وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ... اي وفي موسى آية وحذفت لدلالة الجملة السابقة او الجملة معطوفة عليها مع تقدير فعل آخر نحو (وجعلنا) فيكون المعنى وجعلنا في موسى آية. و(اذ) ظرف للآية اي كان عليه السلام آية حين ارسلناه الى فرعون.
والمراد بالسلطان المبين الحجة الدامغة والمعجزات الباهرة الواضحة التي أظهرها الله تعالى على يده عليه السلام مما لم يبق مجالا للشك وكان فرعون يعلم صحة ما يقوله موسى عليه السلام كما قال تعالى حكاية عن قوله خطابا لفرعون (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ...)[1] ولكنه لم يتنازل له وهو أمر طبيعي ومتوقع اذ يستبعد جدا من طاغوت يستعبد الناس ويدعي لنفسه الربوبية العليا أن ينزل عن عرشه ويطيع انسانا فقيرا لا يملك الا عصاه وهو في نفس الوقت قد تربى في حجره وتحت عنايته بل كان قد تبناه على ما يبدو من القرآن الكريم. وهذا هو بيت القصيد والمقصد الاساس في الآية اي التنبيه على ما يوجب امتناع البشر من الايمان بالرسل ويذكره الله سبحانه تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتأنيبا للمتكبرين وطواغيت قريش.
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ... أي أعرض بجانبه. والركن: الجانب. ومثله قوله تعالى (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ...)[2] والجانب: الجنب او صفحة الوجه. والاعراض بالجانب كناية عن عدم الاهتمام بالشيء واحتقاره. ويمكن أن يكون المراد بالركن جنوده وملأه الذين كان يركن اليهم ويتقوى بهم فتكون الباء للمصاحبة او بتقدير متقويّا بركنه ونحو ذلك.
والحاصل أنه لم يواجه المعجزات والحجج ببرهان او دليل بل قابلها بالتحقير والازدراء والكبر والخيلاء. وكدأب الطغاة في جميع العصور تخبّط في توجيه التهم الى موسى عليه السلام ليبعد الناس عنه خوفا على سلطانه فتارة وصفه بالسحر كما قال تعالى (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)[3] وتارة وصفه بالجنون كما قال تعالى (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ)[4] مع أن الوصفين لا يجتمعان الا أن الطغاة لا يجدون بدّا في مقابلة الانبياء والمصلحين الا توجيه التهم الفارغة وهنا ايضا تردد بين الوصفين.
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ... اشارة الى قصة غرق فرعون وجيشه بعد أن تعقبوا موسى عليه السلام وبني اسرائيل وقد ذكرت القصة في عدة مواضع من القرآن الكريم ولكنه هنا اختصر الامر وأشار اليه اشارة خاطفة مهينة تنبيها على أن الله تعالى لا يهمه شأن الطغاة ولا يختلف عنده الكبير والصغير فأخذه الله تعالى مع جنوده وهم ركنه الذي كان يتقوى بهم ورمى بهم في البحر كما ترمى القمامة. ونبذ الشيء إلقاؤه وطرحه لقلة الاهتمام به. وفي التعبير من استصغار شأنهم وتحقيرهم بعد أن استكبروا في الارض ما لا يخفى. والغرض منه تنبيه مستكبري قريش أن مثل ذلك ربما تكون عاقبتهم.
واليمّ هو البحر. وقيل انه ينطبق على النهر العظيم كالنيل. ولكن الصحيح أن فرعون غرق في البحر لأنّ النهر لو كان يتوقف ماؤه عن الجريان لأصبح الماء مرتفعا من جهة ارتفاعا عظيما يزداد بسرعة هائلة ولكنه من الجهة الثانية لا يرتفع بل يجري الماء وتنشف الارض والله تعالى يقول (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[5] وقد انكشف اليوم بملاحظة الآثار الباقية أن ممر بني اسرائيل كان في البحر الاحمر.
وقوله (وهو مليم) جملة حالية اي أنه غرق وتسبب في غرق قومه وجنوده باصراره على الطغيان فاستحق الملامة من الله تعالى وممن بقي من قومه ومن الناس أجمعين. والمليم اسم فاعل من ألام أي أتى بما يوجب اللوم كما يقال أغرب لمن أتى بأمر غريب.
