مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

 

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ... الخطب قيل إنه بمعنى الشأن العظيم وانه اطلق عليه ذلك لانه يكثر فيه التخاطب وقيل انه بمعنى الشأن مطلقا لقولهم خطب يسير وفي المقاييس (والخطب: الأمرُ يقع وإنما سُمِّي بذلك لِمَا يقع فيه من التَّخاطب والمراجعة) وقال الخليل في العين انه بمعنى سبب الامر. فمعنى السؤال ما هو شأنكم المهم او ما هو سبب نزولكم حيث انه تبين له أن هذه البشارة ليست هي الشأن الاساسي لنزولهم فسأل: ما هو الشأن العظيم الذي نزلتم له ولعله عرف ذلك من عددهم او حالتهم.

قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ... افصح الملائكة أن مهمتهم انزال العذاب على قوم مجرمين وهذا عذاب الاستئصال يبيد قوما بأجمعهم لا يشذ منهم أحد حتى الشيوخ والاطفال فتدفن القابليات وتبيد ثقافة بشرية بكاملها وهذا لا يتحقق الا في ظروف خاصة والمراد بالقوم هنا قوم لوط عليه السلام اختاره الله تعالى رسولا الى قوم في قرية سدوم ليدعوهم الى التوحيد والى شريعة ابراهيم عليه السلام والرسل من امثاله كثير وانما ذكره الله تعالى لخصوصية في قومه جرّتهم الى هذا العذاب المخزي وكان القوم يرتكبون الفواحش ويأتون الرجال شهوة من دون النساء ويأتون في ناديهم المنكر علانية فأتاهم لوط عليه السلام وتجرع الغصص في إنذارهم وتخويفهم فلم ينفع فيهم بل تمادوا في غيّهم وأعانتهم زوجة لوط على كفرهم وعنادهم فاستحقوا عذاب الاستئصال.

وفي البشر في عصرنا وغيره من هم مثلهم او أكثر منهم طغيانا وكفرا وخوضا في المفاسد الاجتماعية والخلقية ولكن الفرق الواضح هو وجود رسول معصوم بينهم يأتيهم بالآيات البينات وينذرهم عذاب ربهم ولا شك أنهم كانوا يعلمون صدقه وخلوص نيته ولذلك بقي فيهم آمنًا لم يعتدوا عليه ولكنهم رفضوا الانصياع لاوامره والايمان به ترجيحا لما تتطلبه شهواتهم ونزواتهم. وهذا هو الاجرام الحقيقي حيث يقدّم الانسان هواه الخسيس على اطاعة ربه.

والاجرام هو اكتساب الاثم والخطيئة وقيل ان اصله القطع اطلق على من يأتي باثم لانه بذلك يحوز شيئا ويكتسبه فكأنه اقتطع ثمرا من شجر ولكن هذا غير صحيح لانه لا يطلق على من يكتسب الخير وقلنا سابقا ان الاطلاق لعله من جهة انه يقطع بذلك علاقته بربه فان الاجرام في العرف لا يطلق على كل مخالفة للقانون بل على ما يوجب انفصال الانسان عن مجتمعه كقتل النفس ونحو ذلك فاذا اطلق في الشرع فيراد به من قطع علاقته بربه.

لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ... ورد التعبير عن عذاب هذا القوم بالمطر في قوله تعالى (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)[1] وفي آيات اخرى ايضا وبيّن في سورة هود حقيقة هذا المطر فقال تعالى (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)[2] ونظيره قوله تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ)[3] وعبر عن عذابهم في سورة القمر بأنه كان حاصبا قال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ)[4] والحاصب الريح التي تحمل الحصباء او تحصب القوم بمعنى انها ترميهم بالحجارة.

وأما السجّيل فقد اختلفوا في معناه والظاهر انه معرب من سنگ گل اي حجر الطين او الطين المتحجر او حجارة من طين كما ورد هنا. وقيل انها كلمة عربية بمعنى المرسَل وقيل بمعنى كثيرة شديدة وقيل بمعنى أنها حجارة سجل عليها وكل ذلك بعيد لمكان (من) ويرد على الاخير ايضا انه يلزم التكرار لقوله تعالى (مسومة). ومهما كان فصريح هذه الآية أنها كانت حجارة من طين وربما يستغرب من اختيار ذلك لانزال العذاب واهلاك القوم مع امكان استخدام حجارة صلبة بل قطعات من حديد ونحوه. 

