السورة مدنية تتعرض لبعض أحكام الطلاق ومواعظ عامة.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ... ابتدأ الخطاب بتوجيهه الى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلّم ثم توجيهه الى جميع الامّة لأنه إمامهم، فالخطاب للجميع والحكم عام، وانما ابتدأ بتوجيه الخطاب له صلى اللّه عليه وآله وسلّم لأنه هو المأمور بإبلاغه للجميع ولم يرد مثل هذا الخطاب في غير هذا المورد من القرآن الكريم وكل ما ورد فيه الخطاب له صلى الله عليه وآله وسلّم كان الحكم خاصّا به الا هنا. ولعلّ ذلك يدلّ على الاهتمام بشأن هذا الحكم حيث لم يخاطب فيه المؤمنون.
وقوله (اذا طلّقتم..) اي اذا أردتم الطلاق فان الحكم مرتبط بكيفية إنشاء الطلاق فلا يمكن أن يكون مورده بعد تحققه. والطلاق بمعنى تسريح المرأة وتخلية سبيلها فان عقد النكاح يعتبر في العرف العربي حبالة من الرجل حيث يحتفظ بالمرأة في البيت فاذا طلقها فقد رفع عنها الحبالة والشراك.
واللام في قوله (لعدّتهنّ) بمعنى (عند) نظير قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ..)[1] وعدّة المرأة هي الزمان الذي لا يجوز لها الزواج فيه بزوج آخر بعد الطلاق او غيره من موجبات العدة كالوفاة. ومعنى إيقاع الطلاق وقت العدة اي في وقت تبدأ عدتها بعده فورا. والنتيجة أنه لا يجوز الطلاق في حال الحيض لأنها لا يمكنها الاعتداد من ذلك الوقت بل بعد طهرها لأنّ العدّة ثلاثة أطهار لقوله تعالى (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ).[2]
كما يستفاد من الآية عدم جواز إيقاع الطلاق في طهر واقعها فيه زوجها إذ لا يمكن أن يكون ذلك الطهر مبدأ الاعتداد لاحتمال تكوّن النطفة فلا بدّ من الصبر الى طهر آخر. وهكذا تدلّ الجملة المذكورة على شرطين من شروط جواز الطلاق. وبذلك وردت الروايات في كتب الفريقين.
وهذان الشرطان معتبران عندنا في صحة الطلاق ايضا فلا يصح الطلاق في حال الحيض ولا في طهر واقعها فيه زوجها. وذهب فقهاء العامة الى أن الطلاق في حال الحيض وكذا في طهر المواقعة حرام ولكنه صحيح فيكون المنع تكليفيا فحسب الا أن جمعا منهم قالوا بوجوب إجبار الرجل على الرجوع اذا طلّقها في الحيض او النفاس فيما اذا أمكن الرجوع اما اذا كان طلاقا ثالثا فلا يمكن اجباره عليه كما هو واضح وقالوا بعدم إجباره اذا كان الطلاق في طهر المواقعة وإن أثم بذلك. وتمام البحث في الفقه.
الا أنّـه لا ينبغي أن نهمل هنا موضوعا وهو أنّ الأساس في ما ذهب اليه العامة هو أنّ الامر وان دل على الوجوب الا أنّه لا يدل على الشرطيّـة فالاشتراط بحاجة الى دليل آخر بل ربما قال بعضهم بأنّ النهي عن معاملة يدلّ على صحتها فاذا ورد النهي عن بيع الغرر كان معناه أنّـه بيع صحيح ولكنه حرام. فلا يبعد أنّ مثل هذا القائل يقول هنا بأنّ نفس هذا الأمر يدلّ على صحة الطلاق بدون هذا الشرط وان كان محرما.
وقد ردّ علماؤنا في الاصول هذه النظرية وقالوا: إنّ النهي يختلف معناه باختلاف متعلّقه فاذا نهى المولى عن شيء يميل اليه الانسان بدافع ذاتي كالاكل والشرب وسائر الافعال التي تتعلق بها إرادة الانسان بدوافع ذاتية فمعنى النهي هو الحرمة، واذا تعلّق بشيء يقصد بها أداء واجب كلّفه به الشارع كقوله (لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه) فمعنى النهي أنّ الصلاة فيه باطلة وأنّـه لا يوافق المأمور به، واذا تعلّق بشيء يقصد به ترتّب حكم شرعي آخر او ترتّب ملكيّة او زوجيّة او بينونة ونحو ذلك فمعنى النهي أنّ ما قصدته لا يترتّب على ذلك. وما هنا من هذا القبيل.
