أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ... ذكر المفسرون ــ حتى من قال إنّ السورة مدنية كالعلامة الطباطبائي رحمه الله ــ أنّ الخطاب في هذه الآيات للمشركين. وهو غريب. واعتبار السورة مكية من أجل هذا الخطاب أغرب. ولا مانع من خطاب المؤمنين بهذه الآيات، تحذيرا من مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وتنبيها على أنّ مخالفته حتى في أمر واحد للتشكيك في صدق إنبائه عن الله تعالى كفر بالرسالة وموجب للهلاك. وقد مرّ قريبا وجود مثل هذا الريب في قلوب بعض المؤمنين حتى المعروفين منهم بالصلاح والوفاق فضلا عن أهل النفاق.
ومهما كان الخطاب فالمراد تحذير من عاصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم اينما كانوا من مخالفة أمره فهو رسول من الله تعالى لجميع البشر. والتحذير يبتني على ملاحظة ما جرى على الامم السالفة حيث كذّبوا رسلهم فنزل عليهم عذاب الدنيا واستحقّوا بذلك عذاب الآخرة وهو المراد بالعذاب الاليم الموعود.
والوبال: الثقل والشدة ومنه المطر الوابل اي ما كان قطره كبارا. والمراد بـ (أمرهم) كفرهم ومخالفتهم لرسلهم، ووباله نتائجه السيئة الوخيمة. والتعبير بالذوق بيان لشدة تأثير العذاب عليهم فإنّ التذوّق أقرب الاحاسيس الى الانسان حيث إنّ ما يتذوقه يدخل جسمه ويكون جزءا منه. وهكذا كان عذاب الامم السالفة حيث كان يقضي عليهم ويبيدهم عن آخرهم ولا يبقي لهم حتى ذكرا حسنا جميلا بعدهم ولذلك يعبّر عنه القرآن بعذاب الخزي.
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا... (ذلك) اشارة الى نزول العذاب عليهم. والغرض تحذير الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من مغبة مواجهته بمثل ما سبق من الامم السالفة حيث نزل عليهم العذاب في الدنيا وسيعذبون في الآخرة ايضا وذلك لأنّهم استكبروا ورفضوا الانصياع لدعوة الرسل بحجة أنّهم بشر مثلهم.
والتعبير بأنّ الرسل (كانت) تأتيهم يدل على استمرار الرسالات وأنّ كلها كانت تأتي بالحجج الواضحة البينة كلٌّ بمقتضى زمانه، فلم يكن هناك ما يقتضي الشك في صحة الرسالة ولم يكن للمرسل اليهم عذر مقبول وانما تشبثوا بعذر متكرر بين الاقوام وهو الاستنكاف من قبول رسالة البشر وأنّ الله تعالى لو أراد هدايتهم لأرسل اليهم ملائكة من السماء.
ويدل قوله تعالى (فقالوا..) بعد قوله (كانت تأتيهم رسلهم..) أنّ هذا الجواب كان هو جواب الجميع وكأنّهم اجتمعوا وقالوا ذلك في كلمة واحدة. والاستفهام في (أبشر يهدوننا) للاستنكار ومعناه أنّه لا يمكن أن يهدينا البشر.
فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ... التولّي: الاعراض. والفاء تدلّ على الترتّب وأنّ كفرهم وإعراضهم نشأ من استكبارهم واستنكافهم عن قبول دعوة الرسل. و(استغنى) وان كان من باب الاستفعال، الا أنّه ليس بمعنى طلب الغنى في هذه المادة، بل بمعنى غَنِيَ. ومثله قرّ واستقرّ.
