وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ... (كأيّن) تكتب بالنون كما هنا وبالتنوين (كأيّ) ويقال انها كلمة مركّبة من كاف التشبيه وأيّ، وهي بمعنى (كم) ولذلك تأتي للتكثير والاستفهام وفيه خلاف. والقرية بمعنى المجتمع البشري من قرى بمعنى جمع اي كم من مجتمع كان كذا.. فلا حاجة الى تقدير (أهل) كما ذكره بعضهم. و(عتت) من العتوّ اي الترفّع والتأبّي والاستكبار وأما العتوّ في الشيخ كما قال تعالى (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)[1] فلعله من نفس المعنى باعتبار أنّ الشيخوخة داء تتأبى عن المعالجة.
ومعنى الآية أنّ هناك في ما تقدّم من الزمان مجتمعات كثيرة من البشر استكبروا وامتنعوا عن امتثال أمر ربّهم وأوامر رسله فعاقبهم الله تعالى وعذّبهم. وهذا ــ اي المعاقبة والجزاء ــ هو مورد التعجيب من الكثرة.
ولعلّ السرّ في التنبيه على هذا الأمر في هذا الموضع هو تحذير المجتمع الاسلامي في ذلك العصر وفي كل عصر من عدم الاهتمام بالأوامر المتعلقة بحقوق النساء وأحكامهنّ. وقد تكرّر التحذير كما تقدّم التنبيه على ذلك وتكرّر ايضا في سورة البقرة وهي متقدّمة على هذه السورة لأنّها من أوائل ما نزلت في المدينة. وقد بيّـنّـا أنّ السرّ في هذا التأكيد لعلّه عدم اهتمام الرجال بحقوق النساء والاستخفاف بها خصوصا في ذلك العصر القريب من الجاهلية. كما بيّـنّـا ايضا أنّ اهتمام القرآن بالتنبيه على ذلك لا يبعد أن يكون من جهة أنّ منشأه هو الكبر والترفّع الذكوري كما يشير اليه في هذه الآية المباركة بالتعبير عنه بالعتوّ.
ولعلّ الوجه في التعبير بالكثرة التنبيه على ملازمة العتوّ والاستكبار للغضب الالهي ونزول العذاب لئلا يتوهّم أنّ توافقهما في بعض الموارد من باب المصادفة. ويستفاد من هذه الآية ايضا أنّ إطاعة الرسل عليهم السلام في صفّ إطاعة الله تعالى من حيث الأهميّة، والترفّع على أوامرهم كالترفّع والطغيان على الله تعالى في استنزال العقاب لان اطاعتهم اطاعته ومعصيتهم معصيته عزّ وجلّ.
فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا... المحاسبة: العدّ. والمعنى أنّا أعددنا عليهم كلّ صغيرة وكبيرة فإمّا أن يراد بها نفس المحاسبة ليجزون بموجب أعمالهم اي أن الله تعالى لم يعف عن بعض ما يستوجب العقاب من أعمالهم وإمّا أن يراد بالمحاسبة العذاب كما يعبّر بها عنه من باب أنّها السبب القريب.
والظاهر أنّ المراد بها المحاسبة في الدنيا فإنّ ما ينزل على الانسان من نوازل الدهر انما هي نتيجة اعماله كما قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[2] وكما يحاسب الفرد يحاسب المجتمع ايضا وكما للفرد عمله وكتابه ونفسياته كذلك للمجتمع ايضا عمله وكتابه ونفسياته. وفي يوم القيامة ايضا هناك كتاب لكل فرد وكتاب للامة قال تعالى (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ..)[3] وقال ايضا (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا..).[4]
وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا... النكر ــ بضم الكاف وسكونه ــ اي المنكر ومعناه العذاب الفظيع الذي تنكره النفوس ولم يعهده المجتمع البشري وهو عذاب الاستئصال الذي لا يبقي من المجتمع أحدا ومن حضارتهم أثرا الا ما يكون عبرة للآخرين.