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ... اي وللناس عامة ولسكان الجزيرة العربية خاصة آية في قوم عاد وهم كانوا من اهل هذه المنطقة وكانت آثارهم باقية في عهد نزول القرآن فلهم في هذا القوم آية اذ أرسل الله تعالى اليهم رسولهم هود عليه السلام فلم يسمعوا له فأنزل الله عليهم عذاب الاستئصال وأرسل عليهم الريح العقيم.
والعقم على ما في معجم مقاييس اللغة بتلخيص (يدل على غموضٍ وضيق وشدّة يقال: حَرْبٌ عَقام اي لا يَلوِي فيها أحدٌ على أحد لشِدّتها. وداءٌ عُقَامٌ: لا يُبرَأ منه. ومنه قولهم: رجل عَقام، وهو الضيِّق الخُلُق. ومنه عَقِمت الرّحمُ عُقماً اي لا تقبل الولَد. قال الخليل: عقلٌ عقيم للذي لا يُجدي على صاحبه شيئاً. ويقال: المُلْك عقيم وذلك أنّ الرّجلَ يقتلُ أباه على الملك. والدنيا عقيم: لا تردُّ على صاحبها خيراً. والرِّيح العَقيم: التي لا تُلقِح شجراً ولا سَحاباً).
والمفسرون ايضا قالوا هنا ان الرِّيح العَقيم هي التي لا تُلقِح شجراً ولا سَحاباً. ونسب ايضا الى ابن عباس ولكنه بعيد من جهة أن الريح المذكورة لم تكن غير نافع فحسب بل هي التي أهلكتهم وقطعت دابرهم فلا ينبغي توصيفها بعدم النفع فالاولى ان يقال: ان العقم بحسب موارد الاستعمال بمعنى ما لا عقب له وبهذا الاعتبار يوصف به الرجل والمراة وتوصف به الحرب اذا هلك اكثرهم فكأنّهم ماتوا باجمعهم ويوصف به الداء ايضا لانه ينتهي الى الموت ويوصف العقل اذا كان لا ينفع شيئا والريح اذا كانت لا تلقح الشجر ولا تمطر ولكن هذه الريح كانت عقيما لانها لم تبق منهم احدا بل ولا شيئا ينتفع به ولذلك جاءت الجملة التالية بدون عاطف لانها تفسر العقم. ولذلك ايضا اتى بالفعل المضارع لبيان ان هذه كانت صفته وليس اخبارا عن حال والا لكان الانسب ان تكون بصيغة الماضي.
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ... اي لا تترك شيئا مما أصابته الا جعلته كالعظم المتفتت. والرميم: العظم البالي. وقال ابن سيدة (الرميم: الخَلِق البالي من كل شيء). والرمّ له معنيان متضادان فان الترميم يطلق ايضا على اصلاح الشيء بعد فساده. والحاصل أن هذه الريح لم تكن مجرد عاصفة قوية طبيعية تكسر وتُهشّم فان هذا امر طبيعي يحصل في كثير من البلدان ولا يعتبر آية خاصة بل كانت تفتت الأشياء فكأنها آثار باقية من القرون الماضية بينما لم تمر على خراب البلدة الا سويعات وهذا الامر هو الذي أكسبه عنوان آية خاصة تدل على ان الله تعالى عذب هذا القوم لطغيانهم.
قيل ان الشيء هنا وان كان يشمل الجبال والبحار والاودية ولكنها خارجة بدليل العقل لانها ليست مما تبلى وانما يبلى الانسان والشجر والبهائم. ولكن الظاهر ان الآية لا تقبل التخصيص وأن كل شيء أصابته هذا الريح تفتت وبلي. ولكن لم يكن هناك جبال ولا بحار في تلك المنطقة فبليت بيوتهم وقصورهم وقلاعهم واشجارهم واثاثهم واجسامهم وكأنهم ماتوا منذ قرون وتحول كل شيء الى رمل وتراب ولعل هذه الرمال الباقية في تلك المنطقة بتأثير هذا العذاب فانهم اهل الاحقاف اي كثبان الرمل.