وقد وقع الاشكال في أنّ الفعل يدل على حدوث الاستغناء حين كفرهم وتولّيهم مع أنّه تعالى غني بالذات!! فقيل: إنّه بمعنى الحال اي كفروا والحال أنّه تعالى مستغن عنهم. وقيل: إنّه بمعنى إظهار الغنى فالذي حدث آنذاك أنّه تعالى أظهر استغناءه عنهم وعن إيمانهم وذلك بأن أنزل عليهم العذاب وأهلكهم. وهذا القول أقرب. والغرض من ذلك بيان أنّه تعالى لا يبالي بأن يهلك قوما بأجمعهم بل يهلك من في الارض جميعا فإنّ بعض النفوس يستبعد ذلك والقرآن يصرّح بأنّ ذلك ليس على الله بعزيز كما قال تعالى: (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا).[1]
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ... الجملة تعليل لما مرّ من اظهار استغنائه تعالى بإهلاك الأقوام السابقة فانه تعالى غنيّ بالذات لا يفتقر الى إيمان عباده او عبادتهم ولا يهمّه بقاؤهم وحياتهم ولا يثقل عليه هلاكهم بل لا يهتمّ بفناء الكون بأجمعه فهو لا يتعب ولا يثقل عليه خلق الكون بكلّ ما فيه من دقّة فانما أمره اذا أراد شيئا ــ مهما كان ــ أن يقول له كن فيكون.
ولعل توصيفه تعالى بالحمد بعد التوصيف بالغنى للاشارة الى أنه مع غناه التام لا يقدم على مثل ذلك ولا يهلك الناس جميعا بل لا يهلك الاقوام المستحقين للهلاك ايضا الا في إطار السنة الالهية العامة وذلك لأنّه حميد الصفات ومن صفاته الحميدة العفو والستر والرحمة بل إنّ رحمته تعالى سبقت غضبه.
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا... الزعم هو القول المشكوك في صحته ويطلق على الادعاء الباطل او ما يحتمل بطلانه وهو من أفعال القلوب فيتعلق بمفعولين ولكن الغالب فيه تصدير متعلقه بـ (أن) فيأول الى مصدر مضاف يسدّ مسدّ المفعولين والتأويل هنا (انتفاء بعثهم). و(لن) يدل على تأكيد النفي وتأبيده.
والمراد بالذين كفروا، المشركون في الجزيرة العربية ولا يختص بأهل مكة ــ كما قالوا ــ لأن السورة مدنية كما هو واضح من سياقها وقد مرّ أن بعضهم توهم أنها مكية لمكان هذه الآيات او أن خصوص هذه الآيات مكية.
والصحيح كما مرّ أن التعرض لكلام المشركين وزعمهم لا يدل على كونها مكية لأن الافكار الجاهلية كانت باقية في قلوب بعض من آمنوا ظاهرا وهم المنافقون والذين في قلوبهم مرض فكان من اللازم تحذيرهم من تبني هذه الافكار الباطلة مع أن المؤمنين الصادقين ايضا كانوا في خطر من تأثير الرواسب الجاهلية فتنبيههم بما ورد في هذه الآيات في محله بل هو أهم من تنبيه المشركين.
وانكار البعث من الافكار التي يتبناها الوثنيون قديما مع اعترافهم بوجود الله تعالى وخالقيته للكون. وهو أمر خطير جدا لأنه يسلب المسؤولية عن الانسان أمام الله تعالى فان لم يكن هناك قانون نافذ وحكومة مسيطرة فان الفساد والعدوان يعم المجتمع بلا وازع ولا رادع.
قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ... (بلى) حرف جواب يأتي بعد استفهام للنفي ويفيد الاثبات كقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)[2] أو يأتي لابطال النفي كما هنا. وأكّد الجواب بالقسم وأقسم بربوبيته تعالى للاشارة الى أن البعث مقتضى الربوبية ولكنه أضاف الربّ اليه صلى الله عليه واله وسلم لأنهم لا يعتقدون بربوبيته تعالى فأراد بهذا الجواب اثبات الامرين الذين ينكرهما المشركون. ثم أكّد ايضا بالتصريح بالجواب بقوله (لتبعثنّ) مع أن (بلى) كاف في ذلك وأتى به ايضا مؤكّدا باللام والنون.
ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ... اي بعد البعث يأتي دور المحاسبة واعلام الانسان بكل ما عمل في الدنيا وهذا ايضا مؤكّد باللام والنون وداخل تحت القسم وهو الغاية من البعث اذ لا أثر له لولا المحاسبة والجزاء. ويظهر من بعض الآيات أن إنباء الانسان بأعماله يتمّ بعرض العمل بنفسه فيرى الانسان نفسه متلبّسا بالعمل وهو بذاته جزاء له ايضا.
وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ... التصريح بالاسم الجليل بدلا عن الاتيان بالضمير للاشارة الى السبب فالمعنى أن البعث والإنباء كأيّ أمر آخر يسير عليه لانه هو الله تعالى خالق الكون من العدم. ويسير فعيل بمعنى المفعول من اليسر اي ميسور وهو السهل الخفيف المنقاد. وكل شيء منقاد له تعالى بل ان اعادة الخلق أسهل من خلق الكون ابتداء من العدم وان كانت الامور متساوية بالنسبة اليه تعالى فليس هناك سهل وأسهل.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا... الفاء للتفريع فان وجوب الايمان عقلا مترتب على امكان البعث والحساب. والآية السابقة تكفلت لاثبات امكانه بحجة أن ذلك على الله يسير فاذا كان البعث ممكنا وهو امر خطير للغاية فالعقل يحكم بوجوب الايمان بالله والرسول مقدمة للعمل بما يوجب النجاة يوم الحساب.
والامر بالايمان يقتضي أن يكون المراد به أمرا اختياريا لا حصول العلم او الوثوق او الظن. والواقع أن الايمان كذلك وهو كما مر ذكره في تفسير قوله تعالى (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ..)[3] العلم مع الالتزام وعقد القلب به بحيث يترتب عليه لوازمه من العمل. وعقد القلب امر اختياري ولذلك قد يجتمع الكفر مع العلم كما قال تعالى (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا..)[4] وليس المراد الجحود باللسان فان المؤمن ايضا قد يضطر الى الانكار.
والآية تدلّ على عدم كفاية الايمان بالله تعالى وهو واضح لأن العمل الصالح لا يمكن الا بالايمان بالرسالة التي هي الواسطة بين الله تعالى والخلق. ومن الايمان بالرسالة الايمان بالكتاب الذي انزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وهو المراد بالنور الذي أنزله الله تعالى. والتعبير عنه بالنور تكرر في القرآن الكريم كما عبّر عن التوراة والانجيل ايضا بذلك نظرا الى أن الكتاب المنزل من الله تعالى يشتمل على المعارف الالهية التي ينير الطريق أمام السالك الى الله تعالى ويشتمل على شريعة السماء التي بالعمل بها يستنير الطريق الى السعادة الابدية يوم الحساب.
والملفت في التعبير الالتفات الى ضمير المتكلم مع الغير مع أن المناسب ضمير الغائب لسبق ذكره تعالى فقيل: ان السبب فيه التأكيد على كونه منزلا من الله تعالى لأن ضمير المتكلم أقوى دلالة على المرجع من ضمير الغائب.
وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله: لعل السبب التأكيد على كونه منزلا منه تعالى بالشهادة فهناك فرق بين أن يخبر أحد بشيء يسنده الى أحد وبين أن يسنده الى نفسه ففيه معنى الشهادة وهو آكد من الاخبار بقول مطلق. وفي روح المعاني: ان السبب إبراز العناية بأمر الانزال حيث أتى بنون العظمة. ولعل هذا أظهر الوجوه.
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ... تعليل لجملة مقدرة داخلة في حيز التفريع كأنه قال: فآمنوا بالله.. واعملوا ما شئتم من خير وشر فان الله خبير بما تعملون ويحاسبكم بأعمالكم يوم الحساب. وأتى بالاسم الظاهر ايضا للاشارة الى السبب.
