مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة التكاثر يحتمل كونها مكية ومدنية وموضوعها غفلة الانسان عن الموت مع كثرة ما يذكّره به ثم تحذيره من الجحيم وحثّه على شكر النعم.

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ...

(ألهاكم) إفعال من اللهو وهو الاشتغال بأمر تافه مع الغفلة عن الأمر المهم. والتكاثر فاعل الإلهاء اي ان التكاثر هو الذي جعلكم تلهون.  

والتكاثر والمكاثرة بمعنى واحد والمعروف في تفسيره انه المباهاة والتفاخر بالكثرة وروى المفسرون روايات مختلفة في شأن نزول السورة المباركة.

ولكن الظاهر من اللفظ التسابق في الاكثار من الشيء المرغوب فيه من المال والولد ونحوهما لا خصوص المباهاة وان كان التسابق يجرّ اليها. وهذا هو الامر المبتلى به الناس عامة والخطاب لهم.

قال بعضهم إن الخطاب للكفار لما فيه من الغلظة ولان المسلمين الاوائل ما كانوا يلتهون بالتكاثر!!

وهذا غير صحيح قطعا فالالتهاء بالتكاثر صفة عامة للبشر نعم كان كثير من المسلمين الاوائل فقراء ولكنه لا ينافي المحاولة من التكاثر في بعض ما يحصل عليه الانسان ولو من حسن السمعة في الناس او العلم الذي ينفع في الدنيا بل مطلقا.

و(حتى) لبيان انتهاء الغاية اي ان تسابقكم ما كان لينتهي الا بعد ان زرتم المقابر.

والمقابر جمع مقبرة اي مكان القبور قالوا ان زيارة القبور كناية عن الموت اي الالتهاء بالتكاثر او التفاخر باق فيكم الى الموت فلا تتركونهما طيلة العمر.

وانما عبّر عن الموت بزيارة المقابر تنبيها على ان من يدفن فيها انما هو زائر وليس هذا مستقرّه بل سيقوم الى حياة جديدة.

وقيل: ان المراد انهم كانوا يتباهون بكثرة الرجال حتى اذا انتهوا من الأحياء تباهوا بأمواتهم ورووا في ذلك قصة اعتبروها شأن نزول السورة.

وكل هذا من تضييق النص ولا دليل عليه والروايات لا اعتبار بها.

ويمكن أن يكون المراد أن التكاثر يلهيكم عن تذكّر الموت الى ان تزوروا المقابر فتتذكرون الموت وأن هذا مصيركم كما كان مصير آبائكم فتنتبهون قليلا ثم تعودون الى الالتهاء بعد الخروج من المقبرة. وهذا هو الواقع الملموس طيلة الحياة.

ولم يرد في الآية ذكر عن الامر الملهوّ عنه فتركه مبهما ليتناول كل ما هو اهم من هذا الذي التهى به الانسان وحيث كان التكاثر يشمل كل نوع من انواع التسابق الموجود بين البشر في الامور المادية وشؤون الدنيا فالملهو عنه هو كل ما يرتبط بالآخرة فالانسان يغفل عن الموت وهو اول مراحل الاخرة وهو امر محسوس فضلا عما وراءه ويغفل عما يجب ان يفعل ويترك ليرد على ربه بقلب سليم.   

وتعبير السورة عجيب في حكايتها عن واقع البشر فالانسان مغرم بجمع المال وكسب الجاه وغيرهما مما يستحبه من شهواته ونزواته لا يشبع منها ويسابق الاخرين في كثرة المال والولد وتحصيل الجاه والسلطة والعلم المادي وغير ذلك والناس مشغولون باجمعهم في ذلك ملتهون لا يهمّهم ما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة الى ان يزوروا المقابر.

كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ...

(كلا) زجر لهم على التهائهم بالتكاثر وغفلتهم عن الآخرة لكي يرتدعوا عنه.

وقوله (سوف تعلمون) تهديد لهم ووعيد بأنهم سيواجهون نتيجة هذا اللهو ويعلمون ان الامر ليس كما توهموا وان الحقيقة بعيدة المنال لاصحاب اللهو والتكاثر ولكنهم سيصلون الى هذه الحقيقة في النهاية.