وهذا أمر عرفي واضح، فاذا صدر قانون عرفي يمنع من بيع خاصّ او في ظروف خاصّة فليس معناه أنّ إجراء هذا العقد يعتبر جريمة او يستوجب استحقاق غرامة مالية ونحو ذلك من العقوبات بل معناه أنّـه باطل لا يدعمه القانون ولا يدافع عن هذه الملكيّة والانتقال فلو فرض أنّ المشرّع أراد أن يرتّب عليه غرامة فلا بدّ من تشريع قانون آخر يصرّح بها والا فالقانون الأوّل بذاته لا يقتضي ترتّب غرامة. وعليه فالنهي عن الطلاق في حال الحيض او الطهر الذي حدثت فيه المواقعة ليس بمعنى أنه محرم يعاقَب فاعله عليه بل بمعنى بطلان الطلاق لا غير.
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ... الاحصاء هو العدّ بدقّة. فالظاهر أنّ المراد بهذه الجملة المنع من المسامحة في العدّة كما يتسامح العرف في كثير من الامور خصوصا اذا علم وجه الحكمة في الحكم حيث نسمع من كثير من الناس عدم الحاجة الى مراعاة العدّة في ما اذا تيقّنت المرأة عدم وجود حمل لديها وهو أمر ميسور في هذا العصر ولكن الصحيح انه لا يجوز التسامح في أمر العدة حتى مع العلم بذلك.
ولو كانت هذه الحكمة هي السبب الاساس لاكتفي بحيضة واحدة او حيضتين كما في عدّة المتعة على اختلاف الاقوال خصوصا بملاحظة ما يترتّب على رعاية العدّة من مصالح اخرى ومنها في خصوص الطلاق الرجعي حيث يمنح الزوج فرصة للرجوع اليها ولذلك منع الشارع من خروجها وإخراجها من البيت كما سيأتي في الآيات التالية بل أمر بمراعاة كلّ الحقوق الزوجيّـة طيلة أيّـام العدّة حتى تزيّنها لزوجها فإنّ الزوجية باقية مستمرّة الى آخر العدّة.
ولإحصاء العدّة أثر آخر مذكور في التفاسير وهو أنّ الزوج ربما كان يحتفظ بالمرأة بعد انتهاء العدة يمنعها من الزواج لعله يرجع اليها وفي ذلك ظلم على المرأة فأمر اللّه سبحانه أن يحصى العدة بدقّة ويخلّى سبيلها بانتهائها.
وَاتَّقُوا اللّه رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ... تعاقب الجملتين من دون واو يدلّ على أنّ الامر بالتقوى في هذا الموضع والتأكيد عليه ــ كما يلاحظ من السياق وتكرار الامر بالتقوى ــ يرتبط بالحكم بعدم إخراجهنّ من البيوت التي كنّ يسكنّها قبل الطلاق اي بيت الزوجية. ولعلّ السرّ في هذا التأكيد من جهة تهاون الرجال في هذا الامر وظلمهم للنساء فكانوا يطلّقون المرأة ويخرجونها من بيتها فتظلّ هائمة على وجهها. وفي ذلك مضافا الى الظلم القاسي من المفاسد ما لا يخفى.
ولعلّ إضافة وصف الربوبية للتأكيد على لزوم الحذر والتقوى في هذا الموضع حيث إنّ هناك دواع كثيرة من الغضب والحقد والبخل وغير ذلك مما يوجب التسامح. ووصف الربّ يوحي بأنّ تشريع هذا الحكم من أجل تربيتكم تربية صالحة وهو ربّ الجميع والحكم كما يصلح شأن المرأة يصلح شأن الرجل وشأن الاسرة والاولاد. ويلاحظ التعبير عن البيوت بإضافتها إليهنّ مع أنها في الغالب بيوت الرجال.
والغرض من وجوب الابقاء والبقاء التأكيد على بقاء الزوجية ما دامت في العدة والا لم يحل تواجدهما معا لو فرض انقطاعها بالطلاق والمرأة ربّة البيت ما دامت زوجة ويعدّ البيت من أوجب النفقات فلا يجوز إخراجها منه وتدل الآية على وجوب سائر النفقات ايضا.
ويترتّب على البقاء في البيت حكم مهمّ آخر في ما إذا تبيّن حملها أثناء العدّة فإنّها تستمرّ في البقاء الى أن تضع حملها لأن عدّة الحامل لا تنتهي الا بالوضع. وبذلك يحفظ الانساب وينسب الولد الى أبيه من دون ريب ولا تتّهم المرأة في حملها. وفي ذلك ايضا مجال أكبر لاحتمال التصالح والندم مما حدث من الانفصال اذ ربما يكون الحمل بنفسه من دواعي الرجوع.