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ... ظرف لقوله تبعثن وتنبؤن. والخطاب للبشر فالله تعالى يجمعهم جميعا من الاولين والآخرين يوم القيامة كما قال تعالى (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ)[5] وقال ايضا (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)[6] وهو أمر في غاية الغرابة لا يكاد يتعقله الانسان. واللام في (ليوم الجمع) بمعنى في.
ويوم الجمع يوم القيامة وهو ايضا يوم الفصل فهو يوم يجمع فيه الانسان بعمله ويجمع بين كل أحد وفريقه كما قال تعالى (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)[7] فان الانسان في هذه الحياة لا يعلم خصائص من يجتمع بهم ولعله يرى حسب ظاهر الحال ان من يصادقه مناسب له ويوم القيامة حيث تتبين كل الاسرار يعلم أنه لا مناسبة بين بعض من اجتمعوا في صف واحد فيذهب كل أحد الى فريقه وربما يفرق بين الزوجين او بين الآباء والابناء او بين الاخوان فهناك يجتمع المتفرقون هنا ويتفرق المجتمعون وهكذا يحدث الفصل والجمع معا.
مضافا الى جمع كل البشر من الاولين والآخرين في مجمع واحد يتراءون ويتحادثون من دون تزاحم ومضايقة وهو أمر في غاية الغرابة ولكن الله تعالى قادر على كل شيء وليس ذلك على الله بعزيز.
ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ... الغبن يأتي متعديا ولازما فالمتعدي منه يستعمل في البيع ونحوه ومعناه الخداع والتخسير في المعاملة فيقال غُبن الرجل في بيعه اي ظلم واهتضم واللازم منه يستعمل في الرأي فيقال غَبِن رأيُه اذا كان ضعيفا. والمفسرون واللغويون اعتبروا التغابن في هذه الآية من الاول وقالوا: التغابن في القوم أن يخدع بعضهم بعضا، وأن المراد تغابن الفريقين أهل الجنة وأهل النار.
ومن الواضح أن الخداع لا يحصل في ذلك اليوم فلو صح ما ذكروا فالظاهر أن المقصود ظهور الخسارة لاهل النار في مواجهتهم لاهل الجنة في الدنيا حيث انهم رضوا بالحياة الدنيا عن الآخرة فتبين لهم يوم القيامة أنهم قد خسروا المعركة كما قال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..)[8] بخلاف أهل الجنة حيث قدّموا رضا الله تعالى على شؤون الدنيا فربحوا أعظم ربح على الاطلاق.
بل هو في الواقع ليس من الخداع في شيء فان اهل الجنة لا يحاولون في الحياة الدنيا اضلال غيرهم بل ان ذلك يعتبر عندهم جرما واثما عظيما فهم يحاولون هداية اكبر عدد من البشر الى ما هو الصلاح والفلاح فالتعبير عنه بالغبن والخداع من هذه الجهة ايضا بنحو من المجاز والتشبيه اي ان حالهم كحال من خدع في معاملته فأحد الفريقين كأنه غبن الفريق الآخر.
ولكن يمكن أن يكون التغابن من اللازم وهو الضعف في الرأي او الخسارة الذاتية من دون أن يكون هناك محاولة من الآخر لخداعه وتخسيره. وقد اشتبه بعض المفسرين مع طول باعه في العربية حيث اعتبره من باب المفاعلة التي تدل على الوقوع بين طرفين مع أنه تغابن وليس مغابنة وهو من باب التفاعل وهذا الباب لا يدل دائما على ذلك بل يختلف مدلوله بحسب المواد فالتعالي والتعاظم والتنامي والتسامح والتساهل والتواني والتكاسل ونحوها لازمة وهي كثيرة ومفادها يقرب من مفاد باب التفعل، نعم يفيد ذلك في مثل التضارب والتقاتل والتفاخر.
