وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ... جملة استينافية. وقد بدئت مع ثلاث آيات بعدها بقوله (وفي) مما يوهم انها معطوفة على الآية السابقة ولكنها ليست كذلك كما هو واضح وان كانت في نفس السياق فان هذه الآيات تحثّ الانسان على التدبر والتفكر في نفسه وفيما حوله ليحصل على يقين المتقين الذين سبق ذكرهم ولذلك قال (للموقنين) ويتجنب اللعنة التي يستحقها الخراصون.
فنظرة الى الارض وما فيها وكيفية تدبير امورها تكفي للانسان أن يؤمن بأن الخالق هو المدبر للكون حيث خلق كل شيء بحكمة وتدبير دقيق لا يمكن دركه بكنهه ولا الاحاطة بجوانبه حتى اجمالا. ويتبين للانسان بذلك أن كل هذه الدقة والتدبير ليس الا لهدف منشود. فاذا لاحظ كل ما في خلق الانسان من دقة وحكمة تبين له ان الله تعالى لم يخلقه سدى وأنه لابد من عالم آخر تحاسب فيه الاعمال ويوضع كل انسان موضعه.
وفي الارض آيات عجيبة باهرة لا يمكن لانسان واحد عدّها حتى بالاجمال فان ذلك يتوقف على اختصاصات شتى والقرآن ليس كتابا علميا يحدد هذه الجهات وليس هذا من شأنه وانما ينبه الانسان ليتأمل جوانب الكون حسبما اوتي من علم وبصيرة فكما أن الانسان يلاحظ عظمة الآيات الالهية في هذا العصر بفضل ما توصل اليه العلم والابحاث الكونية كذلك كان يلاحظها في تلك العهود البدائية وكلما تقدم به العلم والبحث توصل الى عجائب اخرى من خلقة الله تعالى وحكمته وتدبيره وكلما اتسع العلم بحثا وتعمقا تأكد لديه أن مجهولاته أكثر من معلوماته بل اتضح له في كل مرحلة عالم واسع كبير لا يبلغ مداه. وقد أفرد العلماء الباحثون كل حسب اختصاصه كتبا في عدّ هذه الآيات العظيمة وذكر تفاصيلها حسب ما توصل اليه الانسان في كل عصر.
فمن باب المثال لا الحصر يلاحظ أن الله تعالى خص هذا الكوكب ــ في ما نعلم ــ بمقومات الحياة ولذلك دبّر له كل مستلزماته بدقة متناهية وكما يقول العلماء لو اختل هذا النظام اقل اختلال لم يمكن استمرار الحياة على الارض فلو تغير حجمها صغرا أو كبرا او تغير بعدها عن الشمس او تغير ميل الأرض على محورها او تغيرت حركتها حول نفسها أو حول الشمس سرعة أو بطأ او تغير حجم الغلاف الجوي المحيط بها او تغير حجم القمر او بعده عنها او تغير حجم مياه المحيطات او ارتفاعها وانخفاضها الى غير ذلك من انحاء الاختلال لم يمكن استمرار الحياة. ومن الغريب أن بعض علماء الطبيعة على ما حكي عنه يذكر جانبا من عجائب هذه النسب الدقيقة ثم ينسب التعادل والتناسب في الغازات المحيطة بالارض الى المحيطات وقال ان من يدرك تأثير المحيطات في بقاء الحياة يجب أن يخضع لها ويشكرها على مواهبها.
يا للجهل والغباء!!! هل هذا هو نتيجة كل هذه العلوم والاكتشافات فيعود الانسان الى الجاهلية الاولى فكما هم عبدوا الاصنام اخذ الآن يعبد البحر المحيط ويسجد له ويشكره على نعمائه؟! أما آن للانسان أن يعقل أن هذا الكون لا يمكن أن يكون بهذه العظمة وهذه الدقة وهذا النظم الا بتدبير مدبر حكيم فيخضع له ويشكره على نعمائه؟!
