سورة التكوير سورة مكية بلا خلاف وهو واضح من السياق ومن مخاطبة المشركين فيها بان صاحبكم ليس مجنونا كما تزعمون وهي تشتمل على ذكر امور تتحقق يوم القيامة او قبله ثم تؤكد على أن القرآن الكريم ليس من كلام الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بل هو من قول جبرئيل عليه السلام باعتبار أنه هو الذي أتى به من الله تعالى وفيها توصيف له وحثّ على متابعة القرآن والاهتداء به.
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ...
تذكر الآيات اثني عشر أمرا مما يحصل في يوم القيامة او قبله للتنبيه على بعض خصائص تلك المرحلة من الكون وعلاماتها.
والتكوير إدارة الشيء ولفّه وجمع بعضه الى بعض كما تلف العمامة. وتكوير الشمس كناية عن تعطيلها عن العمل او إطفاء نورها او إلقائها وإعدامها ومن تعابير العرب (طعنه فكوّره) اي القاه مجتمعا. وهذا من خصائص يوم فناء هذا النظام الكوني وهو مقدمة ليوم القيامة وهكذا الآيات التالية.
وينبغي ان يعلم أن هناك يومين ومرحلتين في نهاية هذا الكون فالنظام الموجود حاليا ينهدم في مرحلة وفي تلك المرحلة يموت كل من على وجه الارض من البشر ثم يقوم الناس في مرحلة اخرى وهي يوم القيامة والى ذلك يشير قوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ).[1]
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ...
الكَدَر ضد الصفاء فالظاهر أن المراد به زوال ضوئها وانطفاؤها. وقيل انه من الانصباب قال الخليل انكدر القوم جاءوا أرسالا حتى انصبّوا عليهم فتكون كناية عن انقضاضها وتناثرها وهو ايضا يحصل يوم زوال النظام وانعدام ما يوجب تماسكها.
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ...
المعروف في تفسير الآية أنّ المراد بتسيير الجبال زوالها وانعدامها يوم فناء الكون.
قال العلامة قدس سره في الميزان (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ بما يصيبها من زلزلة الساعة من التسيير فتندك وتكون هباءا منبثا وتصير سرابا على ما ذكره سبحانه في مواضع من كلامه).
وهو امر محتمل كما قال تعالى (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا)[2] وقال ايضا (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا).[3] وانهدام الكون أمر واقع لامحالة لقوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)[4] وغيرها من الآيات.
ولكن الظاهر ان الآيات التي تخبر عن تسيير الجبال او بعضها على الاقل تحكي حوادث يوم القيام لا يوم الانهدام.
قال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا).[5] فقوله تعالى (يومئذ يتبعون الداعي..) يدل على أن هذا من خصائص يوم القيامة.
وقال تعالى (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)[6] وهو كالصريح في ان تسيير الجبال يتم في يوم الحشر.
كما أن آيات سورة الواقعة ورد بعدها (وكنتم ازواجا ثلثة..) وكذلك قوله تعالى (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)[7] وقال ايضا (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا)[8] وهكذا غيرها.
وملاحظة مجموعها تقضي بأن المراد بها أمر آخر وهو انكشاف الواقع يوم القيامة وعدم امكان تستر الانسان بشيء ولا اللجوء الى شيء كالجبال فما في سورة طه من أنه تعالى ينسف الجبال يوم القيامة ويترك الارض مستوية لا فيها مرتفع ولا منخفض، ولا تعاريج ولا طرق ملتوية يمكن ان يكون كناية عن عدم امكان التستر ذلك اليوم، وأنّ الحقائق ناصعة منكشفة للجميع وكذلك بروز الارض في سورة الكهف وحمل الارض والجبال ودكّهما معا في سورة الحاقة وغير ذلك من التعابير الواردة في الآيات.
والحاصل أنه لا يبعد ان يكون تسيير الجبال وزوالها وجعلها هباءًا كناية عن عدم امكان التستر في ذلك اليوم ولا اللجوء الى ملجأ فان الانسان الساذج ربما يمنّي نفسه باللجوء الى ما يلجأ اليه في الارض، كما قال ابن نوح عليه السلام (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّه إِلَّا مَنْ رَحِمَ..).[9]
ومن الاخطاء الفادحة التي يرتكبها الانسان بوجه عام قياس حقائق تلك المرحلة من التكوين بما يراه ويشعر به هنا وهذا الخطأ تجده بين المؤمنين ايضا.
