يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ... (من) للتبعيض اي ان بعض الازواج والاولاد عدو للرجل. ويلاحظ أن بعضهم أعداء واقعا ويريدون له الشر ولكنه نادر خصوصا في الاولاد، ولكن الامر الاخطر هو المحبة والشفقة اللتان تمنعانه من أداء الواجب بسبب الزوجة والولد. وهذا ليس عداءا حقيقيا ولكنه حيث يجر أكبر الضرر للانسان فهو في النتيجة كأنه عداء. ونظير ذلك الحديث النبوي المشهور (اعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)[1] والغرض أن الانسان اذا استجاب لرغبات نفسه فانه يضر بآخرته بل ربما يضر بدنياه ايضا فيصح أن يعبر عن النفس بأنها أعدى الاعداء وذلك لقربها وتسلطها على ارادة الانسان والمراد بالطبع اهواء النفس.
وهناك من النساء والاولاد من يصرّ على الزوج والاب بأن يعمل ما يوافق هواه ويقصر في أداء الواجب بل يرتكب الحرام فربما تطلب العائلة من الرجل من المال ما لا يقدر عليه الا بالكسب الحرام وربما تمنعه من الجهاد في سبيل الله تعالى او الانفاق في سبيله ومساعدة الفقراء والمحتاجين ونحو ذلك. وكل ذلك في الواقع عداء بصورة حب ووداد. بل ربما يكون الوالدان ايضا من الاعداء بهذا المعنى فنحن نجد كثيرا من الامهات بل حتى الآباء لضعف في دينهم وشفقة على اولادهم يمنعونهم حتى من الصوم بعد البلوغ بحجة الصغر خصوصا في البنات. وهذا مضافا الى الضرر الاخروي ربما يسبب لهم مشاكل في الكبر لوجوب القضاء والكفارة. ولكن الجهل وعدم الالتزام بامر الدين يدفعانهم الى ذلك.
والحذر منهم يتمّ بعدم الاصغاء لطلبات أفراد الاسرة وأهوائهم اذا استلزم أمرا مخالفا للدين بل حتى لو كان يضر بدنياه كما لو استلزم التسول ومجانبة التعفف.
وفي تفسير القمي في ذيل الآية رواية مرفوعة عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام (في قوله "إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ" وذلك أن الرجل كان إذا أراد الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم تعلق به ابنه وامرأته وقالوا ننشدك الله أن تذهب عنا وتدعنا فنضيع بعدك فمنهم من يطيع أهله فيقيم فحذّرهم الله أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول أما والله لئن لم تهاجروا معي ثم يجمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبدا فلما جمع الله بينه وبينهم أمره الله أن يوفي ويحسن ويصلهم فقال وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم).
وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ... العفو: الترك. والصفح: الاعراض. والفرق بينهما أن الترك ربما يكون مع التوبيخ، والاعراض لا يتم الا بترك التوبيخ ايضا. والغفران هو الستر فهو مرحلة أعلى من الصفح فان الصفح لا ينافي التشهير به او لا يلازم الستر عليه. وجواب الشرط محذوف يدل عليه قوله تعالى (فان الله غفور رحيم) فيمكن ان يقدر (يحبه الله لكم) او (يغفر الله لكم) وتكون الجملة المذكورة تعليلا للمقدر.
ومورد العفو والصفح والغفران ما اذا تبين للانسان عداء الاسرة له او تضرر من الاستجابة لطلبهم سواء في دينه او دنياه فانه ربما يثير فيه حب الانتقام ولو بمنع بعض حقوقهم الشرعية وهو مجازاة قد لا تكون جائزا شرعا او يكون منافيا للكمال فالغرض من هذه الجملة المنع من ذلك ولكنه منعه باسلوب يبعث فيه روح الترفع والتسامي عن المعاملة بالمثل ويثير فيه العطف والحنان.
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ... (انما) تفيد الحصر اما مطلقا او بحسب القرائن وهي هنا تفيده. والفتنة في الاصل بمعنى الاحراق. وحيث ان اذابة المعادن بالنار تخلصها من الشوائب او تظهر خلوصها وعدمه عبّر عن كل امتحان للانسان في حياته بالفتنة. وهي تشمل الخير والشر قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً..)[2] فتبيّن بما مرّ أن المراد بالآية الكريمة أن الله تعالى يختبر الانسان بامواله واولاده ليرى كيف يتعامل معهم؟ وهل تؤثر حبه لهم في مدى التزامه بالدين؟ وهو أمر صعب جدا.