وكرر الزجر والتهديد بالاية الثانية للتاكيد والتهويل.  

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ...

(كلا) تكرار للزجر عن الالتهاء مرة ثالثة وفي هذا التكرار العجيب والتأكيد بعد التأكيد من الالتهاء بالتكاثر زاجر عظيم لو كنا نعقل او نسمع.

واكرر عجبي من المفسرين الذين حملوا كل هذا التأكيد والتكرار على مخاطبة المشركين خاصة بدعوى ان المسلمين الاوائل ما كانوا في غفلة.

والصحيح ان الانسان بذاته يغفل عن اهم الامور دائما ويلتهي بمشتهياته ولو كان الاوائل منزهين عن ذلك فلماذا اختلفوا بعد الرسول صلى الله عليه واله وسلم واقتتلوا؟! وقد قال الله تعالى في ذلك بصورة عامة:

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ).[1]

ثم بين لهم جانبا من الحقيقة المغفول عنها بقوله (لو تعلمون علم اليقين لتروُنّ الجحيم) اي لو تعلمون الحقيقة بعلم يقيني لا بالمظنّة لترونّ الجحيم في هذه الدنيا رؤية بالقلب يعني ان هذه حقيقة واضحة الا انكم لا تعلمون بها لاشتغالكم بالملاهي.

وعلم اليقين مفعول مطلق يبين نوع العلم. واليقين هو إزاحة الشك وإزالته تماما وليس بمعنى العلم ولذلك لا ينسب الى الله تعالى. ولذلك ايضا اضيف اليه العلم هنا فان العلم قد يصدق لدى العرف مع قليل من الشك ولا يصدق اليقين الا باستقرار النفس وزوال كل احتمال مخالف حتى لو لم يكن بمقدار يهتمّ به العقلاء في شؤونهم الخاصة. وعليه فالاضافة هنا بيانية اي علما هو اليقين.

واللام في قوله (لتروُنّ) لام القسم فتدل على قسم مقدر ومع ذلك فقد أكّده بنون التأكيد الثقيلة لكي لا يبقى شكّ في تحقّقه. 

والجحيم: النار شديدة التأجّج والإلتهاب كما في العين. وقال العسكري في الفروق ان الجحيم نار فوق نار وجمر فوق جمر.

وقد كان من المؤمنين في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من ادّعى انه من الايمان بحيث كأنه يرى الجنة والنار وصدّقه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

روى الكليني رحمه الله بسند معتبر عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالناس الصبح فنظر إلى شابّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرّا لونه قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف أصبحت يا فلان؟ قال أصبحت يا رسول الله موقنا فعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله وقال إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون وعلى الأرائك متكئون وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه هذا عبد نوّر الله قلبه بالايمان ثم قال له الزم ما أنت عليه فقال الشاب ادع الله لي يا رسول الله أن ارزق الشهادة معك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر).[2]

والحديث مروي باسناد مختلفة وباختلاف يسير في كتب العامة والخاصة وفي بعضها ان اسمه حارثة بن النعمان الانصاري رضوان الله عليه.

ولكن عامة المفسرين فصّلوا بين الآيتين وقالوا انّ قوله (لو تعلمون علم اليقين) جوابه مقدر اي لما اشتغلتم بالتكاثر ــ مثلا ــ وذلك لان قوله لتروُنّ الجحيم لا يمكن ان يكون جوابا له فان جواب لو ممتنع وهذه الرؤية محقّقة قطعا يوم القيامة وهي المراد بقوله (لتروُنّ). اذن فقوله (لترون الجحيم) جملة مستأنفة وفيها قسم مقدر.

وردّ عليهم العلامة الطباطبائي قدس سره بقوله ونعم ما قال (وهذا مبني على أن يكون المراد رؤية الجحيم يوم القيامة كما قال «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏» النازعات: 36 وهو غير مسلم بل الظاهر أن المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤية البصيرة وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه قوله تعالى «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» الأنعام: 75، وهذه الرؤية القلبية قبل يوم القيامة غير محققة لهؤلاء المتلهين بل ممتنعة في حقهم لامتناع اليقين عليهم).  