وهنا يتبين وجه التقييد الوارد في الآية حيث يدل على أنه لا يستفيد من هذه الآيات الا الموقنون وليس المراد بالطبع خصوص من حصل لهم اليقين بالفعل اذ لا يبقى حينئذ وجه لحثّ الانسان بوجه عام على التفكر والتدبر بل المراد بهم من هم من اهل اليقين فهناك نوع من الناس لا يؤمنون بالآيات مهما كانت واضحة وذلك لاخلادهم الى الارض فبالرغم من تعمقهم في عجائب الخلقة وسعة اطلاعهم على خبايا اسرار الكون الا أنهم لا يتجاوزون حدود المدلول الارضي للعلم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[1] فهؤلاء ليسوا من اهل اليقين ولا تنفعهم الآيات.
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ... يكفي الابصار لمعرفة آيات الله تعالى في خلق الانسان حتى لو لم يتعمق فيه بما توصل اليه العلم والدراسة فالانسان يلاحظ في نفسه عجائب من تدبير الله تعالى من دون مراجعة للبحوث العلمية والقرآن ينبه الانسان الساذج على ملاحظة هذه الآيات بدءا من خلقه انه كيف خلقه الله تعالى من نطفة وكيف مزج النطفتين كما قال تعالى (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ)[2] وكيف تحوّل خلقه الى علقة ثم الى مضغة مخلقة وغير مخلقة ثم تكونت العظام ثم اكتست العظام لحما ثم أنشأه خلقا آخر وهو روح ونفس واحدة تجمع كل هذه الشتات فالجسم يتغير وتتبدل أجزاؤها ولا يؤثر ذلك في تحوّل الشخصية.
ثم انه يلاحظ في جسمه مختلف الاعضاء والجوارح والادوات التي بها يقضي حوائجه ويلاحظ أعضاءه وقواه الداخلية كيف تعمل عملها بانتظام في تناول الطعام والشراب وتغذية الجسم وهضم الطعام وخروج الفضلات وما يضر بالجسم، والتنفس ومقاومة الامراض والشعور بالجوع والعطش والتناسل وغير ذلك ناهيك عن كيفية تعقله للامور وحفظه وتفكيره واستنتاجه ثم يلاحظ تناسب ما حوله من الامور الطبيعية لمستلزمات حياته وغير ذلك مما يتعقله الانسان العادي بل يبصره ويتحسسه ويلمسه بكل وجوده فلا يبقى له شك بعد ذلك في وجود خالق حكيم مدبر رحيم رؤوف بعباده.
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ... الرزق هو العطاء والانعام وليس فيه معنى الجريان والاستمرار كما قيل لقوله تعالى (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ..)[3] كما أنه لا يختص بالعطاء المحدد بوقت خاص كما قيل ايضا وذلك بملاحظة الآية التالية حيث أطلق الرزق على العطاء المستمر.
والرازقية من شؤون الربوبية كما قال الله تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ..)[4] والظاهر أن المراد بالرزق هنا كل ما يوجب استمرار البقاء بعد الخلق والتطور والتكامل اللازم الى أن يصل الانسان الى الكمال المنشود فهذا الرزق مرحلة تعرضه للعطايا الالهية طيلة حياته في الدنيا ويشمل ذلك ما يحتاجه في شؤونه المادية والمعنوية ومنها الهداية فكل ذلك من الرزق الالهي المستمر.
ولكن الرزق بمعناه الوسيع لا يختص بذلك فقد اطلق في القرآن الكريم على ما يمنحه الله تعالى في الحياة الاخروية وفي البرزخ ايضا قال تعالى (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[5] وقال تعالى (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ...)[6] وقال تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).[7]
والظاهر أن قوله تعالى (وفي السماء رزقكم) بمعنى أن الرزق من عند الله بناءا على أن المراد بالسماء جهة العلو المعنوي وعالم الامر فمفاد هذه الآية نفس ما تفيده الآية السابقة اي قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) وكونه في السماء قيل بمعنى أن تقدير رزقكم فيها ويمكن أن يكون المراد أن الرزق بالمعنى المصدري يتحقق في السماء أو أن خزائن الرزق عند الله تعالى كما قال عز من قائل (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)[8] والعندية هنا ليست مكانية كما أن الظرفية في الآية مورد البحث ليست مكانية وما من شيء على الارض بل في الكون بصورة عامة الا وهو ينزل من السماء بهذا المعنى قال تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ..)[9] وقال ايضا (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ...)[10] فالرزق كالخلق وكأي حادث آخر اصله في السماء ومن السماء.