وعليه فيمكن أن يكون التغابن هنا من هذا القبيل فلا يفيد معنى المغابنة بل يفيد معنى التلبّس بالصفة او ظهورها فيه فكما أن التعالي بمعنى التلبس بالعلو او محاولته او ظهور علوه كذلك التغابن يوم القيامة بمعنى التلبس بالخسارة او ضعف الرأي او ظهور ذلك فيهم.
هذا ويمكن أن يكون المراد الشعور بالخسارة لدى الجميع، فان أهل الجنة ايضا اذا لاحظوا أهمية العمل الصالح والآثار المترتبة عليه يشعرون بالخسارة لما صرفوا من وقتهم في غير ذلك وان لم يتركوا واجبا ولا ارتكبوا محرما. وهذا نظير تسمية ذلك اليوم بيوم الحسرة وهي الاسف فان ذلك ايضا لا يختص بأهل النار.
ومهما كان فالاتيان باسم الاشارة مع كون الخبر معرفة يفيد الحصر ليبين أن الغبن والخسارة الواقعية هي ما يحصل في تلك الحياة لا الخسارة المادية فكأنّه لا خسارة الا تلك الخسارة كما أفاده في آية سورة الشورى الآنفة الذكر ايضا حيث حصر الخاسرين في من خسروا في تلك الحياة.
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ... بيان لاختلاف حال الفريقين الموجب لحصول التغابن بأي معنى فرض. فالفريق الاول من يؤمن بالله ويعمل العمل الصالح. والفعل المضارع يدل على استمرار ايمانه وعمله، وليس بمعنى الاستقبال ــ كما توهم ــ ليختص بمن يؤمن بعد نزول هذه الآية اذ لا وجه للتخصيص.
وقوله (صالحا) صفة لمفعول مقدر اي ويعمل عملا صالحا. وقد ورد هذا التعبير في عدة موارد من الكتاب العزيز. والصلوح معنى مبهم يختلف المراد به حسب الموارد فهو هنا بمعنى العمل الذي يصلح للتقرب به الى الله تعالى او لنيل رضاه او دخول الجنة وقد ورد في القرآن بمعنى الصلاحية للزواج قال تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ..)[9] اي الرقيق الذين يصلحون للزواج من مختلف الجهات وقد يراد الصلوح لدخول الجنة كما في قوله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)[10] فان المراد هنا ان المؤمنين الموصوفين باوصاف خاصة في الآيات السابقة يدخلون جنات عدن ويلحق بهم وبشفاعتهم آباؤهم وازواجهم وذرياتهم اذا كانوا يصلحون لدخول الجنة بان لا يكونوا كفارا او منافقين او ممن يلحق بهم في العقيدة او العمل.
ولا يراد بقوله تعالى (ويعمل صالحا) كفاية العمل بواحدة من الصالحات في استحقاق الجنة كما هو واضح فلعل التنكير في الآية باعتبار اختلاف درجات الصلوح حسب اختلاف درجات الايمان فليس بالضرورة ان يعمل المؤمن ما هو الاصلح في كل مورد وانما يجزيه ان يعمل ما هو الصالح.
كما أن التعبير بالعمل بالصالحات في آيات كثيرة جدا لا يعني العمل بجميعها حتى لا يستحق الجنة الا من عمل بجميع الواجبات الشرعية ولم يأت بسيئة اطلاقا فانه يختص حينئذ بالمعصومين وهو بعيد جدا مع أنه مخالف لموارد من هذا التعبير كقوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ..)[11] حيث يدل على ان العمل بالصالحات لا ينافي وجود بعض السيئات في صحيفة اعماله. ولكن لا يحتمل ان يكون المراد بها العمل ببعض الصالحات على اطلاقه اذ لا يخلو مؤمن من العمل ببعض الاحكام مع انه ينافي قوله تعالى (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[12] حيث يدل على انهم لا يستحقون الجنة بعملهم مع انهم عملوا صالحا.
ولم أجد من تطرق لهذا الموضوع الا ما ذكروه باختصار في تفسير قوله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)[13] فان الظاهر أن (من) تبعيضية فتدل الآية على أن من يعمل بعض الصالحات يدخل الجنة ايضا كما التزم به كثير من المفسرين منهم الشيخ الطوسي من القدماء والعلامة الطباطبائي من المتاخرين.