وما ذكروه تأويل غير مبرّر ومخالفة لظاهر الآية من أنّ الرؤية محقّقة فعلا وأنّ الرؤية يوم القيامة ستحصل فيما بعد كما تدل عليه الآية التالية وانما اضطروا الى هذا التأويل الخطأ لانهم لم يعقلوا معنى لرؤية الجحيم في هذا العالم مع أنّ رؤية القلب واردة في القرآن قال تعالى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى).[3]  

ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ...

(ثمّ) للتراخي الزماني اي والله لترونّ الجحيم عين اليقين في الآخرة.

و(عين اليقين) مفعول مطلق ايضا اي لترونها رؤية هي عين اليقين اي نفسه فالرؤية هناك ليست كالرؤية هنا يحتمل فيها الخطأ بل هي رؤية يصاحبها اليقين والاطمئنان بل هي عين اليقين لا تختلف عنه.

ويمكن ان يكون العين بمعنى المعاينة وهي الرؤية بالذات اي لترونّها رؤية اليقين.

ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ...

قد تكون (ثم) هنا للتراخي الرتبي اذ تتحقق الرؤية والسؤال معا. ويمكن ان تتأخر زمانا ايضا ومهما كان فقوله (يومئذ) اي يوم القيامة ويوم بروز جهنم للعيان يُسأل الانسان عما أنعم الله عليه في الدنيا.

والنعيم فعيل من النعمة وهي طيب العيش والترفّه والدعة وما به صلاح حال الانسان وفي المفردات ان النعيم بمعنى النعمة الكثيرة ومهما كان فان السؤال عن النعم يوم القيامة بمعنى الفحص عما فعل الانسان بنعمه تعالى وهل استعملها فيما اراد الله منه ام في غيره.

وهناك روايات كثيرة تدل على أن المراد به النعم المعنوية اي هدايات الله تعالى.

روى الكليني قدس سره بسنده عن أبي حمزة قال: (كنا عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة فدعا بطعام مالنا عهد بمثله لذاذة وطيبا وأوتينا بتمر ننظر فيه إلى وجوهنا من صفائه وحسنه فقال رجل لتسألن عن هذا النعيم الذي نعمتم به عند ابن رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال أبو عبد الله عليه السلام إن الله عز وجل أكرم وأجل من أن يطعمكم طعاما فيسوغكموه ثم يسألكم عنه ولكن يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد وآل محمد صلى الله عليه وعليهم).[4]

وفي رواية اخرى عن أبي خالد الكابلي قال (دخلت على أبي جعفر عليه السلام فدعا بالغداء فأكلت معه طعاما ما أكلت طعاما قط أنظف منه ولا أطيب فلما فرغنا من الطعام قال يا أبا خالد كيف رأيت طعامك أو قال طعامنا؟ قلت جعلت فداك ما رأيت أطيب منه ولا أنظف قط ولكني ذكرت الآية التي في كتاب الله عز وجل "لتسئلن يومئذ عن النعيم" قال أبو جعفر عليه السلام: لا إنما تسألون عما أنتم عليه من الحق).[5]

والروايات في ذلك متعددة والمراد أن الانسان مسؤول يوم القيامة عن تعامله مع ما انعم الله عليه من نعمة الهداية الى ما فيه سعادته في الدنيا والاخرة وأنه هل اتّبع الحق ام لا.

وقول الامام عليه السلام (انما تُسالون عما انتم عليه من الحق) اي عن مذهب اهل البيت عليهم السلام وان الناس هل اتبعوهم كما أمر به النبي صلى الله عليه واله وسلم ام لا؟

جعلنا الله من اتباعهم ومواليهم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين.

 


[1] البقرة : 253

[2] الكافي ج2 ص 53 باب حقيقة الايمان واليقين

[3] النجم: 11 - 14

[4] الكافي ج6 ص 280

[5] نفس المصدر<