ولذلك يصحّ أن يقال ان اختبار الانسان في الخير أشدّ وأخطر من اختباره بالشرّ ولكن الانسان لجهله وغبائه يحب الاولّ وقلّ من يقوم بواجبه تجاه الاموال والاولاد وأقل منه من تكامل بذلك فأنفق ماله بل ضحّى بأولاده في سبيل الله تعالى. وهذا هو الفوز العظيم.
والحاصل أن الآية تريد أن تزهّد الانسان في طلب المال والولد وتبيّن له أن في ذلك مخاطرة بمستقبلك وبآخرتك وبدينك وفي مقابل ذلك يمكنك أن تحصل على أجر عظيم لدى الله تعالى بالعمل الصالح وهو أجر ينفعك في الدنيا والآخرة. فتكون الجملة الثانية مكمّلة للغرض من الجملة الاولى.
ولكن الوارد في التفاسير أن المراد بالجملة الثانية بيان ما يحصل عليه الانسان اذا نجح في الامتحان بسبب الاموال والاولاد. وهو بعيد. ويتحصل مما ذكروه أن الآية لا تزهّد في طلب المال والولد وانما تحثّ على العمل بالواجب في هذا المجال ولكن الظاهر ما ذكرناه وأن مفاد الآية كقوله تعالى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا).[3]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ... التقوى مصدر من الوقاية بمعنى الاحتراز والمراد حفظ النفس من مخالفة أمره تعالى ونهيه او حفظها من سخطه وعذابه. و(ما) مصدرية ظرفية والظرفية مجازية اي قدر المستطاع. والاستطاعة استفعال من الطوع واصلها الاستطواع وهو طلب الانقياد الا ان الاستفعال هنا ليس بمعنى الطلب بل فرض الانقياد على ما يريد ولذلك تستعمل الاستطاعة بمعنى القدرة كأن ما يريده منقاد له.
وعليه فمحصل معنى الآية التشديد في أمر التقوى وبأنه ليس له حدّ الا القدرة والاستطاعة ولا شك أن الانسان لا يمكنه أن يفعل شيئا فوق استطاعته. وبذلك يتبيّن أن هذه الآية لا تنافي قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ..)[4] بل تؤكده فلا وجه لما قيل من نسخ تلك الآية بهذه الآية بل نسب الى بعض الصحابة أن الامر اشتد عليهم الى أن نزلت هذه الآية فخفف عنهم!! نعم هذه الآية ربما تفسر (حق تقاته) وتبيّن أنه لا حدّ للتقوى الا القدرة والاستطاعة.
وهذا الامر ليس امرا مولويا بل هو ارشاد الى ما يدركه العقل اذ لا شك أن تقوى الله تعالى ليس له حدّ وانما يتحدد التكليف بالقدرة والاستطاعة فما لا يقدر عليه المكلف ليس مامورا به ولا منهيا عنه وكل ما يرد من الحثّ على التقوى لا يزيد على ما يدركه العقل من وجوب الحذر من الخطر المحدق بالانسان كما قال تعالى (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)[5] والغرض من كل ما ورد في هذا الباب منع اغترار الانسان بأن رحمة الله واسعة او انه أكرم من أن يهتم بالجزئيات في التكاليف ويكفي ان تكون مؤمنا تؤدي الفرائض ونحو ذلك مما يخدع به الانسان نفسه فلا يتقي ربه في مخالفة احكامه الالزامية اعتمادا على ذلك.
والفاء في قوله (فاتقوا..) للتفريع اي اذا علمتم أن الاموال والاولاد فتنة وأن الله عنده أجر عظيم فاتقوا الله غاية التقوى في كل ما أمر به ونهى عنه وان استلزم انفاق المال او التفريط في ما يطلبه الاولاد لتنالوا أجره وتبتعدوا عن سخطه.
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ... أوامر مترتبة على التقوى وبعضها مترتب على بعض فاذا تحلّى الانسان بالتقوى لزمه سماع أوامر الله تعالى ونواهيه التي يبلّغها الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ومنها إطاعة الرسول بنفسه فاذا سمع الاوامر لزمته الطاعة على أساس التقوى.
ومن الاوامر التي تجب اطاعتها الامر بالانفاق ذكر بوجه خاص لأنه هو الغرض الأساس من السورة ومن كل هذه المقدمات على ما يبدو. وقوله (خيرا) خبر تقديره (يكن خيرا لكم) ومثله قوله تعالى (فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ..) وقوله تعالى (وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ..).[6] والمراد أن الانفاق لمصلحتكم.
