إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ... وهكذا يتقابل المتقون والمجرمون فهم في هذه الحياة صفّان متقابلان وهناك ايضا لكل من الفريقين نهاية محتومة سعيدة او شقية والبون بينهما هناك شاسع جدا بخلاف ما هنا فالمتقون ليسوا هنا دائما في عذاب والمجرمون ايضا ليسوا دائما في نعيم واما هناك فالمجرمون يوضعون على النار المحرقة كاللحوم المشوية والمتقون في جنات وعيون. والتنكير في الجنات والعيون للتعظيم كأنها لعظمتها لا يمكن توصيفها والتعبير بانهم في عيون بمعنى أنهم في مكان فيها عيون.
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ... الأخذ مطاوعة العطاء فالمراد أنهم في حال الاستمتاع من عطايا ربهم الجزيلة وليس فيه معنى القبول والرضا كما يظنه المفسرون اذ هو امر واضح فلا حاجة الى التنبيه عليه و(آتاهم) اي أعطاهم والجملة حالية وتدل على أنهم في الجنة مستمرون على هذا الحال وهو أخذ العطايا من ربهم الذي رباهم الى ان اوصلهم الى هذه المرحلة من الكمال وهي تناول العطاء المستمر من الله تعالى.
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ... تعليل للايتاء والعطاء وانه مقتضى ربوبية الرب تعالى فان مقتضاها ان يجازي كل احد بعمله فحيث كانوا في الحياة الدنيا محسنين استحقوا العطاء الالهي. والاحسان يمكن ان يكون بمعنى العمل بالحسنات كالصلاة والزكاة ويمكن ان يكون بمعنى انهم يحسنون كل عمل يعملونه فاذا صلوا كانت صلاتهم في الليل والناس نيام واذا تصدقوا اعتبروا ذلك حقا للفقير كما سيأتي وهكذا.
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ... تكرار (كانوا) من دون عطف يدل على أن الجملة الثانية تفسير للجملة الاولى وبيان لاحسانهم وقد تبين كيفية تطبيق الاحسان بالمعنيين على اعمالهم. والهجوع على ما في العين وحكي عن ابن السكيت وغيرهما هو النوم ليلا وقيل بمعنى النوم القليل وقيل انه ربما يطلق على السكون او الاضطجاع من غير نوم. و(ما) زائدة وتؤكد معنى القلة والمعنى انهم ينامون او يستريحون قليلا من الليل. وهذا مدح في ما اذا كان الانسان يسهر الليل بالعبادة او طلب العلم وليس مدحا مطلقا فهناك كثير من الناس لا ينامون الليل اصلا لاشتغالهم بالملاهي والمنكرات او القتل والغارة والسرقة ونحو ذلك فليس كل سهر بالليل ممدوحا.
ولكن ينقل عن بعض التابعين وغيرهم انهم استعظموا ذلك وقالوا انهم لا يمكنهم ان يكونوا من المحسنين اذا كان الاحسان بهذا الشرط خصوصا في الازمنة القديمة حيث كان الاسراج غير ميسور لعامة الناس فكان معظمهم يأوون الى الفراش في ساعة مبكرة من الليل فمن الصعب ان يلتزم احد بان لا يهجع من الليل الا قليلا خصوصا في ليالي الشتاء. والواقع انه ليس بتلك المشقة المتوهمة لمن يشتغل بالعلم او العبادة ولكن ورد في بعض رواياتنا تفسير الآية بمعنى آخر يرفع هذا الاستعظام وهو أن المراد أنهم كانوا في الاغلب لا ينامون كل الليل بل يقومون في آخره للتهجد فقلما يغلبهم النوم وتفوتهم صلاة الليل وعليه فالمراد بالليل جنسه اي قليلا من افراد الليل يهجعون فيها. وهذا يبتني على ان يكون معنى الهجوع النوم ليلا لا النوم الخفيف كما قيل.
روى الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن ابي عمير عن ابي أيوب الخزاز عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (ان العبد يوقظ ثلاث مرات من الليل فان لم يقم أتاه الشيطان فبال في أذنيه قال: وسألته عن قول الله عز و جل: «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ» قال: كانوا أقل الليالي تفوتهم لا يقومون فيها).[1] والسند صحيح.
ومثل هذه الرواية ورد في تفسير قوله تعالى (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا)[2] حيث يأتي فيها نفس الاشكال فقد روى الشيخ الطوسي قدس سره باسناده عن محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل عن منصور عن عمر بن أذينة عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله تعالى: (قم الليل الا قليلا) قال: أمره الله ان يصلي كل ليلة إلا أن يأتي عليه ليلة من الليالي لا يصلي فيها شيئا).[3] والسند صحيح ايضا.
وورد تأويل آخر لهذه الآية الكريمة في رواية اخرى رواها الشيخ الطوسي بسنده عن محمد بن على بن محبوب عن الحسن بن علي عن العباس بن عامر عن جابر عن أبي بصير عن أبى جعفر عليه السلام قال: «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ» قال: (كان القوم ينامون ولكن كلما انقلب أحدهم قال: الحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر).[4] وبناءا على هذا التأويل كانوا ينامون كل ليلة وكل الليل الا وقت التهجد ولكنهم كانوا يذكرون الله تعالى كلما تقلبوا في الفراش ولكن التأويل الاول اقرب وروايته اصح.
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ... الاسحار جمع سحر وهو آخر الليل كما في العين وفي الصحاح ومعجم المقاييس انه قبيل الصبح. وفي المفردات انه اختلاط ظلام الليل بضياء النهار. وحدد في كلام الفقهاء بالثلث الاخير من الليل وبعضهم حدده بالسدس الاخير ولم اجد لهما مستندا في اللغة وقال ابن سيدة وقيل انه الثلث الاخير.
والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى وقد تأكد الاستغفار سبعين مرة في قنوت الوتر ولذلك قيل ان المراد بالاستغفار هنا صلاة الليل. ولكن لا وجه للتخصيص. واتى بالضمير تأكيدا على أنهم هم المستغفرون فقط دون غيرهم في اشارة الى قلة المستغفرين في الاسحار لانه وقت راحة. وفي بعض التفاسير انهم يقومون طول الليل بالعبادة ثم يستغفرون في آخره كأنهم قد أذنبوا طول الليل خوفا من التقصير في العبادة ولكن ليس في الآية ما يدل على أنهم يستغفرون من تهجدهم.
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ... كان ما مضى صفتهم في مقابل ربهم وهذه الآية تبين موقفهم في الشؤون الاجتماعية فالتهجد في الليل والاستغفار في السحر لا يعزلهم عن المجتمع ولا يمنعهم من مشاركة الفقراء والمحرومين آلامهم فهم يعتبرون اموالهم الشخصية مشتركة بينهم وبين الفقراء والتعبير يدل على أنهم لا يعتبرون ما يدفعونه للسائل والمحروم صدقة او تبرعا بل يعتبرون ذلك حقا من الحقوق المفروضة عليهم في أموالهم مع أن الظاهر أنه لا يراد به الزكاة الواجبة فان الزكاة لها مصارف محددة وليست خاصة بالفقراء مع أنه لا يجوز دفعها للسائل مع عدم العلم باستحقاقه وقد ورد ذلك ايضا في روايات اهل البيت عليهم السلام في آية مشابهة وهي قوله تعالى (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).[5]
روى الكليني رحمه الله بسنده عن سماعة عن ابي عبدالله عليه السلام قال ــ في حديث ــ (ولكن الله عزّ وجلّ فرض في أموال الاغنياء حقوقا غير الزكاة فقال عزّ وجلّ (والذين في أموالهم حق معلوم) فالحق المعلوم غير الزكاة وهو شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله يجب عليه أن يفرضه على قدر طاقته وسعة ماله فيؤدي الذي فرض على نفسه إن شاء في كل يوم وإن شاء في كل جمعة وإن شاء في كل شهر..)[6]
وروى بسند صحيح عن أبي بصير قال (كنا عند أبي عبدالله عليه السلام ومعنا بعض أصحاب الاموال فذكروا الزكاة فقال أبو عبدالله عليه السلام: إن الزكاة ليس يحمد بها صاحبها وإنما هو شيء ظاهر إنما حقن بها دمه وسمي بها مسلما ولو لم يؤدها لم تقبل له صلاة وإن عليكم في أموالكم غير الزكاة. فقلت: أصلحك الله وما علينا في أموالنا غير الزكاة؟ فقال: سبحان الله أما تسمع الله عزّ وجلّ يقول في كتابه (والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم) قال: قلت: ماذا الحق المعلوم الذي علينا؟ قال: هو الشيء يعمله الرجل في ماله يعطيه في اليوم أو في الجمعة أو في الشهر قلّ أو كثر غير أنه يدوم عليه..)[7]
وعن القاسم بن عبد الرحمن الانصاري قال (سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن رجلا جاء إلى أبي ــ علي بن الحسين عليه السلام ــ فقال له: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ (والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم) ما هذا الحق المعلوم؟ فقال له علي بن الحسين عليه السلام: الحق المعلوم الشيء يخرجه من ماله ليس من الزكاة ولا من الصدقة المفروضتين. قال: فاذا لم يكن من الزكاة ولا من الصدقة فما هو؟ فقال: هو الشيء يخرجه الرجل من ماله إن شاء أكثر وإن شاء أقل على قدر ما يملك. فقال له الرجل: فما يصنع به؟ فقال يصل به رحما ويقوي به ضعيفا[8] ويحمل به كلّا أو يصل به أخا له في الله أو لنائبة تنوبه فقال الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالاته)[9]
والظاهر أن الفرق بين السائل والمحروم أن الاول يطلب المساعدة ولا يعلم كونه صادقا في استحقاقه وقد علم من الروايات بل الآيات ايضا ومنها هذه الآية أن السؤال أمارة على الاستحقاق ما لم يعلم الخلاف. وأما المحروم فهو من يعلم حرمانه واحتياجه ولكنه لتعففه لا يسأل كما قال تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا..)[10] وفي الروايات أن المراد به المحارف وهو – بفتح الراء - الذي لا يصيب خيرا من أيّ وجه توجّه له كأن رزقه حُرف وحُوِّل عنه فلا يصل اليه مع محاولته.
روى الكليني بسند معتبر عن صفوان الجمال عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ (للسائل والمحروم) قال (المحروم المحارف الذي قد حرم كدّ يده في الشراء والبيع)
وقال الكليني: (وفي رواية اخرى عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السلام أنهما قالا (المحروم الرجل الذي ليس بعقله بأس ولم يبسط له في الرزق وهو محارف).[11]
[1] الكافي ج3 ص446 باب صلاة النوافل
[2] المزمل: 2
[3] تهذيب الاحكام ج2 ص335
[4] تهذيب الاحكام ج2 ص335 باب كيفية الصلاة
[5] المعارج: 24- 25
[6] الكافي ج3 ص499 باب فرض الزكاة
[7] نفس المصدر
[8] وفي نسخة ويقري به ضيفا
[9] نفس المصدر وفي نسخة (رسالته)
[10] البقرة: 274
[11] نفس المصدر