فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ...
هذا هو القسم الثاني من السورة المباركة ويختصّ بالتأكيد على أنّ القرآن كلام منزّل من الله تعالى بواسطة جبرئيل عليه السلام وأنه لا يتدخل فيه الشياطين وكذلك على رسالة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
والفاء للاستيناف وقد مرّ الكلام في معنى نفي القسم عند تفسير قوله تعالى (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ).[1] والخُنّس جمع خانس. والخَنْس الاستخفاء والتستر. والجوار بحذف الياء اصله جواري جمع جارية. والجري: المرّ السريع. والكُنّس جمع كانس. والكَنْس ــ كما في العين ــ كَسْح القمامة عن وجه الارض.
واختلف المفسرون في تأويل المراد بها ولكنهم غالبا فسروها بالكواكب السيارة ففي الميزان (انها السيارات الخمس المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد فإن لها في حركاتها على ما تشاهد استقامة ورجعة وإقامة فهي تسير وتجري حركة متشابهة زمانا وهي الاستقامة وتنقبض وتتأخر وتخنس زمانا وهي الرجعة وتقف عن الحركة استقامة ورجعة زمانا كأنها الوحش تكنس في كناسها وهي الإقامة. وقيل: المراد بها مطلق الكواكب وخنوسها استتارها في النهار تحت ضوء الشمس وجريها سيرها المشهود في الليل وكنوسها غروبها في مغربها وتواريها. وقيل: المراد بها بقر الوحش أو الظبي ولا يبعد أن يكون ذكر بقر الوحش أو الظبي من باب المثال والمراد مطلق الوحوش).
ثم قال (وكيف كان فأقرب الأقوال أولها والثاني بعيد والثالث أبعد).
ويقصد بهذه الحركات ما يتراءى لنا فان هذه الكواكب تختلف سيرها في المنظر عن سائر النجوم لانها ضمن المنظومة الشمسية فتدور حول الشمس ولم يذكروا غير هذه الخمس من الكواكب السيارة لانها لم تكتشف بعد ولا تشاهد بالعين المجردة.
ويلاحظ ان الكنس في اللغة كما قلنا بمعنى كسح القمامة ولكنهم لم يجدوا له معنى مناسبا هنا فاولوها بالتشبيه بدخول الظباء او الوحوش عامة في كناسها اي مخبأها وقالوا ان المراد به اختفاؤها نهارا.
وما ذكره العلامة في الميزان لم اجده في غيره ولا يظهر له وجه.
ومهما كان فمن الواضح ان هذه التفاسير لم تتمكن من معرفة هذه الاجرام السماوية وكيفية انطباق هذه الصفات عليها ولكنهم اجمعوا على انها أجرام سماوية الا بعض القدماء ففسروها بالظباء او الوحوش عامة وهو لا يناسب التعقيب بالليل والصبح. وكان الاولى ان يظهروا جميعا عجزهم ويوكلوا علمه الى الله تعالى.
وظهر أخيرا تفسير جديد له يبدو أنه هو الصحيح وأنّ هذا من معاجز هذا الكتاب العظيم فقد قيل انه لا يبعد أن يراد بها الثقوب السوداء التي اخبر بها علميا اينشتاين ثم اكتشفت اخيرا بملاحظة بعض ما يدل عليها والا فهي ابعد من ان تصل اليها المناظير.
ننقل هنا بعض ما قيل في ذلك:
(تمثل الثقوب السوداء Black Holes مرحلة الشيخوخة في حياة نجوم عملاقة أكبر كتلة من الشمس بأكثر من خمس مرات, وتتميز الثقوب السوداء بكثافة كبيرة وجاذبية بالغة الشدة بحيث لا يفلت من أسرها شيء حتى الضوء نفسه البالغ السرعة (حوالي 300 ألف كم\ثانية), ومن هنا كانت تسميتها التي تعكس وجود مناطق كالثقوب في صفحة السماء اختفى فيها كل شيء فبدت فجوات, وهذه النجوم العملاقة المختفية أو المتوارية تكنس في طريقها كل شيء يقاربها حتى النجوم ولذا سميت بالمكانس العملاقة Giant vacuum- Cleaners وقد دلت عليها الحسابات النظرية التي قام بها كارل شفارز تشايلد child Karl schwars عام 1916 وروبرت أوبنهاير oppenheimer Robert عام 1934 ومنذ عام 1971 تزايد احتمال وجودها تأكيدا, ويعتقد العلماء بأن مركز مجرتنا (درب التبانة) على سبيل المثال عبارة عن ثقب أسود).
وورد في بعض التقارير ما مجمله:
(الثقب الأسود جرم في الفضاء عبارة عن كتلة كبيرة في حجم صغير وله قوّة جذب هائلة إلى درجة لا يمكن لأي جسم يمر بمسافة قريبة منه أن يفلت من جاذبيته مهما بلغت سرعته ويقوّس الفضاء إلى حد يمتص الضوء المار بجانبه بفعل الجاذبية، وهو يبدو لمن يراقبه من الخارج كأنه منطقة من العدم فيبدو بذلك أسود. وأمكن معرفة وجوده بمراقبة بعض الإشعاعات التي تنطلق من المواد حين تتحطم جزيئاتها نتيجة اقترابها من مجال جاذبية الثقب الأسود وسقوطها في هاويته.
والثقوب السوداء لا دليل عليها سوى حسابات مبنية على النسبية لذلك كان هناك من لم يصدق بها. واخيرا رصد العلماء ما يدل على وجودها بفعل الجاذبية وعلى الرغم من عدم تمكننا من رؤية أو تصوير الثقوب السوداء، فهناك سبل لمعرفة مكانها. وقد استطاع العلماء في السنوات القليلة الماضية اكتشاف حقيقة تواجد أحد تلك الثقوب السوداء في مركز المجرة).