والكافر وان أنكر يوم القيامة الا أنه لا يمكنه نفي الاحتمال ولكنه يمنّي نفسه بهذه الاماني الخاطئة على فرض وقوعه فمنهم من يدفن معه الحلي والذهب ومنهم من يحمل معه السلاح ومنهم من يعوّل على بطشه وقوته او على ماله وثرائه او على وجاهته وشخصيته او على معاريفه وشفعائه وهكذا..
والقرآن الكريم يحاول إزالة هذه الغشاوة عن أعين البشر ففي ذلك اليوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ولا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم.
ومن ذلك نفي اي طريق للخلاص فالعذاب في ذلك العالم ليس كحوادث هذا الكون ليتمكن الانسان من الفرار بل ان عذاب الله تعالى على الارض ايضا لا مهرب منه كما قال نوح عليه السلام.
فتبين بذلك ان تسيير الجبال كناية عن حقيقة تحصل يوم قيام الناس لا يوم فناء الكون ولا ينافي ذلك كون بعض الآيات الواردة هنا مختصة بما يحدث يوم الفناء كتكوير الشمس وانكدار النجوم وغيرهما اذ ليس الاهتمام هنا بذكر حوادث يوم القيامة خاصة بل بيان ما يشاهد يوم القيامة سواء حصلت في تلك المرحلة او قبلها بل ربما تبدأ تلك المرحلة من التكوين من يوم الانهدام.
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ...
الظاهر أن هذا من علائم يوم الانهدام.
والعشار جمع عُشَراء وهي الناقة التي اقربت. قال الخليل سميت به لتمام عشرة اشهر لحملها قال ويقال عشراء بيّنة التعشير اي الحمل. وقيل بل العشار اسم النوق التي قد نتج بعضها وبعضها قد أقرب ينتظر نتاجها.
ومهما كان فالمراد بها ما يعتبره المخاطبون العرب من أنفس ما يملكه الانسان فهم يعطّلون كل ما لديهم من النفائس اي لا يهتمون بها لما اصابهم من الذهول والحيرة.
والظاهر أنه مما يحدث يوم بروز علائم نهاية الكون وان احتمل ايضا ارادة يوم القيامة باعتبار أنه مجرد كناية ولا يقصد المعنى على حقيقته والانسان يوم الحشر مشغول بنفسه لا يهتم باسرته ووالديه واقرب اقربائه فضلا عن امواله.
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ... وهذا ايضا من علائم يوم الانهدام.
والحشر: الجمع. ويبدو أنه ليس جمعا مطلقا بل جمع بسوق وبعث كما في معجم المقاييس او جمع بازعاج كما في المفردات وغيرها.
والوحوش: الحيوانات غير الاهلية قال في العين (الوحش كل ما لا يستأنس من دوابّ البر). والظاهر أن المراد تجمعها حينما تشعر بقرب نهاية الكون نظير ما يشاهد منها قبل الزلازل والفيضانات فان الحيوان يدرك امرا غريبا في هذه الحالات لم يصل اليه البشر حتى الآن. وكثيرا ما يعتمد الناس على مثل هذه التصرفات من الحيوان ويدركون قرب الخطر.
وقيل: ان المراد حشر الحيوانات يوم القيامة بقرينة قوله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).[10]
ويلا حظ أن هذه الآية تختلف عن الآية مورد البحث لانها تختص بالوحوش وهذه الآية تشمل جميع الدواب والطيور.
وبصورة عامة لا يمتنع عقلا حشر الحيوانات او بعضها ومحاسبتها ايضا بمقدار ما آتاها اللّه تعالى من إدراك ولكن لا دليل عليه وهذه الآية ليست صريحة في ذلك فيحتمل عود الضمير في قوله تعالى (الى ربهم يحشرون) الى الناس ويحتمل ان لا يكون الحشر بمعنى جمعها للمحاسبة خصوصا ان الضمير لذوي العقول في قوله (ربهم) وفي قوله (يحشرون) ونسب الى ابن عباس القول بان الحشر بمعنى الموت ولكنه لا يناسب قوله (الى ربهم).
وعامة المفسرين اضطروا الى تفسير الآية بالحشر للحساب لما ورد في صحيح مسلم فهم لا يمكنهم تضعيف ما في هذا الكتاب ونحن لا نعتمد عليه كاي كتاب اخر وانما نلاحظ كل حديث لوحده بسنده ونصه.