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا... الوبال: الثقل والشدة والوخامة. والضمير المؤنث يعود الى القرية والمراد بها اهلها او انها بمعنى اهلها كما مر. والمراد بأمرهم عتوّهم وطغيانهم على ربّهم وعلى رسله. ووباله نتائجه السيئة الوخيمة اي عذاب الاستئصال. والتعبير بالذوق بيان لشدّة تأثير العذاب عليهم فان التذوّق أقرب الاحاسيس الى الانسان حيث إنّ ما يتذوّقه يدخل جسمه ويكون جزءا منه.
وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا... الظاهر أنّ هذه الجملة إشارة الى عاقبة أمرهم في الآخرة بقرينة الآية التالية فالخسارة الواقعية ما يحصل هناك لمن يدخل النار حيث يفقد الانسان كل ما لديه من مقوّمات كيانه ويفقد الامل من امكان جبر الخسارة في ما بعد.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا... الإعداد بمعنى إيجاد أمر قبل موعد تنفيذ العمل المطلوب منه فالمعنى أنّ عذاب الآخرة مهيّأة لهم قبل حضورهم وهو ينتظرهم. والجملة تفسّر الجملة السابقة ولذلك اتت بعدها مباشرة بدون حرف العطف.
فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا... الفاء للتفريع. فالمعنى أن استذكار ما جرى على الامم السالفة من العذاب والاستئصال والخسران جراء طغيانهم على ربّهم وعلى رسله الذين بعثهم لقيادتهم الى برّ الأمان يستدعي التقوى من الله تعالى لتجنّب العذاب. واللبّ: العقل. ووصف المخاطبين بأنّهم اولو الألباب لحثّهم على النظر الى أنفسهم والى مستقبل امورهم بعقلانية وتدبّر. ثمّ وصفهم بالذين آمنوا ليكون حافزا على التقوى من الله تعالى الذي آمنوا به.
كلّ ذلك لحثّهم على الاهتمام بأحكامه تعالى وشرائعه وعدم الاستعلاء والترفّع عن تطبيقها وان لم تناسب أهواءهم وأفكارهم وعقائدهم ورواسبهم التي توارثوها من آبائهم وأسلافهم. ومن ذلك ترفّع الرجل عن مساواته مع المرأة أمام القانون والشرع. وهذا الترفّع والاستعلاء هو السبب في عدم اهتمام المجتمع بشؤون المرأة وعدم التورّع من ظلمها والاعتداء عليها ومن جانب آخر امتناع المجتمع من التدخّل في شؤون الاسرة بحجّة أنّ الرّجل وليّ اُسرته وليس لأحد أن يتدخّل في ما يخصّ اُسرة غيره.
قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا... تعقيب هذه الجملة للامر بالتقوى من دون فصل بالعطف ونحوه يدلّ على أنّ هذا هو مورد التـقوى اي اتّـقوا الله في الاهتمام بالعمل بما أنزل عليكم من أحكام وشرائع.
واختلفوا في المراد بالذكر فقيل: إن المراد به الرسول وهو جبرئيل عليه السلام وذلك لأن الرسول بدل أو عطف بيان عن الذكر ولأنّه هو المناسب للتعبير بالانزال.
وهو بعيد لتوصيف الرسول في الآية بأنه يتلو عليكم آيات الله. وتوجيه ذلك بأنه يتلو على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهو يتلو على الناس فاسناد التلاوة اليه باعتبار أنه السبب توجيه بعيد لا يصحّح التعبير عرفا، مضافا الى أن نزول جبرئيل عليه السلام وتلاوته للكتاب ليس مما يشعر به المخاطبون فلا ينبغي أن يذكر هنا والمقام مقام امتنان على الامة وتحفيز لهم على التقوى.
وقيل: إنّ المراد بالذكر والرسول هو الرسول الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلّم لتصحّ البدلية وأنّ التعبير عنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بالذكر من جهة أنه هو المذكِّر فاُطلق عليه مبالغة. واختاره العلامة الطباطبائي رحمه الله تعالى وهو ايضا بعيد ولا يناسب التعبير بالإنزال.