وعليه فتنطبق الاوصاف المذكورة في الآية على هذه الاجرام من دون تأويل فهي خنّس بمعنى أنها مختفية لا ترى اذ ليست هي سوداء كما يتوهم وهي تجري وتسير بسرعة فائقة وهي تكنس الفضاء وتجذب اليها كل الاجسام.
ولا ندّعي أن الآية تقصد ذلك قطعا ولا نفسر القرآن بما يصل اليه العلم فكثيرا ما تتغير المعلومات البشرية وربما وصل العلم الى نفي وجود كائن كهذا أساسا خصوصا فيما لا نراه ولا نحس به وقد قلنا مرارا ان القران ليس كتاب علم وانما هو كتاب هداية ويدل الانسان الى ما لا يمكن ان يصل اليه بعلمه من غيب هذا الكون.
ولو كان الله تعالى بصدد بيان حقائق الكون عن طريق كتبه ورسله لتوصل البشر من اول يوم الى غاية ما يمكن ان يصل اليه العلم والله تعالى لا يريد ذلك وانما اوكل الوصول الى المعلومات والحقائق الكونية الى جهد الانسان وتعبه.
وانما نقول ان الاية تنطبق على ما توصل اليه العلم حتى الآن فلعله هو المراد.
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ...
عطف على الخُنّس فيدخل في المقسم به وقوله (اذا عسعس) ظرف للمقسم به وقيد له اي اقسم بالليل حين عسعسته.
اجمع المفسرون على ان (عسعس) بمعنى الاقبال اوالادبار او هما معا لانه من الاضداد وبعضهم رجح الادبار هنا لمناسبته مع الصبح اذا تنفس بان يكون قسما بآخر الليل واول النهار. وقيل بالعكس ليكون القسم في كل منهما بأوله. ويروى التفسير بهما عن قدماء المفسرين واللغويين.
ولكن الظاهر أنه تكرار للعسس كنظائره من دمدم وزلزل وكبكب وغيرها فكأنه يقول عسّ وعسّ. والعسس بمعنى الدنو من الشيء وطلبه في خفّة وخفية ومنه ما كان يعمله عسس السلطان في قديم الزمان للقبض على اللصوص والحرامية في ظلام الليل ولذلك فسره في العين بنفض الليل من اهل الريبة.
واللطيف في التعبير هنا انه تعالى شبّه دخول الليل والظلام تدريجا بالعسس كأنه هو بنفسه عسس يدبّ في الظلام تدريجا مع انه هو بنفسه الظلام. وتكرار العسّ يدل على هذا التدرج. وعليه فالمراد به هنا اول الليل حيث يدبّ الظلام شيئا فشيئا. وهذا من لطائف تعبير القرآن الكريم.
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ...
عطف ايضا على الخنس ليشمله القسم. وهذا ايضا من إبداعات القرآن حيث شبّه طلوع الصبح تدريجا بالتنفس وكأنه موجود حي ينبض بالنشاط ويقترب شيئا فشيئا. والتنفس خروج النسيم.
وقال في الكشاف معناه أنه (إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز) وهو تأويل بعيد يفقد التعبير لطفه وما كان المتوقع ان يصدر من مثله.
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ...
هذا هو المقسم عليه والضمير في (انه) يعود الى القرآن والمراد التأكيد على أنه من الله تعالى ارسله الى رسوله الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلّم بواسطة سيد الملائكة جبرئيل عليه السلام.
والمراد بالرسول الكريم هنا جبرئيل عليه السلام ولا شكّ في أن القرآن قول الله تعالى كما صرح به في موارد كثيرة وليس من انشاء جبرئيل عليه السلام وانما عبّر عنه بأنه قول الرسول لان المراد مقابلته بالشيطان الذي ينسب المشركون هذه الأقوال اليه فالمراد من اضافة القول اليه نفي اضافته الى ما يتوهمه المشركون ولذلك عبّر عنه بالرسول الذي وظيفته إبلاغ الرسالة وليست الرسالة من صنعه.
فهذه قرينة واضحة على أن المراد بالرسول هنا جبرئيل عليه السلام وأخطأ خطأ فاحشا من فسر الرسول هنا برسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلّم. كما أن نفس هذه القرينة اقتضت أن نقول في قوله تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)[2] أن المراد به هو الرسول الحبيب صلى اللّه عليه وآله وسلّم لمقابلته بالشاعر والكاهن.
ولعل مناسبة هذا المعنى لما اقسم به في الايات السابقة أن الذي أتى به ملك عظيم قوي مطاع مهيمن باذنه تعالى على الكون بما فيه من الكواكب والمجرات البعيدة في أعماق السماء الى أقرب شيء اليكم يدبّ نحوكم بخفة في كل يوم وهو الليل ويدنو منكم شيئا فشيئا في اول كل نهار وهو الصبح.
وفي ذلك إشارة رمزية الى أنه باذنه تعالى محيط بكل هذه الاكوان وما فيها فلا يمكن لاي موجود مناوئ أن يعارضه في مهمته ويفسد عليه أمره يقصد بذلك دفع توهم المشركين أن الشياطين ربما يتدخلون في الوحي من السماء فيتوهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم أنه قد اوحي اليه من الله تعالى.
والاشارة الى هذا الامر متكررة في مواضع من القرآن الكريم كقوله تعالى (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)[3] ومنها هذه الآيات حيث يؤكد اولا أن القرآن نزل بواسطة الروح الامين ثم ينفي كونه من شيطان رجيم.
