مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة التين مكية على الظاهر لقوله تعالى (وهذا البلد الامين) وموضوعها الانسان وانه احسن المخلوقات ثم بعمله يعود الى ارذلها مصيرا او الى سعادة خالدة ويستدل فيها بهذا الامر على لزوم عالم الجزاء.

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ...

اسمان لثمرتين معروفتين فيهما منافع كثيرة للناس فيمكن ان يكون القسم بهما من جهة انهما من النعم الالهية التي خلقها للانسان الكفور.

ويمكن ان يراد بهما شجرتهما او منبتهما المعروف لدى المخاطبين وهو بلاد فلسطين بل يقال بالنسبة للزيتون انها منبته الاول وذلك قياسا على ذكر موضعين بعدهما يرتبطان بالوحي الالهي كما ان فلسطين ايضا كذلك فان فيها مسكن ابراهيم الخليل عليه السلام ومدفنه على ما يروى وفيها مولد المسيح عليه السلام وفيها بيت المقدس والمسجد الاقصى.

وَطُورِ سِينِينَ...

في معجم المقاييس ان الطور في الاصل بمعنى الامتداد في الشيء وانه لذلك سمي به الجبل وقيل انه يطلق على كل جبل فيه شجر ولم يثبت ذلك.

والظاهر ان المراد بسينين سيناء قال تعالى (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ).[1]

وطور سيناء هو الجبل الذي نودي فيه موسى عليه السلام بالرسالة وهو من أعظم بقاع الارض حيث تجلى فيه الله تعالى لكليمه وأمره بأن يخلع نعليه فانه بالواد المقدس قال تعالى (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا).[2]

والمعروف أنه جبل في فلسطين او في شبه جزيرة سيناء في مصر ولكن بعض التحقيقات الأخيرة تؤكد أنه وراء خليج العقبة في اراضي الحجاز حاليا والله العالم.

ومهما كان فالقسم به من جهة انه موضع تكليم موسى عليه السلام.

وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ...

المراد به مكة المكرمة زاد الله في شرفها ووصفهابالامين لان الله تعالى جعل فيه الامان لمن يدخله حتى الطير والوحش فلا يجوز صيدهما.

وهذا حكم تشريعي قديم وليس معناه ان الامان فيه ثابت تكوينا وقد راينا فيه الجناة كم قتلوا وجرحوا من حجاج بيت الله الحرام وهو امر مسبوق في تاريخ البلد.

والقسم بهذه المواضع التي نزل فيها الوحي للاشارة الى ان الانسان نزل الى اسفل سافلين مع ان الله تعالى امده بالوحي لهدايته ولم يتركه بما منحه من العقل والفطرة.

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ...

هذه الآية مع ما تتلوها هي الجملة المقسم عليها وتبين بما مر مناسبتها للمقسم به.

والتقويم اعطاء الشيء ما يستقيم به امره ويعتدل به اجزاؤه. وهو من القوام بفتح القاف اي الاستقامة والمراد ان الله تعالى ميّز الانسان من بين الحيوانات بحسن قوامه جسما وروحا فجسمه اكمل اجسام الحيوان وجعل له العقل وقوة الادراك والنطق ونفخ فيه من روحه ولذلك فهو يرى نفسه مالك الارض يتصرف فيها كيف يشاء.

وهذه الميزة هي التي مدح الله نفسه بخلقها قال تعالى (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).[3]

فان الظاهر ان الفاء اتت بملاحظة الجزء الاخير من هذا التطور وهو انه تعالى انشاه خلقا اخر والمراد به ما اشير اليه في قوله تعالى (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ).[4]

ولذلك امر الملائكة بالسجود له بعد هذا النفخ قال تعالى (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ).[5]

ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ...

الرد بمعنى الارجاع و(اسفل) مفعول ثان للرد او منصوب بنزع الخافض اي رددناه الى مرتبةِ اسفلَ سافلين.

والسفل في مقابل العلوّ الذي منحه الله تعالى حيث آتاه العقل والحكمة ولعل المراد بالسفل مرتبة الحيوان الفاقد للعقل والشعور فالمعنى ان الله تعالى ارجع الانسان بعد ان كان في اعلى مراتب العقل والحكمة الى درجة انزل من درجة الحيوان الذي لا يعقل.

قال تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).[6]

وقال ايضا (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).[7]

وقرأ ابن مسعود اسفل السافلين. ولعله استغرب التنكير في سافلين.

ولعل الوجه في التنكير الاشارة الى انه اسفل ما يمكن ان يتصور اذ لو قال السافلين فان سفله محدود بأنه أسفل المخلوقات السافلة اما مع التنكير فيدل على انه ليس سفلا بالقياس الى موجود سافل اخر او مجموعة من الموجودات بل هو اسفل ما يمكن ان يكون سافلا فلا يتصور منزلة اسفل من منزلته.

ولعلك تقول لماذا لم يقل أسفل سافل؟

والجواب أن المفعول وان كان مفردا والضمير يعود الى الانسان الا انه بلحاظ المصاديق متعدد وهم مختلفون في درجات السفل فالمعنى ان الانسان رجع بعد صعوده الى انزل الدرجات مع اختلافهم في درجات النزول فبعضهم انزل من بعض.

والتعبير بالارجاع من جهة ان هذه الميزة ما كانت له ذاتا بل كان كغيره من الحيوان فاقدا لكل شيء وهو الذي وهبها اياه ثم سلبها منه نتيجة لمتابعته هواه.

وليس المراد بالارجاع انه رجع الى موضعه الاول لانه لا ينطبق على هذا السفل بل المراد اصل رجوعه القهقرى في درجات الكمال التي يفترض ان يبلغها.