والأقرب أنّ المراد بالذكر الكتاب العزيز كما عبّر عنه به في آيات عديدة وهو الأنسب بالتعبير عنه بالإنزال والمراد بالرسول، الرسول الأكرم صلى اللّه عليه وآله وسلّم فإمّا أن يكون بتقدير فعل آخر اي (وأرسل رسولا) او يكون بدلا من باب المبالغة كأنّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم هو الذي يجسّد الذكر بتلاوته وبسيرته. والتعبير عن الكتاب بالذكر من باب المبالغة ايضا او فيه نوع من التجوز لأنّ الذكر مصدر بمعنى الحفظ والاستحضار، والكلام سبب له.
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ... جملة وصفية تبيّن شأن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ودوره في المجتمع البشري وفي عاقبة أمر الانسان فهو يتلو على الناس آيات الله حال كونها مبيّنات اي تبيّن حقائق الامور مما هي بعيدة عن أفهام الناس ودخيلة في سعادتهم وفي خروجهم من ظلمات الجاهلية الى نور الدين وهداية الله تعالى.
واللام في (ليخرج) تعليل للتلاوة او لانزال الذكر وارسال الرسول. فعلى الأول يكون المخرج هو الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وعلى الثاني يكون هو الله تعالى وهو أولى لأنّ المقام مقام الامتنان بنعمة الهداية منه تعالى والحثّ على تقواه.
ولم يقل (ليخرجكم) لأنّ الخطاب لا يخصّ المؤمنين الذين يعملون الصالحات بل الخطاب موجّه لاولي الالباب الذين آمنوا وهو يشمل كلّ من آمن في الظاهر وإن عمل السيئات. وليس كلّ من خوطب بالقرآن وتلا عليه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم آيات الله تعالى وآمن به ظاهرا اهتدى بها وخرج من الظلمات الى النور كما هو واضح بل ان بعضهم ما زادته التلاوة الا خسارا ونفاقا وان كان الهدف هو إخراج الجميع بل اخراج جميع الناس الا أنّ الاخراج حقيقة لا يتمّ كما لم يتمّ الا لبعضهم.
فتبين أن تقييد الاخراج الى النور بالايمان والعمل الصالح إشارة الى شرط الخروج وأنه لا يحصل الا بهذين الشرطين وان كان الغرض من انزال الكتب وارسال الرسل هداية الجميع كما تبين ايضا ان المراد بالذين آمنوا هنا مغاير للمراد بقوله (اولي الالباب الذين آمنوا) وأتى بالظلمات جمعا وبالنور مفردا لكثرة وجوه الضلال ووحدة الصراط المستقيم.
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ... الظاهر أنّ ذكر هذه الجملة الشرطية العامة لتعميم الحكم على غير المخاطبين ولذلك لم يذكر الايمان بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ليشمل من كان مؤمنا بالرسالات السابقة قبل البعثة او حتى بعدها قبل ان يصل اليه نداء الرسالة الجديدة. وقوله (صالحا) صفة لمفعول مقدر اي ويعمل عملا صالحا. وقد ورد هذا التعبير في عدة موارد من الكتاب العزيز منها في سورة التغابن الآية 9 وقد مرّ بعض الكلام في تفسيرها مما يفيد في هذا الموضع.