ولكن المفسرين غالبا اهملوا بيان المناسبة كالمعتاد وبعضهم اعتبر الوجه فيها الدلالة على عظمة الخلق وشمول قدرته تعالى وبعضهم اعتبر وجه المناسبة التأكيد على جمال الطبيعة وسحر تأثيرها لينتقل الانسان الى هذا القرآن وبيانه المؤثر.
ووصف جبرئيل عليه السلام هنا بستة اوصاف:
الاول انه رسول فلا يقول من عنده شيئا بل لا يفعل شيئا لانه من الملائكة وهم لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون.
والثاني أنه كريم. والكريم ــ على ما في تهذيب اللغة ــ (اسم جامع لكل ما يحمد) فيقال حجر كريم اي قيّم ثمين ورجل كريم اي شريف في قومه وقال تعالى (وقل لهما قولا كريما) اي سهلا لينا. فالمعنى فيه يختلف باختلاف الموارد. والاكرام ان يوصل الى الشخص نفع من دون غضاضة واستهانة. وملك كريم اي له شأن عظيم عند الله تعالى.
والثالث أنه ذو قوة. والقوة: الشدة والقدرة. وقد وصف الملائكة الموكلين بالنار بأنهم شداد في قوله تعالى (عليها ملائكة غلاظ شداد) والمراد انهم أكفاء للقيام بالدور المطلوب منهم على وجه الكمال، وأقوياء على ذلك لا يوجد فيهم نقص ولا ضعف أبدا.
وهذا مما يقتضيه خلقهم فان الله تعالى خلقهم لانجاز امور ولا يمكن أن يخلق الا ما يقوى على ما يريده منه بتمامه وكماله وكل ما خلقه الله تعالى لانجاز مهمة هو كذلك كالشمس والقمر وكل أجزاء الطبيعة والكون. وهذا بخلاف خلق الانسان الذي خلق ليبتلى فمنحه الله الاختيار وهو يفعل ما يريد وربما يختار ما لا يقدر عليه.
والرابع أنه مكين عند الله والمكين فعيل من المكانة اي المنزلة فالمراد ان له منزلة عظيمة عندالله تعالى وكفى ذلك له شرفا وعلوا.
وعبر عنه تعالى بذي العرش للاشارة الى أن له مكانة في ادارة الكون لان العرش بمعنى الحاكمية فلما لوحظ جهة حاكميته تعالى أفاد نوع مكانته ومنزلته لدى الله.
و(مكن) مأخوذ من الكون على ما في العين ولكنه بكثرة الاستعمال اعتبر الميم فيه اصليا فصرف وجعل منه المكين والتمكن والتمكين. ومثله تمسكن من السكون.
واغرب منهما ما صرف من التيمم فيقال يممه اذا مسح بيده وجهه ويديه للتيمم المصطلح مع ان التيمم من أمّ بمعنى قصد. واُخذ هذا العنوان من قوله تعالى (فتيمموا) اي اقصدوا ثم أصبح بكثرة الاستعمال معنى مستقلا.
ومثله الحج وهو بمعنى القصد ايضا قال تعالى (ولله على الناس حج البيت..) ثم اصبح معنى مستقلا وصرف منه فيقال الإحجاج لمن يتبرع لغيره بالحج مثلا.
وهناك من جعل قوله تعالى (عند ذي العرش) ظرفا للامرين اي كونه ذي قوة ومكينا. ولكنه بعيد.
والخامس أنه مطاع هناك اي في عالم الملكوت وعند ذي العرش وادارة الكون والحاكمية على الخلق فقوله (ثَمَّ) إشارة الى المكان البعيد وتعود الاشارة الى قوله (عند ذي العرش) وهو ظرف لكونه مطاعا.
وما أعظم هذا الوصف فهو مطاع في الملكوت وفي جهاز حاكمية الكون وظاهر التعبير أنه مطاع بقول مطلق ومعنى ذلك أن كل الملائكة تحت أمره فهو السيد المطاع في الكون بأجمعه.
والسادس أنه أمين اي مؤتمن. وهو مأخوذ من الامن في مقابل الخوف اي لا يُخشى من تخلفه عما طلب منه. والمطلوب دائما في إنجاز اي مهمة امران: القوة والامانة. وقد جمع الله تعالى في هذه الآيات توصيفه عليه السلام بهما.
وأمانته ايضا مقتضى طبيعته كما هو الحال في كل الملائكة فلا يمكن ان يخلق الله تعالى شيئا لانجاز مهمة كونية مع احتمال تخلفه عمدا بل لعلهم لا يستطيعون التخلف. ومن هنا فان العصمة فيهم قد تختلف عن عصمة الانبياء والائمة عليهم السلام التي لا تنافي الاختيار.
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ...
جملة مستأنفة او معطوفة على قوله تعالى (انه لقول..) فتكون ضمن المقسم عليه. والصاحب بمعنى الملازم وكل شيء لازم شيئا فقد استصحبه كما في تهذيب اللغة.
والجَنَن بمعنى الستر ومنه الجِنّ لكونه مستورا عن اعيننا والمجنون من ستر عقله. ويمكن أن يكون مأخوذا من الجنّ بمعنى من مسّه الشيطان والاجنة حيث كانوا قديما يتوهمون ان كل من اصيب بالخبال فانما هو من تأثير الجن. ولذلك يقال له بالفارسية (ديوانه) وهي كلمة مشتقة من (ديو) بمعنى الشيطان والغول حسب الاوهام القديمة.