روى مسلم في صحيحه بسنده (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ).[11] والحديث غريب من جهة ان مجرد كون الشاة قرناء لا يوجب كونها ظالمة ومهما كان فالحديث غير صحيح عندنا.
وفي الدر المنثور (وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَأَبُو عبد وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: مَا من دَابَّة وَلَا طَائِر إِلَّا ستحشر يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يقْتَصّ لبعضها من بعض حَتَّى يقْتَصّ للجلحاء من ذَات الْقرن ثمَّ يُقَال لَهُم كوني تُرَابا فَعِنْدَ ذَلِك يَقُول الْكَافِر {يَا لَيْتَني كنت تُرَابا} النبأ الْآيَة 40 وَإِن شِئْتُم فاقرؤوا: وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم).[12]
ولم نجد هذا الحديث في المجموعات الحديثية مع انه مقطوع لا يتصل الى المعصوم فلا حجية فيه حتى عند من يقبل سنده.
وكثير من مفسري الشيعة ايضا ذهبوا الى هذا التفسير واستندوا في ذلك الى بعض الروايات منها ما رواه الطبرسي عن أبي ذر قال (بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ انتطحت عنزان فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أتدرون فيما انتطحتا؟ فقالوا: لا ندري. قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما)[13]
والحديث عامي وروي بدل عنزان شاتان ولكنه مع انه لا سند له عندنا لا يدل على انه تعالى سيقضي بينهما يوم القيامة.
وبحديث مرسل ارسله الصدوق بقوله (قال الصادق عليه السلام) قال (أيما بعير حجّ عليه ثلاث سنين جعل من نعم الجنة. ثم قال الصدوق وروي سبع سنين).[14]
وهذا مع ارساله ايضا لا يدل على عموم الحشر والمجازاة.
ومن هنا يظهر وجه النظر في صحيحة يونس بن يعقوب عن الصادق عليه السلام قال: (قال علي بن الحسين عليهما السلام لابنه محمد حين حضرته الوفاة إنني قد حججت على ناقتي هذه عشرين حجة فلم أقرعها بسوط قرعة فإذا نفقت فادفنها لا يأكل لحمها السباع فان رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ما من بعير يوقف عليه موقف عرفة سبع حجج إلا جعله الله من نعم الجنة وبارك في نسله فلما نفقت حفر لها أبو جعفر عليه السلام ودفنها).[15] فان هذا الحديث لا يدل على الحشر والجزاء فلا وجه للتمسك به كما في بعض الكتب.
وقال في موضع اخر (روى السكوني باسناده أن النبي صلى الله عليه وآله أبصر ناقة معقولة وعليها جهازها، فقال: أين صاحبها، مروه فليستعد غدا للخصومة).[16]
وهذا ايضا مع ارساله لا يدل على ان الناقة تحشر للمخاصمة ولكن الله تعالى يحاسب صاحبه لظلمه فيكون هو تعالى خصمه.
والحاصل أنه لا دليل يعتمد عليه من الروايات يدل على حشر جميع الحيوانات يوم القيامة ومجازاتهم على اعمالهم ولكن العلامة الطباطبائي قدس سره استند الى نفس الآية المباركة وقد بينا انها ليست واضحة في هذا المعنى خصوصا بلحاظ الضمير الخاص بذوي العقول ولم يجمع في الاية بين الدواب والطيور والانسان ليصح الاتيان بضمير ذوي العقول.
ولكن العلامة قال في توجيه الضمير الخاص بذوي العقول أنه إشارة إلى أن أصل الملاك وهو الامر الذي يدور عليه الرضا والسخط والاثابة والمؤاخذة موجود فيهم.
ولكن هذا التوجيه لو صحّ فانما يصار اليه لو ثبت رجوعه الى الدواب والطيور مع أن رجوعه الى ذوي العقول امر محتمل باعتبار ان تكون جملة (وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه الا امم امثالكم ما فرّطنا في الكتاب من شيء) جملة معترضة في بيان الرد على طلبهم للاية وان الله قادر على ان ينزل اية ولكنهم لا يعلمون.
فيكون سياق الايات بحذف الجملة المعترضة كالتالي (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل ان الله قادر على ان ينزل اية ولكن اكثرهم لا يعلمون ثم الى ربهم يحشرون والذين كذبوا باياتنا صم وبكم في الظلمات..) ومفاد الاعتراض المرتبط بقوله ان الله قادر على ان ينزل اية أن آياته تعالى منتشرة في الكون حتى الدواب والطيور يتحركون بنظام الهي.