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا... حال من الضمير المفعول في (يدخله) وأتى به بصيغة الجمع بلحاظ المعنى والمصاديق. وأبدا تأكيد على الخلود او لدفع توهم ارادة طول البقاء حيث يستعمل الخلود في هذا المعنى ايضا وقوله (قد أحسن الله له رزقا) حال آخر من الضمير المذكور. و(رزقا) مفعول أحسن. والرزق: النصيب مما ينتفع به. ويستفاد من التعبير بالاحسان التعجيب مما رزقه الله تعالى في الجنة. وما أعظم ما يمدحه الله تعالى ويستحسنه؟! وما في بعض التفاسير من شمول ذلك لما رزقهم الله تعالى في الدنيا من الايمان غير صحيح لأن الجملة حالية تبيّن حالهم بعد دخولهم الجنة.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ... هذا الختام ايضا يأتي في سياق التأكيد على الاهتمام بالأحكام السابقة باعتبار أنها أحكام الله تعالى وهو العالم بكل شيء فلا يحكم بأمر الا ما تقتضيه الحكمة وهو القدير على كل شيء فاذا حذّر من عاقبة المخالفة فلا بد من الحذر. والامر الذي ينبّه عليه في هذه الآية هو عموم قدرته تعالى فهو الذي خلق الكون بكل عظمته وكل ما يجري في الكون فانما يجري بأمره، وأمره يتنزّل منه الى كل كائن من خلال النظام الذي جعله وهو نظام الاسباب والمسبّبات غيبيّة وطبيعيّة.
وقد مرّ الكلام حول السماوات السبع في قوله تعالى (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ)[5] وقلنا إنّ الظاهر أنّ التحديد بالسبع مقصود وذلك بدليل التعبير بالقضاء مما يدلّ على أنّه في مقام التحديد وبدليل التأكيد على هذا العدد بالذات في موارد كثيرة من الكتاب العزيز فليس المراد التنبيه على الكثرة فحسب وان كان ذلك محتملا ايضا.
وقلنا إنّ من المحتمل أن يراد بها العوالم العلوية الغيبية التي هي مساكن ملائكته كما يظهر من قوله تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)[6] وقد عبّر عنها امير المؤمنين عليه السلام كما في نهج البلاغة بمسكن الملائكة وان كنا لا نعلم كيفية تعلقهم وارتباطهم بها كما يحتمل أن يراد بها خصوص الأجرام الفلكية ويمكن اختلاف المعنى باختلاف الموارد.
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ... ظاهر بل واضح من التعبير أن المراد بالمثلية، المثلية في العدد وذلك لأنه لم يذكر صفة اخرى في السماوات غير العدد. ولكن ما هو المراد من الارض؟
قيل: ان المراد الكرة الارضية وأن المعنى أن هناك سبع كرات او عدد كبير عبّر عنه بالسبع وكلّ هذه الكرات تشابه أرضنا وتشتمل على مخلوقات مثل ما على هذه الارض بل ادّعى بعضهم أنّ ما اكتشف من الكواكب المشابهة لأرضنا عدد هائل. ولكنّ هذا غير صحيح ولم يثبت حتى الآن وجود كوكب مشابه وإن كان ذلك محتملا. ومهما كان فهذا أمر محتمل في حدّ ذاته ولكن لم يرد في القرآن إشارة اليه في غير هذا المورد.
وقيل: إنّ المراد سبع طبقات من أرضنا هذه. وهذا بعيد جدّا إذ لا يعبّر عن ذلك بأنّها مثل السماوات في العدد. ومثله في البعد تقسيم الارض الى سبعة أقاليم على الاختلاف في ذلك.
ويحتمل أن يكون المراد بالارض كل ما نجده ونعلمه او نشعر به من الكون الطبيعي اي كل هذه الاجرام الفلكية من نجوم ومجرات وشموس واقمار وكواكب فكل ذلك يعتبر أرضا واحدة وللّه تعالى أرضون بهذا المعنى عددها سبع او هي من الكثرة بحيث يعبّر عنها بالسبع. ولا يبعد التعبير عن كل عالم الطبيعة الذي نعرفه بالارض فإنّ الارض لا تعني هذا الكوكب بالذات كما أنّ السماء لا تعني ما نراه فوقنا بالذات فالسماء من السموّ بمعنى العلوّ وهو أمر نسبيّ وتقابلها الارض، فكل ما يكون أعلى من شيء سماء وما تحته أرض له.