وقيل ان المراد بالسماء جهة العلو الحسي والمراد بالرزق المطر لانه سبب لكثير من الارزاق كما عبر به عنه في قوله تعالى (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا...).[11] وهو بعيد عن الآية مورد البحث خصوصا بملاحظة عطف (ما توعدون) والتعبير عن المطر بأنه رزق لا يقتضي أن يحمل الرزق بقول مطلق عليه.
وقوله (وما توعدون) عطف على رزقكم اي كل ما توعدون به من خير وشر في الدنيا والآخرة وفي أي مرحلة من مراحل الوجود انما يأتيكم من السماء فهناك خزائن كل شيء والعطف هنا من عطف العام على الخاص فان الرزق في الجملة مما وعده الله للانسان ولكن بعض انواعه مقتضى الربوبية ويتبع الخلق كما مر في آية سورة الروم ولا يختص بالانسان كما قال تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا...)[12] كما أنه يتعلق بالانسان من بدء الخلقة قبل ان يتعقل شيئا وتشمله الوعود.
والحاصل ان المراد بما توعدون كل ما يتحقق للانسان والذي وعده الله تعالى ومنه ما وعده من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة وكذلك وعده تعالى بنصرة انبيائه عليهم السلام والمؤمنين بهم ولا وجه لتخصيصه بالثواب كما في الميزان وخصوصا بملاحظة الآية التالية بل لا يبعد بملاحظة الآيات التالية المبينة لعاقبة المكذبين من الاقوام السابقة أن يكون محط النظر في هذا الوعد ما تكرر التهديد به في مخاطبة مشركي مكة من احتمال نزول العذاب الالهي عليهم. والوعد لا يختص بالخير كما توهم لقوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[13] وغيرها من الآيات. وقد مر نحوه في تفسير قوله تعالى (انما توعدون لصادق).
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ... اختلفوا في مرجع الضمير في (إنه) وأقوى ما قيل أنه يعود الى (ما توعدون) وقد تكرر في الكتاب العزيز التأكيد على أن وعد الله حق فالبشر الجاهل البعيد عن معرفة الله تعالى يتوهم أن ما وعده تعالى كمواعيد غيره التي قد تتحقق وقد لا تتحقق وعليه فالمراد هنا ايضا التأكيد على أن مواعيده تعالى تتحقق بلا ريب ولعل التأكيد انما هو على ما وعده من الثواب والعقاب في الآخرة فانها هي التي يكذب بها كثير من الناس ويستبعدونها فاستلزم التأكيد والقسم ويحتمل ــ كما مر آنفا ــ أن يشير بذلك الى احتمال نزول عذاب الاستئصال.
ويحتمل بقرينة القسم برب السماء والارض أن يكون مرجع الضمير هو كون الرزق وما يوعدون في السماء ومن السماء اي من عند الله تعالى فيكون الغرض من اختيار هذه الصفة (رب السماء والارض) الاشارة الى أن رب السماء والارض واحد فالذي يقدّر ما في الارض من رزق وغيره هو رب السماء بذاته. والتشبيه بالنطق باعتبار أنه أمر محسوس ومن فعل الانسان فلا يمكن ان يرتاب فيه. و(مثل) منصوب وصفا بتقدير مفعول مطلق اي انه لحق حقا واضحا مثل نطقكم.
[1] الروم: 7
[2] الانسان: 2
[3] النساء: 8
[4] الروم: 40
[5] سبأ: 4
[6] الاعراف: 50
[7] العمران: 169
[8] الحجر: 21
[9] الزمر: 6
[10] الحديد: 25
[11] الجاثية: 5
[12] هود: 6
[13] التوبة: 68