ولكنّ بعض المفسّرين اعتبر جملة (واتقوا اللّه..) تأكيدا على لزوم إحصاء العدّة في مقابل من كان يطيل العدّة على المرأة بقصد الإضرار بها. وما ذكرناه هو الظاهر من اللفظ كما أنه هو الأنسب من جهة أنّ الغالب في موارد الطلاق هو الإخراج من البيت لا الإبقاء بل الغالب الاخراج او الخروج قبل الطلاق وربما لمدة طويلة.
وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ... عطف على (لا تخرجوهنّ) فكما يحرم على الرجال إخراجهنّ من بيوتهنّ يحرم عليهنّ الخروج من دون إذن الزوج لبقاء الزوجية كما مرّ وليترتّب على البقاء مصلحة جعل العدّة وهو امكان المصالحة والرجوع. وفي هذا الحكم تنبيه لكثير من النساء حيث يتركن بيت الزوجية بمجرّد الطّلاق طلبا للحريّة او للرجوع الى بيت الاسرة او لأهداف اخرى وهذا الامر يضيّع فرصة الرجوع والتصالح على الرجل. والقصد من الخروج المنهي عنه ترك بيت الزوجية لا الخروج الموقت.
والفاحشة من الفحش وهو كل ما تجاوز حدّه وتطلق غالبا على ما عظم قبحه من الاقوال والافعال. والمبيّنة بمعنى الواضحة اي وضوح كونها عملا فاحشا لدى عامّة الناس بحيث لا يتبع ذلك ذوقا خاصّا. وهذا واضح مع قراءة الكلمة بفتح الياء (مبيَّنة) ولكن لا يختلف المعنى حتى لو قرئت بكسرها كما هو المشهور (مبيِّنة) لأنّ التبيين يقصد به تبيين كون العمل فاحشا من باب المبالغة كأنّ العمل بنفسه يبيّن كونه فاحشا.
والمراد بها هنا ما يشمل البذاء وسلاطة اللسان وسوء الخلق مع الزوج ومع اهل البيت بحدّ لا يتحمّل، ولا يختصّ بالزنا كما قيل. وقد ورد ذلك في بعض الروايات. ففي الكافي عن الرضا عليه السلام (في قول الله عز وجل: "لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " قال: أذاها لأهل الرجل وسوء خلقها).[3]
والظاهر ان الاستثناء يرجع الى الاخراج فقط اذ لو كان راجعا الى الخروج كان المعنى (يحرم عليها الخروج الا ان تأتي بفاحشة) فيكون الاتيان بالفاحشة أصلح لها ورافعا لحرمة الخروج عنها وأما اذا رجع الى الاخراج فالمعنى أن الزوج لا يجوز له اخراجها الا اذا اتت بالفاحشة وأما جواز الخروج فيتبع فعلية الاخراج بمعنى أن الزوج اذا أخرجها جاز لها الخروج حتى لو لم تأت بفاحشة كما هو الحال قبل الطلاق واذا تحمّلها الزوج حتى مع اتيان الفاحشة فلا يجوز لها الخروج.
وهناك تفسير آخر للاستثناء المذكور يبتني على اختصاصه بالخروج كما هو الظاهر من تعقيبه به وهو أنّ المراد به التأكيد على عدم جواز الخروج وأنّه بذاته يعتبر فاحشة مبيّنة فالمعنى لا يجوز لها الخروج الا اذا أرادت أن ترتكب فاحشة مبيّنة بخروجها من البيت. ولكن هذا التفسير غير مقبول لأنّ اعتبار الخروج من البيت فاحشة مبيّنة بعيد جدّا.
وَتِلْكَ حُدُودُ اللّه وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ... اي ما مرّ من الاحكام حدود حدّها اللّه تعالى. وقد مرّ بعض الكلام حول حدود اللّه تعالى في تفسير سورة المجادلة الآية 4. وملخصه أن حدود الله ما منع من تجاوزها فان الحد هو المنع ولكنه لا يمنع تكوينا بل تشريعا فمن يتجاوزها يعذب يوم القيامة.
والظلم وضع الشيء في غير موضعه عدوانا. ومن الواضح أنّ هذا أمر نسبيّ وكل عمل يضرّ به الانسان نفسه يعتبر ظلما لها ويختلف باختلاف نوع الضرر فان كان من قبيل تعريضها لغضب اللّه تعالى فهو أخطر الاضرار، والظلم يكون من أشدّ أنواعه، وتعدّي حدود اللّه تعالى من هذا القبيل.