والغرض الأسمى وان كان هو خير الآخرة والاضعاف المضاعفة التي يجزى بها الا أنه في هذه الحياة خير له ايضا لأن خير المجتمع ومصلحته يعود الى الأفراد، وفي ظل نظام الهي كحكومة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لا يمكن أن ينفق أحد مالا الا ويعود بالخير على المجتمع سواء أنفق للحرب او للمصالح العامة او للفقراء.
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ... مر تفسير هذه الجملة بعينها في سورة الحشر الآية (9) ومجمل القول أن الشحّ: المنع والبخل. واضافته الى النفس من جهة أن له أصلا راسخا في النفس وليس أمرا طارئا. وأتى بالوقاية مبنيا للمجهول لأن فاعلها هو الله تعالى فيدلّ على أن زوال هذه الصفة الدنيئة لا يكون الا بعناية منه. والفلاح: الفوز بما يبتغيه الانسان. والمراد به هنا ثواب الآخرة وكذلك ما يستتبع انفاق المال من مصالح شخصية واجتماعية في الدنيا. وأتى باسم الاشارة للجمع اي قوله (فاولئك) باعتبار المصاديق.
ويستفاد من قوله (فاولئك هم المفلحون) الحصر وأنه لا يفلح أحد غيرهم، وهو صحيح ودقيق وليس من باب المبالغة كما قيل، وذلك لأن الشحّ لا يختص بالمال بل هو المنع مطلقا وان كثر استعماله في ذلك ومنه قوله تعالى (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ..)[7] فان المراد بالشحّ هنا التشدد والامتناع من الصلح. ومنه المشاحّة بمعنى التنازع والتمانع، ومنه زند شحيح اذا كان لا يوري وغير ذلك. فالشح في النفس يشمل كل ما يمتنع منه الانسان مما يجب عليه أن يفعل ولكن هذه القاعدة طبقت هنا على الشح بالمال.
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ... مرّ الكلام حول اقراضه تعالى في تفسير سورة الحديد الآية (11) وقلنا ان المراد بالاقراض التصدق على الفقراء وأنه تعالى للطفه وكرمه اعتبره اقراضا له ولكنه لا يرجعه كما هو بل يضاعفه أضعافا. والمعروف ان التوصيف بالحسن لاخراج ما اذا كان الانفاق للرياء والسمعة وطلب الجاه او مع المنة والتحقير للمستحق او مع ايذاء السائل. ولكن هذا صفة الانفاق الحسن لا القرض الحسن ولعل المراد من هذا الوصف أنه قرض مضمون بل مضمون انه يعاد اليكم اضعافا مضاعفة لان المقترض هو الله الغني الحميد. وقلنا بأن المراد بالمضاعفة لعله بملاحظة ما يتوقعه الانسان من الجزاء والا فسنخ ما يثاب به لا يقاس بما دفعه من المال حتى يقال انه ضعفه او اضعافه. وأضاف اليه هنا المغفرة وهي أعظم الجزاء.
وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ... (شكور) مبالغة في الشكر وهو عرفان الجميل واظهاره. واذا اسند الى الله تعالى قيل: يراد به الثواب ولكن الظاهر أنه نفس المعنى ولكن يضاف اليه الثواب ولعله هو المراد بالمبالغة فيكون المعنى انه تعالى يعترف بجميلكم ويظهره بل يثيب عليه. والتوصيف بالحليم لعله لتعليل ذكر المغفرة جزاءا للانفاق.
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ... لعل التوصيف الاول لبيان أنه تعالى يعلم ما ينفق الانسان سرا وعلانية فلا تختلف عنده الغيب والشهادة ويثيب على كليهما، كما يمكن أن يكون تعليلا لما سبق من الامر بالتقوى والاطاعة فيكون تحذيرا من مخالفة التقوى في الغيب. وتوصيفه تعالى بالعزيز لعله لبيان غلبته على أمره فلا يمنع ما أراده شيء، وبالحكيم لانه مع غلبته لا يعمل الا وفقا للحكمة فلا تدعوه عزته وغلبته الى ما ينافي الحكمة.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الامين واله الطاهرين.
[1] لم نجد له مصدرا في كتب الحديث الاصلية لدى الفريقين راجع بحار الانوار ج 67 ص64
[2] الانبياء: 35
[3] الكهف: 46
[4] ال عمران: 102
[5] ال عمران 28/30
[6] النساء: 170- 171
[7] النساء: 128<