وقد أطال العلامة رحمه الله الكلام في امكان حشر الحيوانات ومحاسبتهم باعتبار أن للحيوان عقائد وآراءا فردية واجتماعية وقد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان في كثير من أنواعه كالنمل والنحل والأرضة على عجائب من آثار المدنية والاجتماع لا تكاد توجد نظائرها إلا في الأمم ذوي الحضارة والمدنية من الانسان وأن اعمال الحيوان التي تبتني على هذه الآراء والعقائد لا تخلو عن الاستحسان والاستقباح وعن معنى العدل أو الظلم وهو الذي يؤيده ما نشاهده من بعض الاختلاف في أفراد الحيوان في أخلاقها وكذا يؤيده جزئيات أخرى من حب وبغض وعطوفة ورحمة أو قسوة أو تعد وغير ذلك مما نجدها بين الافراد من كل نوع.
ويبدو من كلامه رحمه الله انه يريد بذلك الوصول الى ان مقتضى عدله تعالى لزوم حشر الحيوانات ومحاسبتها لا اثبات مجرد امكانها ولذلك استدل بما ورد في الايات من انه لولا الحشر واحقاق الحق واقامة العدل لزم بطلان الخلق وكونه عبثا وأن ملاك حشر الانسان وعقابه وثوابه هو انطباق العدل والظلم والافساد في الارض والفجور على افعاله وهذه العناوين تنطبق على افعال الحيوان واستشهد بقوله تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).[17]
وحاصل ما ذكره الاستدلال بهذا النوع من الايات على امرين يفيدان في المقام احدهما أن مناط الحشر والجزاء موجود في الحيوان وهو العدل والظلم والثاني انه لولا تعميم الحشر للحيوان يلزم كون خلقه باطلا كما يلزم ذلك من عدم حشر الانسان.
ونلاحظ على ما ذكره قدس سره ان الاول غير صحيح قطعا فان الطفل ايضا ينطبق على افعاله العدل والظلم والاستحسان والاستقباح ولا شك انه لا يجازى على افعاله وانما يؤدب في الدنيا.
واما لزوم بطلان الخلقة فهو واضح البطلان لان الايات تصرح بان العبثية تلزم من خلق الانسان لو لم يتحقق الحشر كما قال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[18] وقال ايضا (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).[19]
والسر في ذلك ان الحيوان خلق من اجل الانسان بل كل ما في الارض خلق من اجله كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا..)[20] وقال ايضا (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).[21] فلا يلزم من عدم حشرهم كون خلقهم عبثا.
وايد العلامة موقفه بما دل من الايات والروايات على اعادة السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجن والحجارة والأصنام وسائر الشركاء المعبودين من دون الله والذهب والفضة حيث يحمى عليهما في نار جهنم فتكوى بها جباه مانعي الزكاة وجنوبهم.
ومن الواضح ان اعادة ما يستدعيه الحكم على الانسان من ظروف العمل الدنيوي لا علاقة له بحشر الحيوان للمحاسبة فلا مقايسة بينهما مع ان اعادة السماوات والارض لم ترد في الايات وانما ورد انها تتبدل قال تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ..)[22] والشمس تكور والقمر يخسف والنجوم تنكدر واما الجن فهم مكلفون واما الحجارة والاصنام فانما يؤتى بها لنفي كل عذر للمشركين والاتيان بالذهب والفضة لكيّ جباه الكانزين قد يكون كناية عن نوع العذاب مع ان الاتيان بها لا يؤيد حشر الحيوان.
واستشهد ايضا بقوله تعالى (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)[23] قال رحمه الله: (فإن ظاهره أن ظلم الناس لو استوجب المؤاخذة الإلهية كان ذلك لأنه ظلم والظلم شائع بين كل ما يسمى دابة ــ الانسان وسائر الحيوانات ــ فكان ذلك مستعقبا لان يهلك الله تعالى كل دابّة على ظهرها هذا وإن ذكر بعضهم أن المراد بالدابة في الآية خصوص الانسان).
وممن ذكر ذلك هو بنفسه قدس سره قال في تفسير الاية (و لا يبعد أن يدعى أن السياق يدل على كون المراد بالدابة الإنسان فقط من جهة كونه يدبّ ويتحرك والمعنى ولو أخذ الله الناس بظلمهم مستمرا على المؤاخذة ما ترك على الأرض من إنسان يدب ويتحرك).