والمراد بالصاحب الرسول الكريم صلى اللّه عليه وآله وسلّم عبّر عنه به ليكون برهانا ودليلا على نفي الجنون فانهم كانوا مصاحبين له اربعين عاما قبل الرسالة كما قال تعالى (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ).[4]
وكانوا يعرفونه صلى الله عليه وآله وسلم بالحكمة ورجاحة العقل ويرجعون اليه لحل مشاكلهم فليس غريبا عنهم ليكون رميهم له بالجنون عن عدم معرفة وانما هو بسبب أن ما أتى به من الدين الجديد لا يعجبهم حيث انه يمنعهم من كثير من الشهوات والاهواء كما نسمع في زماننا رمي المؤمنين المخلصين بالجنون لانهم يشتغلون بالعبادة والصلاة عن طلب الدنيا والتكالب على حطامها ويقنعون باليسير من متاعها.
وقد انتهز الزمخشري كعادته هذه الآيات ليستدل بها على راي المعتزلة بافضلية الملائكة على الانبياء عليهم السلام بل على اشرفهم خاتم الرسل صلى اللّه عليه وآله وسلّم نظرا الى انه تعالى امتدح جبرئيل عليه السلام بهذه الاوصاف البليغة واكتفى في شان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بنفي الجنون عنه.
ونحن لا نجد وجها لهذه المباحث التي تطرح بين المذاهب فلا معنى لمقارنة الملائكة مع البشر ليصح البحث عن الافضلية، فان الفضل بمعنى الزيادة وما في البشر لا يوجد في الملائكة وكذا العكس فلا معنى للقياس هنا.
ولو فرض له وجه فلا سبيل الى اثباته وكل ما يقال في هذا الباب باطل ومن ذلك ما ذكره هنا فان نفي الجنون عنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم ليس في مقام المقارنة بينه وبين جبرئيل عليه السلام بل في مقام الرد على المشركين حيث يتهمونه بالجنون واما توصيف جبرئيل بما ذكر فكما ذكرنا للتاكيد على انه لا يمكن ان يُغلب على امره من قبل الشياطين كما توهموا.
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ...
اي ولقد رأى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم جبرئيل عليه السلام بالافق المبين.
وهذه الجملة ايضا ربما تدخل ضمن المقسم عليه بقرينة اللام في قوله (ولقد..) وهي لام القسم وهي جزء من الاستدلال على نزاهة القرآن الكريم وسلامة طريق وصوله الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ثم الى الخلائق اجمعين وذلك لان من الوسائط التي يجب ان تكون سليمة هو تلقي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم الوحي من الملك فبيّن في هذه الآية الكريمة أنه تلقاه منه وهو يراه في افق واضح لا غبار عليه ولا غشاء يعتريه.
والافق نهاية الشيء ومنه افق السماء وافق الارض وهما شيء واحد اي اخر ما يراه الانسان من النواحي والمراد هنا انه رآه بوضوح.
والرؤية هنا رؤية بالروح وهي اقوى من رؤية العين فان العين قد تخطئ في ما ترى ولكن الروح يدرك الشيء بعينه ويلمسه بتمام وجوده ولا نجد لهذه الرؤية نظيرا في حياتنا الدنيا الا إدراك الانسان لنفسه فهو لو أخطأ في اي شيء لا يخطئ في إدراك نفسه بمعنى انه يرى نفسه ويشعر به علما حضوريا بتمام وجوده فليس هنا صورة مأخوذة من الشيء ليخطئ في التطبيق.
والانسان لا يمكنه مع تقيده بهذا الجسم ان يدرك الاشياء بروحه من دون واسطة الا اذا تمكن من التخلص من الجسم وهو حي وهذا ما يحاوله بعض البشر وربما يصح ما يدعيه بعضهم كالمرتاضين ولكن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كسائر الرسل والائمة عليهم السلام يتخلصون من أجسامهم بفضل من الله تعالى فيدركون ما لا يدركه البشر ويرون ما لا يراه وما ورد في هذه الآية من هذا القبيل كما قال تعالى (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى).[5]
وقد مر بعض الكلام حول هذه الرؤية في تفسير سورة النجم وذكرنا هناك أنه لا دليل على كون المراد بالافق المبين هو نفس الافق الاعلى كما في سورة النجم قال تعالى (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى)[6] وقوينا احتمال أن يكون المراد بالضمير في قوله (وهو بالافق) الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لا جبرئيل كما قيل وأنه هو ذومرة اي قوة وهو الذي استوى حال كونه في الافق الاعلى وهو اعلى افق في الكون باجمعه اي في عالم الطبيعة وما وراءها وهذا هو المقام الذي بلغه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ولم يبلغه غيره من الرسل على ما يظهر من الروايات.
ولا ينافي ذلك ان قوله (شديد القوى) وصف لجبرئيل عليه السلام بل القرينة في الآيات تدل على أن الآيتين الاخيرتين منفصلتان عن التي قبلهما ويمكن ان يكون التقدير في قوله (ذو مرة) (هو ذو مرة) والدليل على ذلك أنه لا يصح أن يوصف جبرئيل عليه السلام اولا بانه شديد القوى ثم يقال بانه ذو مرة بالتنكير فان المرّة القوة.
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ...
المراد بالغيب الوحي لانه غائب عن إدراك البشر لولا وصوله الى الرسل سلام الله عليهم عن طريق الملك.
والضنين فعيل من (ضنّ) اي بخل. قالوا إنّ الضمير يعود الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأنه مقتضى السياق وأنّ المشركين لم يتّهموا جبرئيل عليه السلام بالبخل.
