مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ...

الرجع: المطر سمي به لانه يتكرر كل عام او لانه الماء المأخوذ من الارض يرجع اليها. وهذا الامر كان يعرفه العرب ولو حدسا قال الزمخشري (وذلك أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض)[1] وقال الحميري (وسمي رجعا لانه يرجع من السماء الى الارض بعد ما صعد الى السماء).[2]

ويحتمل قويا انهم كانوا يسمونه به تفاؤلا برجوعه كما سموا الصحراء بالمفازة تفاؤلا بالنجاة منها. وقيل المراد رجوع الكواكب والنجوم كل يوم.

وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ...

قال الخليل (الصدع: نبات الارض لانه يصدع الارض والارض تتصدع منه) والصدع: الشق فيما له صلابة. فيمكن اطلاق الصدع في الآية على الشق الحاصل من النبات وعلى النبات نفسه لانه يشقها فيخرج منها. قال تعالى (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا).[3]

إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ...

هذا هو المقسم عليه بالسماء بمطرها والارض بنباتها. والمعروف في التفاسير أن الضمير يعود الى القرآن الكريم وان لم يذكر مسبقا.

والفصل مصدر اطلق من باب المبالغة اي انه فاصل بين الحق والباطل فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وكل ما عداه اذا خالفه في نفس الموضوع فهو باطل. والهزل نقيض الجدّ او الكلام الذي لا فائدة فيه.

وربما يستبعد توصيفه ابتداءا بانه الفاصل بين الحق والباطل ثم بانه ليس هزلا فانه تنزل عن ذلك المقام.

ويدفع الاشكال بانه ردّ على المشركين حيث كانوا يقولون انه ليس في مقام الجد فيما يخبر عن الحياة بعد الموت والعذاب والجنة ونحو ذلك.

وبناء على هذا التفسير فارتباط القسم بالمقسم عليه من جهة أنّ القرآن الكريم كالمطر والنبات حيث إنهما يغذيان الجسم وهو يغذي الروح.

ولكن الاولى ان يكون الضمير راجعا الى الرجع في قوله تعالى (انه على رجعه لقادر) اي البعث والنشور وما يتبعه من بلاء السرائر والعقاب وفقدان القوة والناصر ومعنى كونه قولا فصلا انه حكم قطعي.

وقوله (وما هو بالهزل) تأكيد لقطعيته ولدفع احتمال كونه مجرد تهديد ووعيد كما كانوا يقولون ومثله ما يسمع من كثير من الناس في زماننا من تاويل كلامه تعالى ليطابق أهواءهم كالقول بان الحياة الاخرى الموعودة في القرآن عبارة عن مستقبل الحياة في هذه الدنيا نتيجة لتطور الانسان والتكامل الاجتماعي.

وهناك من يقول وينشر بان الغرض من ذكر الجنة والنار التهديد والتطميع ليسلك الانسان سبل الخير وليس إخبارا عن امر واقع.

وهناك من ينشر ايضا بان الله تعالى يحب عباده ولا يمكن ان يذهب بهم الى النار فكل ذلك لا يصح الا اذا اعتبر الكلام ليس في مقام الجد والآية الكريمة تنفيه.

وارتباط القسم بالمقسم عليه بناء على هذا واضح فالقرآن كثيرا ما يذكر نزول المطر وإحياء الارض الميتة ويتخلص الى إحياء الموتى كقوله تعالى (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ).[4]

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا...

الضمير يعود الى مشركي مكة مع انهم لم يذكروا بشيء قبله ولكنهم هم المعنيون بالرد في قوله تعالى (وما هو بالهزل) لانه قولهم فكأنهم ذكروا لذكر قولهم والمراد انهم يعلمون انه ليس هزلا ولكنهم انما يصفونه به كيدا منهم.

وقد فسر الكيد في اللغة بوجوه منها انه الخبث ومنها انه المعالجة بشدة ومنها انه المكر والاحتيال ولا يبعد صحة الاول فيما اسند الى المشركين وانما يطلق في ما يقابله من باب المشاكلة او بمعنى اخر كما يطلق المكر في هذا المقام ايضا.

واسناد الكيد اليهم من جهة انهم يعلمون انه ليس هزلا وانما ارادوا بهذا التوصيف ابعاد الناس البسطاء من الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم فالله تعالى يخبر نبيه انهم يكيدون بهذا القول كيدا وانا ايضا اكيد لهم كيدا وهو الاستدراج وايهام القوة ليتمادوا في غيهم ثم ياخذهم اخذ عزيز مقتدر.

و(كيدا) مفعول مطلق في الموضعين يفيد التأكيد. والتنكير للتعظيم اي انهم يكيدون كيدا عظيما وانا ايضا اكيد لهم كيدا عظيما كما قال تعالى (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ).[5]

وهذا التعبير يفيد الحصر اي انهم لا يكيدون في الواقع بل هم المكيدون حصرا فان البشر مهما يحاول ان يكيد ربه فهو الخاسر والله تعالى جبار السماوات والارض لا يضره شيء وانما يستدرج الانسان ويوهمه انه قادر على الاستمرار في كيده ويباغته بالبطش الشديد.

فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا...

الفاء للترتب اي اذا كان الله تعالى يريد بهم كيدا فكن على ثقة انهم لن ينالوا ما يبتغون وكل نشاطهم باطل فمهلهم اي انتظر واصبر لهم.

وكرر الامر بالامهال تارة بصيغة التفعيل وتارة بصيغة الافعال للتأكيد. ولا فرق بينهما وما في الميزان من الفرق بين باب التفعيل والافعال لا دليل عليه. وقد مر الكلام حوله في تفسير قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ..).[6]

و(رويدا) اي مهلة قليلة فإنّ أمدهم قصير وهكذا كان حيث كسر الله شوكتهم وسلط المؤمنين عليهم بعد سنين قليلة من هجرة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد واله الطاهرين

 


[1] الكشاف ج4 ص 736

[2] شمس العلوم ج4 ص 2415

[3] عبس: 26 - 27

[4] ق: 9- 11

[5] الطور: 42

[6] الدخان: 3