وقد أشرنا في تفسير سورة المجادلة الى أن السرّ في تشديد هذا الحكم ونظائره مما ورد في حقوق النساء لعلّه يكمن في أنّ موضع هذه الحقوق خبايا البيوت، وأكثرها لا يتجاوز مخدع الزوجية حيث لا شهود ولا شرطة ولا مراقبة. ولذلك يصعب كثيرا على من اُنيط بهم تحقيق العدالة، الوصول الى ما هو الحقّ في هذا المجال. ومن أصعب موارد القضاء تحقيق الحق وتحكيم العدل في موارد اختلاف الزوجين خصوصا في موارد حقوق الزوجية بالذات وما يتعلق بشؤون المخدع والفراش. ومن هنا فإنّ أفضل رادع ووازع من الاعتداء وتجاوز الحدود هو تمكين التقوى من القلوب وتحذير الطرفين خصوصا الطرف الاقوى من أنّ تجاوزها يثير سخط اللّه تعالى.
ومن هنا جاء الابهام في ما يترتّب على هذا التعدّي، والاكتفاء بأنه يعتبر ظلما للنفس وإضرارا بها فلا يعلم أنه إضرار في الدنيا ام في الآخرة. وقد قلنا غير مرة أن أكثر الناس يتأثرون ويتخوّفون من عذاب الدنيا حتى لو كان خفيفا أكثر ممّا يتخوّفون من عذاب الآخرة مع أنّه أعظم وأشدّ وأبقى.
لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللّه يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا... الخطاب لمن يتعدّى الحدود ويظلم نفسه ويخرج مطلقته من بيتها وكذلك المرأة اذا خرجت بنفسها، اي لا تدري ايها الرجل او المرأة ماذا سيحدث بعد هذا فلعل الله يحدث امرا جديدا ويشير بذلك الى بعض ما يمكن أن يترتّب على هذا التعدّي، فمن ذلك ما اذا أخرجها من البيت أو خرجت هي بنفسها فربما يقلّب اللّه تعالى القلوب ويميل أحدهما أو كلاهما الى التصالح ويجدان في ذلك مصلحة لهما او لأولادهما ولكنّ هذا التسرّع يفسد الأمر ولا يبقي مجالا للرجوع. فالمراد باحداثه تعالى أمرا جديدا تحويل الأحوال وتقليب القلوب وتغيير الحالة النفسية وازالة التوتر والغضب مما يكون عادة السبب في الانفصال والفراغ العاطفي ونحو ذلك.
روى الكليني قدس سره بسنده عن زرارة عن ابي عبدالله عليه السلام قال (المطلقة تكتحل وتختضب وتطيّب وتلبس ما شاءت من الثياب لان الله عزّ وجلّ يقول "لعل الله يحدث بعد ذلك امرا" لعلها ان تقع في نفسه فيراجعها).[4]
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ... المراد بالامساك إبقاء الزوجة في بيتها بالرجوع اليها، والمراد بالمفارقة تركها وعدم الرجوع اليها. والمعروف ما عرف الناس حسنه وهو يختلف باختلاف الموارد كما يختلف باختلاف المجتمعات والاعراف فالمراد به هنا بقرينة المقام ما يعرف المتشرعة حسنه بملاحظة ما ورد من الشرع فاذا أرجعها فالامساك بمعروف هو مراعاة الحقوق الشرعية بين الزوجين من النفقة والمبيت وحسن العشرة، بل الافضل مراعاة ما ندب اليه الشرع كالتسوية بين الازواج في كل شيء مع الامكان والتوسعة عليهن. واذا أراد مفارقتها فليخلّ سبيلها ويحسن اليها ويعتذر عمّا حدث، فهما بعد كل ذلك مؤمنان والمؤمنون اخوة ولا ينبغي أن يكون الانفصال موجبا للتباغض والعداء.
والأجل غاية الوقت المحدّد فمعنى بلوغ الاجل الوصول الى غاية العدة واخرها وليس المراد انتهاؤها اذ لا يجوز الامساك بعد انتهاء العدة وليس المراد ايضا تحديد جواز الامساك والرجوع ببلوغ الاجل اذ يجوز له الرجوع طول فترة العدة بل المراد تحديد التخيير بين الامرين ــ الامساك بمعروف والمفارقة بمعروف ــ بهذا الوقت اي عند بلوغها اخر الاجل فلا يجوز له أن يضرّ بها كما كان يفعله بعض الناس من إرجاء أمرها الى آخر يوم من العدة ثم إرجاعها وطلاقها ثانية بعد المواقعة وإرجاؤها ايضا الى آخر العدّة ثم طلاقها ثالثة لتطول عدّتها وتحرم من الزواج بغيره.