ولكن ما ذكر لا يمنع من احتمال الرجوع اليه فهو مذكور في الآية السابقة ومن حيث المعنى ايضا له وجه لأن الآيات بصدد تنزيه القرآن من الكذب والخطأ ولذلك يسدّ كل ابواب الاحتمال ومنها ما يمكن ان يتوهم من عدم إبلاغ الملك كل ما اُمر بإبلاغه فهذه الآية تردّه بأنّه ملك وليس بشرا تستهويه الاهواء فلا يمكن أن يضنّ بالغيب الذي حمله.
والحاصل أن الآية تحتمل الامرين فلا الرسول الملك يبخل فيترك بعض ما اُمر بابلاغه ولا الرسول البشر صلى اللّه عليه وآله وسلّم يبخل بما وصله من الوحي ليتوهم أن ما يقوله ليس كل ما اُبلغ به ليتطرق الشك الى ان القرآن ليس هو كل ما اوحي اليه من الله تعالى.
وهذا بالطبع يؤثر حتى في تحديد معاني الآيات المتلوّة لاحتمال وجود قرائن في غيرها مما لم يُبلّغ.
وقد قُرئت الكلمة بالظاء ايضا اي (بظنين) ومعناها المتهم اي ليس الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او جبرئيل عليه السلام بمتهم في تغيير الآيات او زيادة فيها او نقيصة. وبناءا على هذه القراءة فقوله (على الغيب) يكون بمعنى الباء لان البخل لا يتعدى بعلى.
ووقع الكلام هنا في وحدة الحرفين (الضاد والظاء) وتعددهما وهذا الاختلاف يؤثر في الفقه ايضا من جهة وجوب رعاية الفرق في قراءة القرآن في الصلاة.
والظاهر انهما حرفان والكلمات تختلف معانيها في اللغة بحسبه فالضنين بمعنى البخيل والظنين بمعنى المتهم كما في كتب اللغة. وهكذا غيرهما من الكلمات التي تحتوى على احد الحرفين.
وهو ايضا يناسب الرجوع الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والى جبرئيل عليه السلام فانه على كلا التقديرين ينفي الاتهام عن القرآن الكريم.
ورجح بعضهم احتمال القراءة بالظاء بدعوى ان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يكن متهما عند المشركين بالبخل بالغيب والاستئثار ببعض الوحي وانما اتّهم بالوضع فنفته عنه الآية.
ولكن يظهر بما ذكرناه أنه ايضا محتمل لان البخل ببعض الوحي يؤثر في معاني ما اُبلغ الى الناس فيمكن للمشركين ان يمنعوا من الاعتماد عليه لامتناعه عن تلاوة بعض الوحي.
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ...
وهذا بيت القصيد وهو المقصود بالذات فان المشركين كانوا يتوهمون او يوهمون أن الشياطين هي التي تلقي بهذه الكلمات على الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. والقرآن ينفي ذلك في عدة مواضع.
وفي اضافة القول الى الشيطان وتوصيفه بالرجيم تعليل لهذا النفي فالشيطان فيعال من الشطن وهو البعد سمي به ابليس لبعده عن الحق او عن رحمة الله تعالى.
والرجم في الاصل بمعنى الرمي بالحجارة ثم استعير للطرد بتحقير واهانة كما هو الحال في الشيطان حيث طرد من عالم الملائكة لامتناعه من امتثال امر الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام فالمراد أنه بدليل لعنه وطرده لا يسمح له بالاقتراب من الملائكة ليتوهم تمكنه من التأثير في الوحي.
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ...
الفاء للتفريع على كل ما مر من ذكر اوصاف القرآن الكريم اي بعد أن تبيّن أنّه نزل من عند الله تعالى وبواسطة ملك مقرب هو أقوى الملائكة وأن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم قد رآه بوضوح وهو ليس متأثرا من الجنّ ولا بخيلا بما سمع من الوحي ولم يتلقّ الوحي بالظن والوهم ولم يلقه اليه الشيطان فاين تذهبون؟!
والاستفهام لاستنكار ذهابهم الى جهة اخرى غير الجهة التي يدعو اليها القرآن اي هذا هو الطريق الصحيح والصراط المستقيم فلماذا تتركونه وتذهبون الى المسالك المضلة؟!
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ...
اي ليس هذا القرآن الا ذكرا وهذا الحصر باعتبار أنهم كانوا يصفونه بشتى الاوصاف البعيدة عنه فيقولون انه سحر وانه شعر وانه اساطير الاولين وانه كذب على الله تعالى وافتراء فهذه الآية تنفي كل ما يقال فيه وتحصر دوره في كونه ذكرا للعالمين.
والذكر استحضار الانسان لما نسيه ويطلق على القرآن لكونه سببا للاستحضار والمراد بما نسيه هو ما تدعوه اليه الفطرة من التوحيد وتقوى الله تعالى. وكل ما في القرآن يدخل في هذا السياق حتى ما هو من قصص الانبياء والامم السالفة.
والآية تدل على ان القرآن لا يختص بقوم او بعصر بل هو ذكر للعالمين في جميع الاعصار والاقطار. والعالمون هنا ليس جمعا للعالم لو صح كونه كذلك في مثل قوله تعالى (رب العالمين) لان المراد بالعالمين هنا البشر فهو اسم جمع لا مفرد له لان مفرده وهو العالم اوسع منه فهو بمعنى كل ما سوى الله تعالى.
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ...
بدل عن العالمين للتنبيه على أن المستفيد من هذا الذكر ليس كل احد بل من أراد أن يستقيم منكم والخطاب للبشرية جمعاء.
والاستقامة قد تكون بمعنى الثبات فيكون معنى مجموع الآيتين أن القرآن ذكر للجميع ولكن المستفيد منه من يثبت على الهداية وأما الذي يسلك طريق الضلال بعد الذكر فهو يتضرر بالقرآن لانه يتم عليه الحجة ولذلك قال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)[7] فالظالمون يتضررون به لا انهم لا ينتفعون فحسب.