مع انا ذكرنا في تفسير نظيرتها وهي قوله تعالى (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى..)[24] أن المراد بالدابّة كل ما يتحرك على الارض فيشمل الحيوان، وأن حملها على الانسان غير صحيح اذ لا يبقى موجب لاختيار هذا التعبير وقلنا ان السبب في التعميم هو ان العذاب النازل لا يبقي اثرا للحياة، وليس عذابا على خصوص الظلمة كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ).[25]
ثم قال رحمه الله:
(على أنه تعالى ذكر من بعض الحيوان من لطائف الفهم ودقائق النباهة ما ليس بكل البعيد من مستوى الإنسان المتوسط الحال في الفقه والتعقل كالذي حكى عن نملة سليمان بقوله «حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ»[26] وما حكاه من قول هدهد له عليه السلام في قصة غيبته عنه «فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ»[27] إلى آخر الآيات فإن الباحث النبيه إذا تدبر هذه الآيات بما يظهر منها من آثار الفهم والشعور لها ثم قدر زنته لم يشك في أن تحقق هذا المقدار من الفهم والشعور يتوقف على معارف جمّة وإدراكات متنوعة كثيرة من بسائط المعاني ومركباتها. وربما أيد ذلك ما حصله أصحاب معرفة الحيوان بعميق مطالعاتهم وتربياتهم لأنواع الحيوان المختلفة من عجائب الأحوال التي لا تكاد تظهر إلا من موجود ذي إرادة لطيفة وفكر عميق وشعور حاد).
وقد تمسك عدة من المفسرين بمثل هذا الدليل وبهذه الآيات على ان الحيوان لا يقل فهما عن الانسان بما يكون مناطا للتكليف فلا يبعد ان يكون مكلفا ومسؤولا وذلك يستتبع حشره ومحاسبته يوم القيامة بل مجازاته ايضا.
اما الشعور الخاص في كل حيوان بامور لا يصل اليها الانسان حتى بعد تقدمه في العلم والتقنية فهو امر غريب لا شك فيه ولذلك يلجأ البشر الى استخدام الكلاب البوليسية للكشف عن المجرمين وعما يخفيه الناس من المحظورات كالاسلحة والمخدرات وغيرها.
ومن غريب امور الحيوانات الاحساس بالخطر القريب مما يثير فيها الخوف والفرار كما يلاحظ فرارها قبيل الزلازل والفيضانات بل حتى هجوم العدو وقطاع الطرق وقديما كان العرب يقولون (شرّ أهرّ ذا ناب) لما يسمعونه من نباح خاص للكلب في مواقع الخطر. وكذلك معرفتها لاصحابها وان حاولوا التستر ومعرفتها لبيوتها وان بعدت عنها سواء في الحيوان الاليف او الوحشي وسواء الدواب والطيور.
وقد حكي عن المحقق الطوسي انه راى في بعض اسفاره ان الكلب كان يشعر بنزول المطر ليلا مع عدم وجود اي علامة له في الجو فلا ينام خارج البيت.
ولكن كل ذلك لا يدل على ان هذا الشعور مناط للتكليف وموجب للمؤاخذة على فعله فهو مع كل ذلك لا يتمكن من التحكم في الامور ولا يتطور ولا يتغير ولا ينقل معلوماته الى الجيل المتاخر بل كل فرد من نوع الحيوان يتصرف حسب غريزته.
وتعرض العلامة رحمه الله في اخر كلامه الى اعتراض مجمله (أن الحيوان ليس مختارا لما يشاهد من حالها أنها لا تملك نفسها من الإقدام على الفعل إذا صادف ما فيه نفعها المطلوب).
ثم أجاب عن الاعتراض باسهاب وملخصه (أن الحيوان مختار في الجملة وإن كان اختياره أضعف من الانسان وذلك لما نشاهده في كثير من الحيوانات من آثار التردد بل الكف عن الفعل بزجر أو إخافة أو تربية وهذا يدل على أن في نفوسها صلاحية الحكم بلزوم الفعل والترك وهو الملاك في أصل الاختيار وإن كان التروي ضعيفا فيها جدا غير بالغ حد ما نجده في الإنسان المتوسط فيجوز أن يجعل الله المتوسط من مراتب الاختيار الموجودة فيها ملاكا لتكاليف مناسبة لها خاصة بها وبذلك يصح الإنعام عليها عند الموافقة ومؤاخذتها والانتقام منها عند المخالفة).