ومن الملفت للنظر أن ما أرسله الله تعالى لاهلاك اصحاب الفيل ايضا كانت حجارة من سجيل ولعل السر في ذلك اعلام الناس بأن هلاك القوم انما كان من جهة أنه عذاب الله تعالى لا بسبب صلابة الحجارة والا فما كان ينبغي ان يموت الجميع بهذه الحجارة الرخوة ولذلك قيل في اصحاب الفيل ان الحجارة كانت تقع على رؤوسهم وتخرج من أدبارهم. وأما ما ذكره بعض المفسرين الجدد من أنه لا يبعد أن تكون تلك الحجارة من بركان ثائر في نفس الوقت المحدد بتدبير من الله تعالى فلا دليل عليه ولا موجب لفرضه فكأنه استغرب ان يقتل هذا الجمع الكثير بحجارة من طين ووحل.

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ... اي معلّمة عند ربك والسوم والسيما: العلامة. ومعنى كونها معلّمة أنها ليست من الحجارة العامة بل هي حجارة خاصة خلقها الله تعالى ليعذب بها المسرفين الذين تجاوزوا الحد في اجرامهم ولعلها ليست من جنس هذا الطين وقد مر بيان سبب التعبير عنها بانها من طين. والتعبير عن الله تعالى بالرب مضافا الى ابراهيم عليه السلام يتضمن أمرا وهو أن الحكم محسوم من قبل ربك فلا تجادل فيه كما صرح بذلك في سورة هود وقد مر بيانه.

ويمكن أن تكون هذه الجملة خطابا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم كما هو كذلك قطعا في نظيرها في سورة هود فيكون التعبير بقوله (ربك) اشارة الى احتمال أن يصيب هذا العذاب قومك ايضا اذا عاندوك كما أن التعبير عن القوم بالمسرفين ينبئ عن أن مورد هذا العذاب كل من تجاوز الحد في الاجرام ولا يختص بنوع خاص منه كمن يرتكب عمل قوم لوط. وعبّر عن هذا التعميم في سورة هود بقوله تعالى (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)[5] والمراد أنه قريب من جميع الظالمين وفيه تعريض بكفار قريش وهذا القرب من جهة الاستحقاق وليس قربا مكانيا كما توهم بعضهم حيث قال ان المراد كونها موجودة حوالي بلدهم اي قوم لوط وأنه لا مانع من وجود بركان قريب منهم.

فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... ليست هذه تتمة لحديث الملائكة عليهم السلام بل الفاء هنا تفصح عن جمل محذوفة بعد الانتهاء من مخاطبة ابراهيم عليه السلام والخروج من عنده لتنفيذ المهمة وهذه الآية تبين أن الله تعالى لا ينزل عذاب الاستئصال الا بعد اخراج المؤمنين كما ورد ذلك في سائر الموارد قال تعالى (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ)[6] وقال ايضا (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ...)[7] وغير ذلك.

ويظهر من الآية أن المناط في النجاة من العذاب ليس هو الاسلام بل الايمان وهما مختلفان فالمسلم يشمل المنافق حتى لو أعلن نفاقه وقد فصل الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين في غير مورد وان كان ربما يعبر عن كل من آمن ظاهرا بالمؤمنين.

فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ... هذه الآية تدل على غاية الانحطاط في ذلك المجتمع وأن الفساد والكفر قد عمّ البلد بدون استثناء وهو أمر غريب. وتغيير التعبير من المؤمنين الى المسلمين يدل على أنه لم يسلم منهم حتى في الظاهر أحد وانحصر المسلمون بأهل هذا البيت وهم ايضا لم يكونوا بأجمعهم مؤمنين فقد شمل العذاب امرأة لوط عليه السلام بل ضرب الله تعالى بها وبامرأة نوح عليه السلام مثلا للذين كفروا. ومن هنا يتبين ضعف ما قيل من أن الآيتين تدلان على وحدة الايمان والاسلام.

وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ... الآية الكريمة تختصر الحادث فلم تبين ماذا حدث للقوم وانما تشير الى أنه ما ترك منها الا آية للذين يخافون ومعنى ذلك أن العذاب لم يبق منهم ومن بلدهم وحضارتهم الا أثرا يعتبر منه العابرون ويستنبئون منه ماذا قد حل بالقوم من العذاب الاليم.

والمعروف ان آثار القرية المنكوبة كانت باقية على عهد الرسالة قال تعالى (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[8] ولكنها آية لمن يخاف عذاب الله وليست آية للمنهمكين في الشهوات والذين لا يتأثرون الا بما يثير حواسهم الظاهرية فلا يخافون عذاب الله تعالى ونقمته اذ لا يؤمنون به وبآياته ولا يؤمنون بالغيب وهم يمرون على آيات الله ليلا ونهارا ولا يؤمنون بها كما قال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).[9]

 


[1] الاعراف: 48

[2] هود: 82- 83

[3] الحجر: 73- 74

[4] القمر: 34

[5] هود: 83

[6] هود: 58

[7] هود: 66

[8] هود: 137- 138

[9] يوسف: 105