وهذا الامر لا يختص بالكافر طبعا بل يشمل كثيرا من المسلمين حيث تركوا العمل بالقرآن ولم يستقيموا على الهداية التي جاء بها الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم إما في زمانه وإما بعد وفاته حيث لم يهتموا بوصاياه ولم يعملوا بها.
وقد تكون الاستقامة بمعنى سلوك الطريق المستقيم كما ورد في التفاسير وعليه فتخصيص الذكر بمن شاء الاستقامة واضح لأن الذي لا يسلك هذا الطريق لا يتذكر به اصلا ولا يؤثر فيه حتى لحظة.
وهذا يختص بالكافر والمنافق فانه يعاند الحق من اول ما سمعه بل ربما لا يسمع ولا يرى كما قال تعالى (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ..)[8] ولكن الاحتمال الاول اولى.
والآية على كل حال تدل على اختيار الانسان وأنه باستطاعته أن يشاء الاستقامة او الانحراف عن جادة الصواب فهو ليس كالحيوان يتحرك وفقا للغريزة من دون محاسبة بل يلاحظ الانسان ما هو الاصلح له بعد تأثره من مختلف العوامل والدوافع التي تؤثر في اختيار الفعل او الترك فهو مختار في نهاية المطاف بأن يفعل او يترك.
وهذا الامر محسوس للانسان لا يمكن انكاره فكل ما يقال في اثبات أن الانسان مجبور في اعماله مخالف لما نشعر به بالوجدان فلا يمكننا الاذعان بالجبر وكل ما يقال ليس الا شبهة في مقابل البديهة.
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ... لا بدّ من تنبيه الانسان بعد الاذعان باختياره أنه ليس كما يتوهم حرا طليقا على وجه الاطلاق بل الامر كما ورد في روايات اهل البيت عليهم السلام أمر بين الامرين لا جبر ولا تفويض.
والتفويض هو الاختيار المطلق الخارج عن السيطرة وهذا غير ممكن لأن الاختيار المطلق ينافي عموم قدرته تعالى وحاكميته وليس هناك شيء في الكون خارج عن سيطرة الربوبية المطلقة ويستحيل ذلك.
ولكن الكلام أن مشيئة الله تعالى اذا تعلقت بالفعل فانه يكون خارجا عن اختيار الانسان فكيف يمكن الجمع بين الاختيار والارادة الحرة من جهة وبين السلطة المطلقة الالهية من جهة اخرى؟
الصحيح أن الله تعالى لا يشاء فعل العبد من دون ان يشاءه العبد بحيث يشاء الله المعلول من دون مشيئة العلة والسبب فيكون العبد مجبورا مسيّرا بل يشاء الفعل عن طريق مشيئة العبد ويشاء مشيئة العبد ايضا.
وليس معنى ذلك أن إرادته تتحقق من دون اختيار بل هو مختار في أن يريد او لا يريد ولكن اختياره بيد الله تعالى فهو الذي يمدّه بالاختيار والارادة ويمدّه بالتحكم فيها كما يمدّه بالقدرة والطاقة فاذا لم يشأ الله تعالى أن يكون الانسان مختارا وسلب منه الارادة فانه لا يتمكن من التحكم في إرادته.
وهذا ليس تفويضا بأن يكون إختياره مستمرا الى أن يشاء الله سلبه كما ربما يتوهم بل استمراره منوط بمشيئته تعالى كأي حادث آخر. فالانسان حر ولكن حريته تحت السيطرة.
وهناك موارد يمنع الله تعالى من تحقق إرادة الانسان ومعناه أنه تعالى يتحكم في إرادته وهذا قد يكون بحسب الظاهر بصورة طبيعية لا يشعر الانسان فيه بتدخل القوة القاهرة بل يجد من نفسه أنه غير راغب في الامر او يقوى في نفسه احد عوامل الترك.
وهذا ما نلاحظه في موارد من انفسنا وقد قال تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)[9] وقال امير المؤمنين عليه السلام (عَرَفْتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ وَحَلِّ الْعُقُودِ وَنَقْضِ الْهِمَمِ).[10]
وفي حديث (قام رجل الى امير المؤمنين عليه السلام فقال يا امير المؤمنين بماذا عرفت ربك قال بفسخ العزائم ومنع الهمة لما ان هممت بأمر فحال بيني وبين همتي وعزمت فخالف القضاء عزمي علمت ان المدبر غيري..).[11]
وقد يكون بمنع تحقق الفعل بالرغم من ارادة الانسان ومحاولته وهذا ايضا نلاحظه بصورة عجيبة في بعض الموارد حيث نجد اننا نحاول ان نفعل شيئا ولا نوفق له ثم يتبين في النهاية انه ليس من صالحنا وقد مرت الاشارة اليه في كلام امير المؤمنين عليه السلام.
وقد يكون بمنع من الله تعالى بصورة غير طبيعية كما منع من اراد قتل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهو وارد في عدة روايات.
ومثله ما يمنع فيه الله تعالى تحقق الفعل خارجا وان فعل الانسان فعله كما منع النار من الاحراق وامرها ان تكون بردا وسلاما على ابراهيم عليه السلام.
والظاهر أن اختيار الانسان هو مناط خلافته عن الله تعالى حيث قال (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)[12] ولذلك فهمت الملائكة من ذلك انه سيفسد فيها ويسفك الدماء لانه يكون خارجا عن السيطرة وفي معنى الخلافة احتمالات اخرى.