وعلى ذلك فلا مانع ولا استبعاد أن يراد بالسماء العالم العلويّ اي الخارج عن نطاق الطبيعة وهو ليس علوّا مادّيا كما يتوهّم ويراد من الارض عالم الطبيعة. والله تعالى لا يحدّ قدرته شيء فلا استبعاد أن يخلق أكوانا كهذا الكون ويعبّر عن كل منها بالارض بالنسبة الى السماء التي هي خارجة عن نظام الطبيعة. ولعلّ التعبير بالمثليّة يدلّ على أن كلّ سماء بهذا المعنى لها أرض.
وهذا التفسير لا بد منه في بعض موارد استعمال لفظ السماوات والارض كقوله تعالى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)[7] فان الكرسي تعبير عن الحاكمية المطلقة وهي محيطة بكل الكون من الطبيعة وما وراءها. وهكذا كل ما ورد من ان له ملك السماوات والارض او له ما في السماوات والارض وهو كثير وكذا مثل قوله تعالى (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)[8] وقوله تعالى (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[9] وغير ذلك.
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ... قرينة السياق تدلّ على أن المراد بالأمر، الأوامر التكوينية الصادرة من الله تعالى بشأن كل حادث في الكون. والتعبير بالتنزّل ربّما يدلّ على التدرّج كما يساعده التعبير بالبينية. ويفهم من ذلك أنّ ما يصدر منه تعالى من أمر يسري عن طريق الأسباب الى المسبّبات وهكذا يتنزّل تدريجا الى أن يتحقّق الكائن. والأسباب منها غيبيّة بمعنى أنّها غائبة عن أبصارنا وبعيدة عن أفهامنا، ومنها ما هي طبيعية وهي الاسباب الكونية التي نحاول فهمها واستخدامها للوصول الى مآربنا.
قال تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)[10] والشفاعة هي الوساطة فالملك شفيع ووسيط بين الله تعالى وبين الخلق، والأمر يتنزّل بوساطة الملك. ولعلّ التنزّل يدلّ على وجود مراتب في الملائك فهناك من ينقل الأمر الى غيره وهناك من يباشر الايصال الى الكائن. قال تعالى: (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)[11] والمراد به جبرئيل عليه السلام فهو سيّد الملائكة والمطاع بينهم.
والضمير في قوله تعالى (بينهنّ) يعود الى السماوات وهو ايضا يدلّ على تدرّج نزول الأمر من كل سماء الى سماء اُخرى وليس معنى ذلك أنّ الكائن يتحقّق بعد مدّة من صدور الأمر الالهيّ بل ليس هناك فاصل زمنيّ أبدا وإنّما المراد التنبيه على أنّ الكون يسير على نظام محدّد وسنن إلهيّة لا تتغيّر.
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا... الاحاطة بالشيء الاطافة به وقوله (علما) تمييز لبيان ان الاحاطة ليست احاطة جسمية بل هو تعبير عن العلم بكل ما يتعلق بالشيء والاحاطة العلمية بالاشياء خاصة به تعالى. واللام في اول الجملة قد تكون للتعليل ولكن الجملة ليست تعليلا للخلق ليكون المعنى أنّ الله تعالى خلق الكون من أجل أن يعلم الانسان عموم قدرته وعلمه تعالى كما في بعض التفاسير بل هي تعليل لما مرّ من بيان خلق الكون لا لأصل الخلق، فالمعنى أنّ الله تعالى يبيّن لكم وينبّهكم على عظمة الخلق لتعلموا عموم قدرته وإحاطة علمه بكل شيء. ويمكن أن تكون اللام لبيان الغاية المترتبة على الخلق فالمراد أنّ هذا العلم يترتّب لا محالة على هذا الخلق وهذا النظام الدقيق في الكون. والله العالم وله الحمد أولا وآخرا والصلاة والسلام على محمد واله الطاهرين.
[1] مريم: 8
[2] الشورى: 30
[3] الاسراء: 30- 31
[4] الجاثية: 28
[5] فصلت: 12
[6] النجم: 26
[7] البقرة: 255
[8] آل عمران: 83
[9] الانعام: 75
[10] النجم: 26
[11] التكوير: 21