ولكن الزمخشري في الكشاف أوّل الآية وتبعه جماعة بأن المراد العمل بما تحقق موضوعه للمكلف فالوجه في التبعيض أن كثيرا من الناس لا يستطيعون العمل ببعض الاحكام كالحج والجهاد والزكاة لعدم تحقق موضوعاتها بسبب فقدان بعض الشروط كالاستطاعة والسلامة والمال. ومعنى ذلك ان مناط الاستحقاق العمل بالجميع.
ولكنه بعيد جدا كما مر بيانه مضافا الى أن هذا التوجيه غير صحيح اساسا اذ لا عبرة بالاعمال التي لم يطلب من المكلف ولا تعتبر من الصالحات بالنسبة له بل ربما يكون العمل من احد صالحا ومن آخر سيئا فالمناط في صدق الصلوح هو ظروف المكلف ومناط التكليف ومن هنا ذهب بعضهم كالطبرسي الى ان (من) زائدة وهو ايضا بعيد اذ ليس هذا من موارده.
والظاهر أن الوجه في التبعيض التخفيف على المؤمنين والله تعالى خالق البشر والعالم بكل شؤونه فلا يتوقع منه ان لا يترك واجبا ولا يعمل حراما مطلقا كما قال تعالى (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)[14] فالذي يبدو أن المناط في الاستحقاق هو ترك الكبائر والفواحش والاهتمام بالفرائض بمقدار الوسع والاستطاعة فيكون المراد بالعمل بالصالحات ايضا هذا المعنى اي انه لا يعتبر العمل بالجميع ولا يكفي العمل بالبعض باطلاقه فيبقى مناط الاستحقاق بدقة مما لا يعلمه الا الله تعالى.
وتكفير السيئات بمعنى سترها فلا يبقى لها أثر ولا يفتضح الانسان ــ مع الايمان والعمل الصالح ــ بما عمله من السيئات. والظاهر أنها في مقابل الكبائر لقوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..)[15] وأما الكبائر فمرتكبها لا يصدق عليه انه ممن يعمل بالصالحات الا اذا تاب.
وقوله (ذلك الفوز العظيم) يشير الى أنهم الفريق الرابح لان الفوز هو الظفر بالخير المقصود سواء كانت هناك مسابقة مما يستوجب المغابنة أم لا. وتوصيفه بالعظمة بلحاظ مقارنته بما يعتبره البشر فوزا في هذه الدنيا مع ان بعضه خسارة في الواقع وليس فوزا وما يعد منه فوزا للانسان فهو فوز ضئيل جدا اذا قورن بالفوز في الآخرة.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ... بيان لحال الفريق الثاني. وعقّب ذلك بأنه بئس المصير للاشارة الى أنهم الفريق الخاسر. وذكر الكفر والتكذيب بالآيات مع أن السورة خطاب للمؤمنين للاشارة الى أن من لا يطيع الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم يدخل في هذا الصنف وان آمن ظاهرا كالمنافقين. وحاول بعض المفسرين أن يفرق بين الكفار، بدعوى أنه تعالى لم يذكر في هذه الآية (أبدا) كما ذكره في بيان حال المؤمنين، وهذا يدل على أنهم ليسوا جميعا مؤبدين في النار. وهذا باطل قطعا للتصريح بذلك في سائر الموارد، ولكفاية التعبير بالخلود.
[1] الشمس: 14- 15
[2] الاعراف: 172
[3] الفتح: 4
[4] النمل: 14
[5] المرسلات: 38
[6] الواقعة: 49- 50
[7] التكوير: 7
[8] الشورى: 45
[9] النور: 32
[10] الرعد: 23
[11] العنكبوت: 7
[12] التوبة: 102
[13] النساء: 124
[14] النجم: 32
[15] النساء: 31