وما ذكره وجيه ولكنه يدل على امكان الحشر ولا يقتضيه لزوما بحيث يقال انه دليل على لزوم حشر الحيوان كالانسان.
والحاصل أن حشر بعض الحيوانات او كلها امر معقول في حد ذاته وممكن والله تعالى على كل شيء قدير وكذلك محاسبتها ومجازاتها ولكن لا دليل على شيء من ذلك ولا موجب لحمل الآيات على هذا المعنى والله العالم.
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ...
قيل: ان السجر بمعنى الملء ومنه قوله تعالى (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ)[28] اي المملوء ماءا وعليه فيكون المراد هنا أن البحار تفيض ماءا وتمتلئ.
وقيل: ان السجر بمعنى الايقاد وعليه فالمعنى اذا اشتعلت البحار نارا وربما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ)[29] حيث ان التفجير يلازم الاشتعال. والفجر هو الشق وربما يقال انه اشارة الى تفجير ذرات الماء فتتحول البحار الى قنابل ذرية متفجرة لا يحصى عددها.
وقد مرّ في تفسير قوله تعالى (فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)[30] احتمال ان يكون المراد جعلهم وَقودا للنار فان السَّجور بمعنى الوَقود ففي العين (السَّجور: الحطب) فيمكن ان يكون المراد هنا ايضا تحول البحار وَقودا للنار. وباب التفعيل يدل على المبالغة.
ومهما كان فالظاهر انه من علائم يوم الانهدام او من موجباته او مستلزماته.
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ...
التزويج جعل الشيء قرينا لشيء آخر فيمكن أن يراد بالنفوس الارواح وحينئذ فالمراد بالتزويج الجمع بينها وبين الاجسام فيكون اشارة الى احياء الموتى.
ويمكن ان يراد بها ذوات البشر فالمراد بالتزويج التنويع اي تقسيم الناس الى أزواج كما قال تعالى (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً).[31]
او المراد ضمّ كل انسان الى فريقه اما بان يلحق كل احد باهل دينه ومذهبه او يلحق بفريقه حسب استحقاق الجنة والنار او حسب مقامات القرب. وأقرب المعاني هو التنويع. ومهما كان فهو من خصائص يوم القيامة.
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ...
الموءودة: البنت التي كانت تدفن حيّا في الجاهلية خشية لحوق العار من سبي الاعداء لها او الفقر لانها كانت عالة على اهلها لا تعمل وقد قال تعالى في هذا الشأن (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)[32] وقال ايضا (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ..)[33] وفي موضع آخر (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا).[34]
قال في الكشاف: (وأد يئد مقلوب من آد يئود إذا أثقل. قال اللّه تعالى "وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما" لأنه إثقال بالتراب كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وإن ولدت ابنا حبسته).
قيل: لم يكن الوأد معمولا به عند جميع القبائل وإن أول من وأد البنات من القبائل ربيعة و كانت كندة وبنو تميم يفعلون ذلك، ووأد قيس بن عاصم المنقري من بني تميم ثمان بنات له قبل إسلامه وقيل: لم يكن الوأد في قريش. وكان صعصعة بن ناجية جد الفرزدق من بني تميم يفتدي من يعلم أنه يريد وأد ابنته من قومه بناقتين عشراوين وجمل. وفيه قال الفرزدق:
وجدي الذي منع الوائدات فأحيا الوئيد فلم توأد
وهذا أحد أنحاء الظلم على المرأة في المجتمع الجاهلي وجاء الاسلام ليرفع من شأنها ويرفع عنها الظلم في كل جهة ولذلك نجد أن الله تعالى جعل أحد مميّزات يوم القيامة ــ وهو اليوم العظيم الذي يتحول فيه كل الكون ــ مساءلة الموءودة عن ذنبها الذي استحقت بها القتل ليحرك الضمير الانساني وفي نفس الوقت يهدد الانسان بعظم جرمه.
وهكذا ينتهز القرآن الفرصة للتأثير على النفوس والتوصل الى تربية المجتمع فيعتبر هذا الامر الذي لا يهتم به المجتمع العربي آنذاك من أعظم الجرائم وكأنه أعظمها حيث يبدأ الحساب به ويعتبر ديباجة المحاسبات يوم القيامة.