ولكن بعض المفسرين أربكه هذا التعبير فأوّلَ الآية بأنّ المراد اعادة الانسان في هرمه الى ضعفه الاول.

وهذا غير صحيح اذ لا وجه لاستثناء المؤمن حينئذ.

وهذا الارجاع انما كان عقابا له لانه خالف فطرته وعقله وخالف الهدايات التي بعثها الله تعالى له عن طريق الوحي فكان مقتضى الطبيعة ان يعود الى ما هو أنزل درجة من الحيوان لان الحيوان يعمل حسبما اوتي من هداية تكوينية وغرائز طبيعية اودعها الله فيها ولكن هذا الانسان الغبيّ لم يعمل بما اودع الله فيه من عقل وحكمة فهو انزل درجة من البهائم.  

وإسناد هذا الارجاع الى الله تعالى من جهة أن هذا التسافل نتيجة طبيعية لعمله ولاهماله عقله وشعوره بل لم يتبع ما رآه بعينه وسمعه باُذنه من آيات الله تعالى وكل ما كان نتيجة طبيعية للشيء فهو فعل الله تعالى نظير ما اذا سار الانسان بسرعة جنونية فوقع في الهاوية فان هذا السقوط نتيجة طبيعية لعمله فينسب الى الله تعالى. 

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ...

اي هؤلاء لم يُردّوا الى أسفل سافلين بل استمروا في تكاملهم الى ان بلغوا الدرجة التي أعطاهم الله تعالى اجرا خالدا في الجنة غير مقطوع.

والفاء لترتب ثبوت الاجر لهم على هذا الاستثناء اي حيث لم يردوا كغيرهم الى السفل اذ لم يعملوا ما يستلزم هذه النكسة فلهم أجر غير ممنون. والتنكير في الاجر للاشارة الى عظمته لانه أجر لا يمكن توصيفه.  

والممنون: المقطوع. والمنة: القطع. وانما يعبر عن ذكر النعمة على المنعم عليه بالمنة لانه موجب لقطع الانعام مع ان ذات النعمة باقية. قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..)[8] فالمنة على الفقير توجب بطلان الصدقة وكانها إنفاق من المرائي او الكافر.

ولكن بعض المفسرين حيث توهم ان المرد بالمنة هنا هو المعنى المعروف قال ان نعم الجنة لا منة فيها.

وهو خطأ فاحش فان الله تعالى يمنّ على الناس بنعمه. ومنّته بذاتها نعمة اخرى.

ويلاحظ ان الاستثناء لا يشمل كل من يدّعي الاسلام والايمان فان الايمان لا يتم الا بقبول كل ما جاء به الرسل والا فسيكون الانسان ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.

ومن يرفض التسليم لما ورد من الرسول صلى الله عليه واله وسلم في شان الولاية بعده لا يدخل في الاستثناء كما لا يدخل من يدعي الايمان ويترك العمل الصالح فالله تعالى لا يُخدع في جنّته. ومن يدعي انه موال لاهل البيت عليهم السلام ويسهر لاقامة شعائرهم ويترك الصلاة لا يقبل منه شيء فلا يخدعوا انفسهم بما يقال في الخطب.

فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ...

الدين: الجزاء. والخطاب لجنس الانسان ولا يختص بالكافر فهناك كثير من المؤمنين يعملون بأحكام الشريعة احتياطا حتى يصيبهم خير الجزاء اذا صح احتمال وجود الثواب والعقاب وليس ذلك لايمانهم ويقينهم بالجزاء وان كانوا لا يصرحون بتكذيبه الا انهم في مقام العمل كثيرا ما يكذّبونه.

فالآيتان هنا في مقام الاستنتاج مما سبق وهو ان الله تعالى اذا خلق الانسان بهذه الكيفية وهذا العقل وهذا الروح واعطاه الخلافة في الارض واخضع له كل شيء ثم هو يعمل عليها بأدون من الحيوان فهل يُترك ان يعمل كما يحب ولا يُجازى عليه ويكون مصيره ومصير المؤمن الذي يعمل الصالحات مصيرا واحدا؟!

لا يمكن ذلك لانه ينافي حكمة الله تعالى والله احكم الحاكمين.

والحكمة: المنع. والمراد بها ما يمنع صاحبها من العمل بما لا فائدة فيه ولا غرض يترتب عليه فان كان الله تعالى أودع هذه المميزات في الانسان من دون سبب وهدف فليس هذا من الحكمة في شيء. فلا بد من وجود عالم يجازى فيه الانسان ويجد نتيجة عمله بما اودع الله فيه من عقل وهداه بالوحي كما يجد نتيجة تركه لما امر به.

والله احكم الحاكمين اي هو ابعد من العمل بما لا تقتضيه الحكمة من اي حاكم يتصور ويفرض وليس هناك حاكم يقارن به تعالى.

فهذا التعبير نظير قوله تعالى احسن الخالقين وخير الرازقين. مع أنه لا خالق ولا رازق غيره.

ولا معنى لما قال بعضهم من المقارنة بينه تعالى وبين من يصنع شيئا فيكون خالقا او ينفق على احد فيكون رازقا لان خالقيته ورازقيته تعالى ليس بهذا المعنى فهو فاطر الكون ومبدعه من العدم وهذا لا يمكن من غيره ورازقيته عين خالقيته وتدبيره فهو خلق كل شيء مع ما يحتاجه للارتزاق والاستمرار في الحياة.    

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله الامين وآله المنتجبين وسلم تسليما.

 


[1] المؤمنون: 20

[2] مريم: 52

[3] المؤمنون: 14

[4] السجدة: 9

[5] الحجر: 29 / ص: 72

[6] الاعراف: 179

[7] الفرقان: 44

[8] البقرة: 264