وهذا ايضا هو الامساك ضرارا الذي منع في قوله تعالى (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللّه هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّه عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).[5]
ويلاحظ في هذه الآية شدة اللحن والتحذير البليغ، وأنّ عدم الاهتمام بهذه الأحكام يعتبر استخفافا بآيات اللّه تعالى واتّخاذها هزوا ويعتبر كفرانا لنعمه. ويلاحظ أخيرا التحذير من علمه تعالى بما تنطوي عليه النفوس المريضة من سوء النية. وهذا يستبطن تهديدا بليغا.
روى الصدوق قدس سره بسنده عن الحلبي عن ابي عبدالله عليه السلام قال (سالته عن قول الله عزّ وجلّ ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا قال الرجل يطلق حتى اذا كادت ان يخلو اجلها راجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرات فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك)[6]
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ... العدل مصدر بمعنى الاستواء والاستقامة وعدم الميل والانحراف، وهو يختلف باختلاف موارد استعماله فالعدل في الحكم أن لا يجور الحاكم والقاضي، والعدل في الميزان ان لا يبخس حق أحد من المتعاملين، وهكذا. واما العدل والعدالة في الشرع فقد اختلف في تفسيره الفقهاء والظاهر انه الاستقامة العملية في طريق الشرع بأن يكون الانسان ملتزما بأحكامه في جميع شؤون الحياة. وذو العدل اي صاحبه ويقال له عادل وربما يطلق العدل على العادل مبالغة.
والإشهاد: طلب الحضور من أحد ليشهد واقعة ويتحمل الشهادة بدقة ليؤدّيها وقت الحاجة. وقوله تعالى (منكم) اي من الرجال المؤمنين مع أنّ غير المؤمن لا يمكن أن يكون عادلا الا أنّه ربما يتوهم كفاية كونه عادلا في دينه ومذهبه فلزم التقييد. وقيد الرجولة ايضا يستفاد من الضمير فإنّ الخطاب موجّه للرجال مضافا الى أنّه ظاهر التذكير في قوله (ذوي عدل) ومضافا الى الروايات الواردة في هذا الباب وفي أبواب الشهادات بوجه عام الا بعض الموارد الخاصة.
وظاهر الامر بالاشهاد هو الوجوب فالمستفاد من الجملة المذكورة وجوب إشهاد رجلين عادلين. انما الكلام في مورد هذا الاشهاد فالوارد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنّ المراد به الاشهاد في الطلاق وبه أفتى فقهاؤنا أجمع. والعامّة قالوا إنّ المراد الإشهاد في الرجوع والمفارقة بلحاظ أنّ الأمر به ورد بعد التخيير بين الإمساك والمفارقة، الا أنّه يستبعد جدّا أن يكون أصل الطلاق من دون إشهاد، والرجوع او المفارقة يتوقّفان على إشهاد او يجب فيهما الإشهاد تكليفا.
وفي توجيه ذلك قال بعضهم: (وفي حالتي الفراق أو الرجعة تطلب الشهادة على هذه وذاك شهادة اثنين من العدول قطعا للريبة فقد يعلم الناس بالطلاق ولا يعلمون بالرجعة فتثور شكوك وتقال أقاويل..) واختلفوا اختلافا شديدا في وجوب الاشهاد في الامرين او في خصوص المفارقة واختلفوا ايضا في وجوبه وندبه وفي أنه شرط في الصحة ام لا. ولعل الغالب يقولون بعدم كونه شرطا كما لم يشترطوا ما ورد في الآية السابقة من شرطي الطلاق في صحته وقد مرّ بعض الكلام حوله. وما ذكرناه هناك يأتي هنا ايضا فلو فرضنا أنّ الامر بالاشهاد متعلق بالرجوع والمفارقة لزم القول باشتراطهما به.
وهنا تبدو المفارقة والاستغراب فكيف يمكن أن يكون أصل الطلاق لا يشترط فيه شيء ويتمّ بمجرد تلفظ من الزوج وهما في حال شجار وعناد ويتوقف إبقاؤها في بيت الزوجية على إشهاد مع أنها تعتبر زوجته قبل انتهاء العدة ويجوز له ايّ استمتاع منها؟! وكذلك مفارقتها فانها مقتضى الطلاق واستمرار عدم الرجوع حيث إنّها تحرم عليه بذلك ولا بد من المفارقة ولا يجوز لها البقاء عنده بعدها فما هو الموجب للاشهاد خصوصا اذا لزم القول بالاشتراط؟!