والسؤال موجّه الى الموءودة نفسها (بأيّ ذنب قتلت؟!) كأنّ المجرم لا يستحق الخطاب فهو إمّا أب او ام والمتوقع منهما حضانة الطفلة والتضحية في سبيل إسعادها فكيف تحوّل الحاضن الى قاتل؟! ولا شك في أن الطفل بريء وليس له ذنب فالسؤال ليس على حقيقته بل هو استنكار اي لا ذنب للموءودة.
وهناك بحث في تفاسير العامة حول دلالة الآية على أن الطفل لا ذنب له وكأنّ هذا الامر بحاجة الى دليل بل هناك منهم من أنكر الدلالة وتمسك بروايات مكذوبة في كتبهم تدل على أن أطفال الكفار يدخلون النار ويبدو أن أصحاب هذا القول يحملون في طيّات نفوسهم نفس المبادئ الجاهلية القديمة.
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ...
من مميزات يوم القيامة نشر صحف الاعمال. والنشر هو البسط وفي معجم المقاييس فتح الشيء وتشعبه ويقابله طيّ الصحيفة. والصحف جمع صحيفة على غير قياس. والقياس صحائف وهي كل ما يكتب عليه.
وهذا تعبير كنائي يقصد به أن الاعمال في ذلك اليوم واضحة يراها ويشاهدها الجميع فكأنّ صحيفة الاعمال مفتوحة للجميع ولذلك ورد في الدعاء (لا تفضحني على رؤوس الاشهاد).
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ...
الكَشْط سلخ جلد الحيوان المذبوح والمراد به هنا الازالة وانما عبّر بالكشط لان السماء في مرآنا تشبه جلدا على الكون وعليه فالمراد بالسماء هذا الغلاف الجوي المحيط بنا او كل هذا الكون المادي المشتمل على النجوم والكواكب والمراد بكشطها ازالتها كما قال تعالى (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ..)[35] فان المراد بالسماء هنا هو هذا الكون المادي المحيط بنا بقرينة قوله بعده من دون عطف (كما بدأنا أول خلق نعيده) مما يدل على أن هذا الطيّ مقدمة لاعادة خلق الكون على نظام جديد. وعلى هذا الاحتمال فالآية من علائم يوم الفناء.
ويحتمل أن يكون المراد بالسماء عالم الملائكة والمراد بالكشط ايضا ازالتها فيكون من علائم يوم القيامة كما قال تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا)[36] وقد مرّ بعض الكلام حوله في تفسير قوله تعالى (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ)[37] ويبدو أن العلامة الطباطبائي قدس سره اختار هذا المعنى.
ولكنه بعيد والاحتمال الاول أظهر بقرينة أنّ السماء بهذا المعنى لا تزول ولا تكشط بل تتشقق بالغمام كما في الآية السابقة وتنشقّ فتكون واهية كما في سورة الحاقة وتكون وردة كالدهان كما في سورة الرحمن وكالمهل كما في سورة المعارج وتفتح فتكون ابوابا كما في سورة النبأ فهذه التعابير تدل على أن السماء باقية ولكنها لا تمنع من ارتباط الانسان بالملك الذي عبر عنه في الآية السابقة بتنزيل الملائكة وهذا الامر يختلف عن ازالة السماء والله العالم.
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ...
الجحيم ــ كما في كلام اكثر اللغويين ــ النار شديدة التأجّج. وحكي عن بعضهم انه النار بعضها فوق بعض. والتسعير: الايقاد والتهييج لترتفع شعلة النار. وهذه وما يليها من أواخر مقدمات القيامة ولذلك أخّر ذكرهما ليتعقبهما الجزاء.
والإزلاف: التقديم ليكون الشيء قريبا. والزلفى: القربى. وهذا غاية الاكرام من الله تعالى لعباده المتقين فالجنة تقدّم لهم وتقرّب لا العكس وان ورد التعبير بسوق المتقين الى الجنة ايضا. ولعل هناك فرقا بين اصحابها فتقرّب الجنة الى المخلَصين من عباده ويساق الآخرون اليها. بل يتوقف دخولهم على اذن الاولين كما في سورة الاعراف وغيرها.
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ...
وهذا هو الجزاء والجواب عن كل هذه الشروط والظروف فاذا تحقق كل ذلك علم الانسان ما أحضره لنفسه يوم الجزاء.