وربما يتوهم الجبر باعتبار كون الانسان مندفعا تحت تأثير الدوافع والعوامل التي تدعوه الى الفعل او الترك ويقال ان الكون كله يسير بقانون حتمي لا مجال فيه للاختيار. وهذا النوع من الجبر يقول به بعض الملحدين.
ولكن الصحيح ان كل شيء في الكون يسير بقانون حتمي الا الانسان فان المؤثّرات التي تؤثر في تحقق الارادة لديه ليفعل فعلا او يتركه، كلها تؤثر في مقدمات الارادة كالتصور والتصديق بكونه مفيدا او مضرا فنجد مثلا ان الانسان الذي تربّى في بلد اكثر الناس فيه كفار يشربون الخمر ليلا ونهارا ويتلذذون به ولا يدور حديث اصلا عن التنديد بشربه فلا يمكن أن يحدث في نفسه عامل يمنع من الشرب للتقوى من الله تعالى فهو لا يشعر بأقل تحرج في نفسه منه بخلاف من تربّى في بيئة مسلمة حتى لو كان بعضهم يشربه فان الشعور بالذنب هو السائد في هذه البيئة لكل من يشرب.
وهذا بالطبع يحقق عاملا سلبيا كلما أراد أن يشرب ولكنه يؤثر في مقدمات تحقق الارادة حيث يمنع من التصديق بكونه نافعا مطلقا ليس فيه اي خطر عليه في المستقبل.
وأما بعد تحقق العوامل المؤثرة في الارادة سلبا وايجابا وبعد عملية الترجيح للعامل الاقوى تتحقق ارادة الفعل او الترك باختيار الانسان من دون تأثير أي عامل خارجي فيها فان الارادة فعل نفسي معاصر للفعل الخارجي.
ولكن هذا الاختيار ليس مطلقا كما يتصور الانسان وان لم يشعر بأن هناك يدا قاهرة فوقه تمنحه هذا الاختيار وأنها اذا لم تمنحه لحظة لم يتمكن من الارادة.
وربما يخطر بالبال هنا شبهة وهي أن مقتضى ما ذكرناه أن تتحقق إرادة الفعل بنفسها من دون أن يريده الله تعالى لأنه حسب الفرض امر يتحقق باختيار الانسان وانما يتحكم الله تعالى في اختياره ولا يتحكم في تحقق الارادة وهو ايضا مستحيل.
والجواب انه ليس كذلك بل الله تعالى يتحكم في إرادته من جهتين:
اولاهما العوامل التي تؤثر في تحقق الارادة في نفسه بالنسبة للفعل او الترك فتأثير هذه العوامل بامر تكويني من الله تعالى وكل امر طبيعي فهو من فعله تعالى.
والثانية اذنه في تحقق الارادة من الانسان فلا يمكن أن تتحقق الارادة الا اذا أذن بها.
وقد ورد التعبير بالاذن في عدة موارد في القرآن الكريم وربما يراد ببعضها عدم المنع كما فسره بذلك العلامة الطباطبائي رحمه الله في قوله تعالى (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)[13] وان كان الظاهر أن المراد به هنا الامر او العلم كما قيل فان الملائكة لا يفعلون الا ما يؤمرون وان ورد في بعض الروايات انهم استجازوه تعالى فنزلوا ولكنه بعيد لقوله تعالى (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ..).[14]
وكذلك في موارد اخرى كقوله تعالى (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ..)[15] فان المراد به الامر لان انزال القرآن لا يتم الا بامره تعالى.
ولكن لا يبعد أن يكون المراد بالاذن في بعض الموارد عدم المنع كما ذكره العلامة كقوله تعالى (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ..)[16] فان مورده الإضرار بالسحر.
وكذلك قوله تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ..)[17] وغير ذلك.
ولعل من هذا القبيل التعبير الوارد في خطبة سيد الشهداء عليه السلام يوم عاشوراء فقد روى ابن قولويه عدة روايات منها ما رواه بسند صحيح عن الحسين بن ابي العلاء عن ابي عبدالله عليه السلام قال (ان الحسين عليه السلام صلى باصحابه يوم اصيبوا ثم قال اشهد انه قد اُذن في قتلكم يا قوم فاتقوا الله واصبروا..)[18]
ويلاحظ الفرق بينه وبين التعبير بنفس الفعل واسناده الى الله تعالى في بعض الروايات فقد روى الكليني بسند صحيح عن ابي عبدالله عليه السلام قال (ما من مؤمنين يجتمعان بنكاح حلال حتى ينادي مناد من السماء ان الله عز وجل قد زوّج فلانا فلانة وقال ولا يفترق زوجان حلالا حتى ينادي مناد من السماء ان الله قد اذن في فراق فلان وفلانة)[19] فيظهر منه أن الله تعالى يزوّج المؤمنين والمؤمنات في السماء ولكنه لا يفرّق بينهما وانما يأذن بالتفريق.
كما أن الامر ايضا ربما يكون بمعنى الاذن كقوله تعالى (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[20] بناءا على أحد المحتملات في الآية فيكون المراد بالامر انه تعالى لا يمنع من تأثير العوامل الطبيعية التي تجرّ المترفين الى الفسق والفساد فيترتب على ذلك العقاب.
وليس معنى عدم منعه تعالى ان الامر يتحقق بنفسه بل لا يتحقق شيء الا بارادته تعالى ارادة طبيعية تكوينية كما تقتضيه السنن الالهية في الكون بل المراد بعدم المنع انه لا يحول هنا بين المرء وقلبه فيؤثر العامل الداعي الى الفساد اثره حسب ارادته تعالى كما لا يمنع من تحقق مراده.