ومهما كان فروايات أئمة أهل البيت عليهم السلام هي المرجع عندنا لدى الاختلاف في فهم معنى الكتاب. والروايات التي تدلّ على وجوب الاشهاد في الطلاق كثيرة جدّا. ونذكر هنا بعض ما يدلّ على أنّه هو المراد بالآية:
روى الكليني رحمه اللّه بسنده عن محمد بن مسلم قال: (قدم رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة فقال: إنّي طلقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل أن اُجامعها فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أشهدت رجلين ذوي عدل كما أمر اللّه عزوجل؟ فقال: لا فقال: اذهب فإنّ طلاقك ليس بشيء).[7]
وعن محمد بن الفضيل قال: (كنا في دهليز يحيى بن خالد بمكة وكان هناك أبوالحسن موسى عليه السلام وأبويوسف فقام إليه أبويوسف وتربّع بين يديه فقال: يا أبا الحسن جعلت فداك المُحرم يظلّل؟ قال: لا، قال: فيستظلّ بالجدار والمحمل ويدخل البيت والخباء؟ قال: نعم قال: فضحك أبويوسف شبه المستهزئ فقال له أبوالحسن عليه السلام: يا أبا يوسف إن الدين ليس بالقياس كقياسك وقياس أصحابك إنّ اللّه عزوجل أمر في كتابه بالطلاق وأكّد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلا عدلين وأمر في كتابه بالتزويج وأهمله بلا شهود فأتيتم بشاهدين فيما أبطل اللّه وأبطلتم شاهدين فيما أكّد اللّه عزوجل وأجزتم طلاق المجنون والسكران، حجّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فأحرم ولم يظلّل ودخل البيت والخباء واستظلّ بالمحمل والجدار وفعلنا كما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم فسكت). [8]
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: (إن عمر بن رباح زعم أنك قلت: لا طلاق إلا ببينة قال: فقال: ما أنا قلته بل اللّه تبارك وتعالى يقول..) [9]
هذا وينبغي أن نلاحظ ما رواه القوم ايضا ففي الدر المنثور في تفسير الآية: (أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء، قال: النكاح بالشهود والطلاق بالشهود والمراجعة بالشهود). ولا شكّ أن مراده بالطلاق ليس المفارقة بل أصل الطلاق.
وفيه ايضا (وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين رضي اللّه عنه أن رجلا سأل عمران ابن حصين عن رجل طلق ولم يشهد وراجع ولم يشهد؟ قال: بئسما صنع، طلق في بدعة، وارتجع في غير سنة فليشهد على طلاقه وعلى مراجعته وليستغفر اللّه).
وفي جامع البيان للطبري في تفسير الآية (حدثني عليّ قال: ثنا أَبو صالح قال: ثني معاوية عن عليّ عن ابن عباس قال: إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين كما قال اللّه (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) عند الطلاق وعند المراجعة..).
وفيه ايضا (حدثنا أحمد قال: ثنا أسباط عن السديّ، في قوله:(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال: على الطلاق والرجعة).
وفي مصنف ابن ابي شيبة (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) قَالَ: أُمِرُوا أَنْ يُشْهِدُوا عِنْدَ الطَّلاَقِ وَالرَّجْعَةِ.[10]
وقال البيهقي (قال الشافعي رحمه اللّه: قال اللّه جل وعز: فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم، فأمر اللّه جل ثناؤه في الطلاق والرجعة بالشهادة..) [11]
ومن هنا يتبين أن الآثار المحكية عن بعض الصحابة والتابعين ايضا تدلّ على لزوم الاشهاد في الطلاق ايضا وأنّه المراد بالآية. ولكنّ مفسريهم لم يذكروا ذلك حتى بصورة احتمال بل قال الآلوسي (وزعم الطبرسي أنّ الظاهر أنّه أمر بالإشهاد على الطلاق وأنّه مروي عن أئمة أهل البيت رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين وأنه للوجوب وشرط في صحة الطلاق).
وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ... خطاب للشهود. وإقامة الشيء جعله قائما ينتفع به. والشهادة انما يتحملها الشاهد حين وقوع الفعل ليؤدّيها وقت الحاجة ليترتب عليه الأثر المنشود فإقامة الشهادة لا تتم الا بأدائها بأحسن وجه بأن لا يخفي الشاهد شيئا مما رآه او سمعه مما له دخل في ترتّب الأثر ولا يزيد على ما رآه او سمعه شيئا وان علم به من جهة اخرى. وهنا لابدّ من التقوى والورع الشديد والدّقّة في الأداء ولذلك أمر تعالى بإقامة الشهادة لله اي طلبا لرضاه ممّا يدلّ على أنّ له تعالى عناية خاصّة بتحرّي غاية الدقّة في أدائها حفظا لحقوق الناس وصيانة لاستقامة القضاء بينهم.
ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ... الوعظ ــ كما قال الخليل رحمه اللّه ــ هو التذكير بالخير في ما يرقّ له القلب. ويمكن أن يضاف اليه أنّه تحذير عن الشر ايضا بطريقة مؤثرة من الترغيب والترهيب. والاشارة في قوله تعالى (ذلكم) الى كل ما مرّ من الاحكام. واختصاص الوعظ بمن يؤمن باللّه واليوم الآخر يشير الى أنّ مقتضى الايمان الاهتمام بهذه الأحكام، وفيه تهديد بأنّ الاستخفاف بها يوجب الخروج عن الايمان والمسؤولية أمام اللّه تعالى في اليوم الآخر.
والفرق بين من آمن ومن كان يؤمن أن الثاني يدل على استمرار الايمان فلا يكفي مجرد حدوثه، وفيه إشارة الى أنه حتى لو كان مؤمنا قبل الابتلاء بهذه الاحكام الا أنه اذا تهاون بها ولم يلتزم بها كما هو حقّه فانه قد خالف مقتضى ايمانه بل خرج منه. ولعل السرّ في الحكم بخروجه من الايمان أنّ الغالب في موارد عدم الاهتمام بهذه الاحكام من الرجال نشأته من الإستعلاء على المرأة، وهو في الواقع استعلاء على حكم الله تعالى وشريعته.
وَمَنْ يَتَّقِ اللّه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللّه بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللّه لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا... اربع جمل من غرر الآيات القرآنية كما يقوله العلامة الطباطبائي رحمه اللّه. وهي في نفس الوقت محل اختلاف من حيث التأويل مع أن معناها ظاهر. ومفاد هذه الجمل عامّ لا يخصّ هذا المورد وانما ينطبق عليه.
ففي الجملة الاولى حكم بأن كل من يتقي اللّه ويكون في مضيقة يجعل اللّه تعالى له مخرجا اي طريقا للخروج من هذه المضيقة ويرزقه من طريق لا يحتسب اي لا يظن ولا يتوقع ان يرزق منه والاحتساب يمكن ان يكون من الحسبان بمعنى الظن او من الحساب بمعنى العدّ اي لا يعدّ هذا الطريق من طرق الرزق واعتبرهما في معجم المقاييس من باب واحد.
والظاهر أنّ المراد بذلك ما اذا كان نفس التقوى سببا لضيقه. وهذا الامر يتّـفق كثيرا في شؤون الدنيا فتجد أنّ الانسان يجد طريقا لكسب المعاش وربما يكون مما يدرّ عليه خيرا كثيرا بل ربما يكون أنسب طريق له في الكسب بل ربما يكون على الظاهر هو الطريق الوحيد كما لو كان هو الموافق لتخصّصه العلمي وربما لا يجد عملا آخر يوافق تخصّصه. وفجأة يواجه حقيقة مُرّة وهي أنّ هذا العمل حرام شرعا كالعمل في المجال الربوي او تعليم الموسيقى. وهذا محل ابتلاء كثير من الشباب في هذا العصر.
وتطبيق الآية في مثل ذلك بأنّه اذا اتّقى ربّه وترك هذا العمل تجنّبا من الحرام وتورّعا من أكل المال بالباطل وفّقه اللّه تعالى لتحصيل طريق آخر للمعاش يدرّ عليه مالا حلالا وإن لم يكن بتلك التوسعة بل ربّما يوفّقه لأفضل منه حتى من الجهة المادية. وقد وجدنا لذلك أمثلة كثيرة في حياتنا.
وأمّا تطبيقها في مورد الآية وهو الطلاق والاحكام السابقة المتعلقة به فهناك موارد ربما تقتضي مصلحة أحد الزوجين ما ينافي التقوى، منها ما مرّت الاشارة اليه من مكايدة بعض الرجال في عدم الرجوع طول العدة والرجوع اذا قاربت النهاية ثم تطليقها وتكرار ذلك فربما تفعل المرأة ما يوجب خلاصها ولكنه غير جائز كاعلامها رؤية الدم كذبا لتنتهي عدتها. وربما يكون الرجل مضطرّا لإبقاء زوجته وهي تضغط عليه للطلاق وهو لا يمكنه إبقاؤها الا بتلك المكيدة التي لا يجيزها الشرع.