قيل ان المراد بالاحضار انه وجده حاضرا كما قال تعالى (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا..)[38] وهذا التأويل من جهة ان الاحضار ليس من فعل الانسان.
ولكن لا حاجة الى هذا التأويل لان الانسان هو السبب الاول في الاحضار اذ لولا عمله لم يكن شيء ليحضر فالمراد بما أحضرت ما عملت كما قال تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ).[39]
والمراد بالعلم الحاصل ذلك اليوم هو العلم بالتفاصيل فان الانسان في الدنيا ايضا يعلم اعماله ولكنه لا يعرف حقيقة الاعمال ومدى تأثيرها في المجتمع او في الكون ولا يعلم حدود قبحها وحسنها. كل ذلك يتبين في ذلك اليوم حيث ينكشف الغطاء.
انما الكلام في التنكير في قوله (نفس) مع أن من الواضح أن الامر لا يختص بنفس خاص بل هو حكم شامل للجميع ليس فيه اي استثناء فلماذا لم يقل (كل نفس) كما في الآية المذكورة آنفا من سورة آل عمران؟
المقصود واضح والقرينة القطعية تدل على انه ليس هناك استثناء انما الكلام في السر في اختيار هذا التعبير ففي الميزان ان المراد به الجنس وهو غير صحيح فانه نكرة وليس جنسا. واحسن ما قيل في الباب ما ذكره الزمخشري حيث قال:
(هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه. ومنه قوله عز وجل: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ومعناه معنى كم.. وأبلغ منه. وقول القائل: قد أترك القِرن مصفرّا أنامله.. وتقول لبعض قوّاد العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: ربّ فارس عندي أولا تعدم عندي فارسا وعنده المقانب وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه ولكنه أراد إظهار براءته من التزيّد وأنه ممن يقلّل كثير ما عنده فضلا أن يتزيّد فجاء بلفظ التقليل ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين).
ومع ذلك فما ذكره غير تامّ ايضا للفرق بين الآية وما ذكره من الامثلة فان الواقع هنا هو الشمول التام بحيث لا يستثنى منه احد فليس حكما عاما يمكن تخصيصه بينما المراد في الامثلة التكثير وليس العموم فضلا عن الشمول التامّ الذي لا يخصّص ابدا.
ويمكن ان يكون السر في هذا التعبير ان الآية توجّه الخطاب الى كل انسان بشخصه وحينئذ تصح الكناية عنه بالاتيان بالنكرة كما هو متعارف حيث يقال للشخص رجل يفعل كذا ويقصد به المخاطب وهو يعرف عن نفسه انه يفعل.
كما ان النكرة يؤتى بها كناية عن المتكلم بالذات فيقول رجل يفعل كذا او كما يقول الخاطب للمراة (رجل يطلبك) او (رب رجل يطلبك) ويقصد به نفسه وهذا انما يصح بالطبع مع وجود القرينة.
والحاصل ان الآية اذا فرضت خطابا لكل انسان فهي تفيد بالتنكير والكناية الشمول التام الذي لا يمكن تخصيصه وهو المقصود وهذا أبلغ من التعبير بكل نفس لإمكان التخصيص هناك.
[1] الزمر: 68
[2] المزمل: 13
[3] الواقعة: 4- 6
[4] ابراهيم: 48
[5] طه: 105- 108
[6] الكهف: 48
[7] الطور: 7- 12
[8] المزمل: 12- 14
[9] هود: 43
[10] الانعام: 38
[11] صحيح مسلم ج 8 ص 19 باب تحريم الظلم
[12] الدر المنثور ج3 ص 132
[13] مجمع البيان ج4 ص 50
[14] من لا يحضره الفقيه ج2 ص216
[15] ثواب الاعمال ص 50
[16] من لا يحضره الفقيه ج2 ص292
[17] ص: 27 - 28
[18] المؤمنون: 115
[19] الجاثية: 21 -22
[20] البقرة: 29
[21] الجاثية: 13
[22] ابراهيم: 48
[23] النحل: 61
[24] فاطر: 45
[25] الانفال: 25
[26] النمل: 18
[27] النمل: 22 - 24
[28] الطور: 6
[29] الانفطار: 3
[30] غافر: 72
[31] الواقعة: 7
[32] النحل: 58- 59
[33] الانعام : 151
[34] الاسراء: 31
[35] الانبياء: 104
[36] الفرقان: 25
[37] الحاقة: 16
[38] ال عمران: 30
[39] الانفطار: 5