والحاصل أن الانسان اذا همّ بشيء فهناك دوافع تدفعه للعمل ولعل هناك موانع تمنعه وهو بطبيعة الحال يلاحظ الاضرار والفوائد ثم يعزم على الفعل او الترك فاذا اختار الفعل ولم يمنعه الله تعالى يفعله وربما يتحكم الله تعالى في تحقق ارادته كما مر ولكن عدم منعه تعالى قد يكون مضرا به الا انه هو الذي اختار.
وفي القرآن الكريم والروايات تعابير كثيرة عن هذه الحالة اي عدم منعه تعالى لما يضر الانسان به نفسه او غيره:
منها الخذلان فالله تعالى قد يخذل عبده ولا ينصره.
ومنها الايكال اي يوكله الى نفسه ويتركه يفعل ما يشاء ولذلك ورد في الدعاء (اللهم لا تكلني الى نفسي طرفة عين أبدا).
ومنها عدم التوفيق فان التوفيق أن تتوافق العوامل التي تواجه الانسان في حياته ليصل الى الطريق الصحيح لنيل السعادة واذا لم يوفقه الله تعالى فمعناه أن الظروف لا تساعده في الوصول اليه.
ومنها التعبير بانه لا حاجة لله فيه كما ورد في الحديث فقد روى الكليني قدس سره بسنده عن ابي عبدالله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم (لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب)[21] اي من لا تصيبه مصيبة في ماله ولا بدنه.
وانما اعتبر ذلك نصيبا لله تعالى لانه يبتلي الانسان بما يصيبه في بدنه وماله فتكون زكاة له والله تعالى ليس له حاجة في اي شيء فالمراد بنفي الحاجة أنه تعالى لا يعتني به ولا يشمله برحمته الخاصة.
ومنها الاضلال بناء على بعض التفاسير حيث يقال في توجيه إسناده الى الله أنه تعالى لا يهديه ويتركه بحاله فيضل الطريق وليس معناه أنه تعالى يسلك به سبيل الضلال. وغير ذلك.
ويقابل هذه التعابير ما يدل على عنايته تعالى ببعض عباده كقوله سبحانه خطابا لموسى عليه السلام (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[22] ونحو ذلك.
فالانسان هو المسؤول عما يفعله باختياره وان كان باذنه تعالى وهذا هو سبيله في هذه الحياة بل ان اصل نزوله الى هذه الحياة كان بهذا السبب فان الله تعالى وان خلقه ليكون خليفته في الارض كما أخبر به ملائكته الا أنه أسكنه جنته قبل ذلك وأعلمه أنه لا يجوع فيها ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى بشرط ان لا يأكل من الشجرة ثم تركه لحاله فأغواه الشيطان فأخرجه الله تعالى من جنته وابتلاه بهذه الحياة التعيسة كأنه تعالى لم يشأ أن يمنعه تلك السعادة الا بفعله.
وفي الحديث عن ابي عبد الله عليه السلام (أنه تعالى بعث ملكا الى آدم عليه السلام فقال له (أتدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه قال لا قال قال اني جاعل في الارض خليفة قلنا اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فهو خلقك ان تكون في الارض يستقيم ان تكون في السماء؟! فقال ابو عبد الله عليه السلام والله عزّى بها آدم ثلاثا).[23]
والغرض من التنبيه على هذه الحقيقة هنا هو تصحيح تصور الانسان فانه حيث سمع قوله تعالى (لمن شاء منكم ان يستقيم) ربما يتصور أن الامر كله بيده وتحت اختياره وأن إرادته خارجة عن السلطة الالهية فهذه الجملة ترفع هذا الوهم وتبين للانسان أنه ليس كما يتوهم مختارا بقول مطلق بل نفس اختياره تحت السلطة ومنحة مستمرة كالطاقة الكهربائية. والقلوب بيده تعالى يقلبها كيفما يشاء.
وتوصيفه تعالى بربوبية العالمين في ذيل الآية المباركة للتأكيد على استحالة كون المشيئة الانسانية مطلقة وخارجة عن السيطرة لان ذلك كما اشرنا اليه ينافي الربوبية المطلقة.
ومنه يتبين أن العالمين في هذه الآية يختلف معناه عن العالمين في قوله تعالى (ان هو الا ذكر للعالمين) حيث يراد به البشر هناك كما مر ولكن المراد هنا كل ما في الكون فان الربوبية عامة مطلقة.
ولذلك يقال بان العالمين هنا جمع العالم باعتبار تقسيم الكون الى عوالم حسب تعدد الانواع فيقال عالم الانسان وعالم الحيوان وعالم الجن وينقسم ايضا الى عالم الطبيعة وما وراء الطبيعة وغير ذلك من التقسيمات التي تعرض على العالم بالمعنى العام اي ما سوى الله تعالى.
نسأل الله تعالى التوفيق لاتمام هذا التفسير انه قريب مجيب وله الحمد اولا وآخرا والصلاة والسلام على حبيبه ورسوله سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
[1] الحاقة: 38 - 39
[2] الحاقة: 40- 42
[3] الشعراء: 210- 212
[4] يونس: 16
[5] النجم: 11- 12
[6] النجم: 5- 7
[7] الاسراء: 82
[8] فصلت: 5
[9] الانفال: 24
[10] نهج البلاغة: الحكمة 250
[11] روضة الواعظين: ص30
[12] البقرة: 30
[13] القدر: 4
[14] مريم: 64
[15] البقرة: 97
[16] البقرة: 102
[17] آل عمران: 166
[18] كامل الزيارات ص 152
[19] الكافي ج5 ص564
[20] الاسراء: 16
[21] الكافي ج2 ص 214 باب شدة ابتلاء المؤمن
[22] طه: 39
[23] تفسير العياشي ج1 ص32