه تعالى، فإنّه هو واضع السنن بل هو المسيّر للامور فلا يؤثّر عامل أثره الا بإرادته. وهذا الاعتقاد هو أساس الدين، وهو المائز بين الشرك والايمان، فإنّ المشركين كانوا يعتقدون بخالقيته تعالى، ولكنهم كانوا يرفضون عموم الربوبية.

والتعبير بالهبة لبيان أن الاولاد من الصنفين نعمة يهبها اللّه تعالى للوالدين وفي ذلك تعريض بما كان متداولا بين العرب من تحقير البنات حتى نزل فيهم قوله تعالى (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[1] فاللّه تعالى اعتبر البنات هبة منه تعالى بل قدم ذكرهن على البنين. والتزويج: القرن بين شيئين متناسبين. والزوجان: المثلان المتقارنان، فقوله (او يزوجهم) اي يهبهم الزوجين اي اثنين من كل صنف واحدا او اكثر فيولد لهم الذكر والانثى. والعقيم من لا يولد له.

إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ... عليم بالاسباب فيتوصل الى كل شيء بسببه، بل هو المسبب لها. وهو القادر على كل شيء بجعل أسبابه. او أنّه عليم بما يصلح لكل احد وقادر على ذلك.

وهنا يبدو سؤال: وهو أنّ الظاهر من الآية أنّ الانسان لا يتمكن من التحكم في الولد، فإن كان عقيما فلا سبيل له الى الإيلاد، وإن كان مئناثا فلا سبيل له الى ولد ذكر، وكذا العكس، مع أنّ التقدم العلمي أوصل الانسان الى اُمنيّته فيمكنه أن يحصل على ما يريده من ولد متى شاء فكيف توجّه الآية؟ 

والجواب أنّ المراد بالآية من يهبه اللّه إناثا او ذكورا ولو بالواسطة، فلا يختصّ بمن هو كذلك بطبعه، سواء كانت الواسطة طبيعية كالمعالجة بالعقاقير والادوية القديمة، او تناول الاغذية التي تؤثر حسب التجارب البشرية، او التوصل الى ذلك بطرق العلاج الحديثة، او غير طبيعية كما كان يحصل للناس بالتوسل بالدعاء، او التوسل باولياء اللّه تعالى كما حصل لوالد الشيخ الصدوق قدس سرّه. ونحن ننقل القصة هنا عن لسان الشيخ الصدوق نفسه في كتابه القيّم (كمال الدين وتمام النعمة) تيمّنا وتبرّكا قال رحمه اللّه:

حدثنا ابو جعفر محمد بن علي الاسود رضي اللّه عنه قال سألني علي بن الحسين بن موسى بن بابويه رضي اللّه عنه (وهو والد الشيخ الصدوق) بعد موت محمد بن عثمان العمري رضي اللّه عنه (النائب الثاني لصاحب الامر عجّل اللّه فرجه) أن أسأل أبا القاسم الروحي (اي الحسين بن روح النائب الثالث) أن يسأل مولانا صاحب الزمان عليه السلام أن يدعو اللّه عز وجل أن يرزقه ولدا ذكرا. قال فسالته فأنهى ذلك (اي فأوصل الرسالة الى الامام عليه السلام) ثم أخبرني بعد ذلك بثلاثة أيّام أنّه قد دعا لعلي بن الحسين و أنّه سيولد له ولد مبارك ينفع اللّه به وبعده أولاد.

قال أبو جعفر محمد بن علي الاسود رضي اللّه عنه: وسالته في أمر نفسي أن يدعو اللّه لي أن يرزقني ولدا ذكرا فلم يجبني اليه. وقال: ليس الى هذا سبيل. قال فولد لعلي بن الحسين رضي اللّه عنه محمد بن علي (وهو الشيخ الصدوق) وبعده أولاد ولم يولد لي شيء.

ثم قال الصدوق: قال مصنف هذا الكتاب رضي اللّه عنه كان أبو جعفر محمد بن علي الاسود رضي اللّه عنه كثيرا ما يقول اذا رآني اختلف الى مجلس شيخنا محمد بن الحسن بن احمد بن الوليد رضي اللّه عنه وأرغب في كَتب العلم وحفظه: ليس بعجب أن تكون لك هذه الرغبة في العلم وأنت ولدت بدعاء الامام عليه السلام.[2]  

والحاصل أنّ المراد بهبة اللّه تعالى لبعض إناثا ولبعض ذكورا وجعل بعض الناس عقيما لا يختص بمن يكون كذلك بحسب طبعه، او يكون كذلك بعلاج، فكل ذلك يعود أمره الى اللّه تعالى، ولا يتحقّق من دون إذنه. والعلاج ليس أمرا مستحدثا بل البشر طيلة التاريخ كان يحاول ذلك، ويعالج نوعا مّا. وهناك موارد كثيرة لا يمكن علاجها، وبعض أنواع الإيلاد لا يعتبر واقعا إيلادا من الرجل نفسه بل هو تبنّ لولد الغير، كالاستفادة من حويمن رجل آخر وكذلك بالنسبة لبويضات المرأة.

وينبغي أن ننبّه هنا على ملاحظة أساسية لمن يريد أن يكتب عن الدين أو يفسّر القرآن والحديث، وهي أنّه لا يصح الاعتماد على ما بلغ اليه العلم او لم يبلغه حتى الآن في تفسير كلام اللّه تعالى مع سرعة التغيّرات والمفاجئات العلمية وتبين الأخطاء. ونجد في هذا المجال أنّ بعض المفسرين الجدد حاول أن يستخلص معجزة من هذه الآية، حيث إنّها تدلّ على أنّ العقم والإيلاد، وكون الرجل مئناثا او مذكارا أمر يختص به تعالى، وليس للبشر فيه حول ولا قوّة لأنّ العلم بالرغم من كل تقدّمه وتطوّره لم يتمكن من تغيير ذلك.

وهذا قد تبيّن ضعفه بعد مدة قصيرة من كتابة تفسيره، مع أنّ البشر كما ذكرنا حاول العلاج طيلة التاريخ وتمكّن منه نوعا مّا.

 


[1] النحل: 58- 59

[2] كمال الدين وتمام النعمة ص 502 ح31