وهناك موارد يمكن أن لا يتورّع فيها في باب الشهادة سواء من قبل الشهود او من قبل احد الزوجين، وموارد تحاول المرأة فيها منع الرجل من الطلاق خوفا من الفقر فترتكب ما لا يجوز، وغير ذلك من الموارد والآية تشمل كلها. والغرض الاساس هو التنبيه على أهميّة هذه الاحكام في الشريعة.
والجملة الثانية (ومن يتوكل على اللّه فهو حسبه) تؤكّد مضمون الجملة السابقة فإنّ الأساس فيها هو التوكّل على اللّه تعالى ومن يتّقيه في ترك الطريق الذي يراه صالحا لمجرّد كونه مخالفا للشرع يرجو من ربّه أن يعوّضه ويغنيه. وهذه الجملة تؤكّد أنّ اللّه تعالى يكفي من وثق به وتوكّل عليه.
و(حسب) مصدر بمعنى الكفاية ويحمل على الذات مبالغة فمعنى الجملة (فهو كافيه). والتوكل عليه تعالى بمعنى ايكال الامر اليه ولا يراد به ان الانسان لا يعمل ما تقتضيه طبيعة الشيء المطلوب فاذا اراد الشفاء لا بد من مراجعة الطبيب والعمل بما ينصحه واذا اراد الرزق لا بد من طلبه بالوسائل المتاحة واذا اراد العلم لا بد من التعلم وهكذا.. وانما التوكل عليه تعالى فيما هو خارج عن ارادة الانسان من الاسباب والمؤثرات بل وفي تأثير المؤثرات ايضا ولولا توفيقه تعالى وعنايته لم يصل الانسان الى ما يبتغيه مهما كان حاذقا ومهما حاول واجتهد. وهناك روايات عديدة ترتبط بهذا الموضوع في كتب الفريقين.
منها ما رواه الكليني قدس سره بسنده عن علي بن عبدالعزيز قال (قال لي ابو عبدالله عليه السلام ما فعل عمر بن مسلم؟ قلت جعلت فداك اقبل على العبادة وترك التجارة فقال ويحه! أما علم أن تارك الطلب لا يستجاب له ان قوما من اصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لما نزلت "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" أغلقوا الابواب وأقبلوا على العبادة وقالوا قد كُفينا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه واله وسلم فارسل اليهم فقال ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا يا رسول الله تُكُفِّلَ لنا بارزاقنا فاقبلنا على العبادة فقال انه من فعل ذلك لم يستجب له عليكم بالطلب).[12]
والجملة الثالثة (إنّ اللّه بالغ أمره) تعليل لما تقدّم فإنّ اللّه اذا أراد شيئا بلغه وحقّقه لا يمنعه من ذلك مانع فهو القادر على ما يريد. والمراد بالامر في قوله (بامره) كل امر يريده.
ولكن قد يقال: ربما نجد في بعض الموارد من اتّـقى اللّه تعالى ولم يجد مخرجا من الضيق الذي وقع فيه. وكم من مؤمن ترك وظيفته تورّعا ولكنه لم يجد وظيفة تناسبه وضاقت به سبل الرزق؟! فكيف يمكن تفسير الآية بحيث يبقى الحكم على شموله؟
والجملة الأخيرة توضح المعنى بحيث لا يبقى مورد للسؤال فإنّ اللّه تعالى قد جعل لكل شيء قدرا وحدّا محدودا، فهو يهدي المرتاد الى الوسائل التي توصله الى هدفه المشروع ويوفّقه ويهيّء له المقدّمات ولكن حيث كان لكل شيء قدرا ــ والقدر مبلغ الشيء وحدّه ونهايته ــ فانّ بعض ما يطلبه الانسان ويرتاده قد يكون وراء الحدّ الذي يناسبه فقد لا يمكن الوصول اليه وقد لا يكون من صالح الانسان أن يبلغه وان طلبه وأصرّ عليه. فالآية الكريمة نظير ما ورد في استجابة الدعاء فإنّ عدم قضاء بعض الحاجات قد يكون أصلح للانسان وهو لا يعلم، وربما يكون ما طلبه غير ممكن او غير صالح لآخرته وان كان له منافع في الدنيا.
[1] الاسراء: 78
[2] البقرة: 228
[3] الكافي ج6 ص97 والرواية مرسلة ومثلها رواية اخرى بعدها
[4] الكافي ج6 ص92 باب عدة المطلقة
[5] البقرة: 231
[6] من لا يحضره الفقيه ج3 ص501 باب طلاق العدة
[7] الكافي: 6/60
[8] الكافي: 4/352
[9] تفسير العياشي: 1/330
[10] المصنف: 5/9
[11] معرفة السنن والآثار: 15/406
[12] الكافي ج5 ص84 باب الرزق من حيث لا يحتسب