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ... اي وللناس والعرب خاصة آية في قوم ثمود وهم ايضا من سكان المنطقة ورسولهم صالح عليه السلام وهو القائل لهم تمتعوا حتى حين والمراد بذلك ثلاثة ايام لقوله تعالى (فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)[6] والامر بالتمتع كناية عن الامهال والظاهر أن الله تعالى أمهلهم ثلاثة أيام لعلهم يعودون الى رشدهم ولعلهم رأوا في هذه الأيام آيات تدل على غضبه تعالى ولكنهم استمروا على عنادهم فاستحقوا العذاب.
ولكن جمعا من المفسرين استبعدوا أن يكون المراد بقوله تعالى (تمتعوا حتى حين) نفس الامهال المذكور في سورة هود بدعوى ما في الآية التالية من أنهم عتوا عن امر ربهم وهذا العتوّ انما كان قبل الامهال المذكور مع انه هنا ترتب عليه بالفاء فقالوا ان المراد بالحين آجالهم اي قيل لهم تمتّعوا بالحياة الدنيا الى الموت.
ولكن هذا غير صحيح لان الامر بالتمتع الى حين الموت امر عام للانسان من يوم هبوط آدم عليه السلام ولا علاقة له بهذا القوم خاصة ولا معنى لجعل هذا الظرف ظرفا لكون حالهم آية كما يستفاد من قوله (اذ قيل لهم..) ثم ان العتوّ كان قبل الامهال وبعده وامر ربهم ايضا كان قبله وبعده فكما عتوا عن امر ربهم قبل الامهال عتوا ايضا بعده والفاء لا تدل على حدوث العتوّ بعد الامهال بل على حدوث العتوّ بعد ارسال الرسول المفهوم من السياق.
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ... (عتوا) فعل ماض من العتوّ وهو ــ كما في المفردات ــ النبوّ عن الطاعة اي الترفع والاباء عنها وهذا التفسير أشمل مما ذكره غيره ويتضمن ايضا معنى الاستكبار والطغيان وان قيل انه اخف من الطغيان الذي هو بمعنى تجاوز الحد ويطلق العتوّ على كبر السن كما قال تعالى (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)[7] ولعله ايضا من هذا الباب لعدم طاعة المفاصل والاعضاء والقوى ولذلك قالوا ان العتيّ هنا بمعنى اليبس. ومهما كان فالمراد أنهم استكبروا وترفعوا عن اطاعة ربهم. والفاء ــ كما قلنا ــ تدل على أن هذا العناد استمر فيهم حتى بعد التهديد الذي اعلنه الرسول.
والكبر في الانسان أمر غريب فهو اذا وجد نفسه مستغنيا عن غيره من البشر يشمخ بانفه ويطغى على ربه وتجده يصرّح بأنه لا يبالي بعذاب الله سواء في الدنيا ام في الآخرة ونسمع كثيرا من البشر ممن حولنا اذا هاجت بهم العصبية او الغضب او النخوة او الشهوة يتلفظون بكلمات من هذا القبيل وهم ليسوا ممن ينكر وجود الله تعالى او ينكر الحشر والمعاد بل يخافون في قرارة انفسهم من سطوته وعذابه وهم من عذاب الدنيا أخوف وأشد حذرا وهذا ايضا من جهل الانسان وحمقه ومع ذلك فهو يتظاهر بالشجاعة والتهور وأنه لا يهتم بعذاب الله تعالى وهذا غاية الكبر والغباء.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ... الصاعقة ما له صوت شديد كالرعد وحيث انه يوجب الغشية او الهلاك يقال لمن اصيب انه صَعِق وقد يقلب فيقال صاقعة. وقد عبر عن عذابهم بالصيحة ايضا قال تعالى (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ..)[8] وهي ايضا الصوت الشديد وقوله وهم ينظرون لعله يدل على أنه كان نهارا وهم ايقاظ يشاهدون العذاب فيكون وقعه أشد عليهم وقيل انه بمعنى ينتظرون لعلمهم بأن ما أوعدوا محقق لا محالة فيدل على غاية شقائهم وبؤسهم نتيجة للكبر والطغيان.
فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ... الفاء للترتب اي مع كونهم ينظرون ما يحدث من البلاء لم يستطيعوا قياما و(من) زائدة تؤكد عدم تمكنهم من اي نوع من القيام ولو جزئيا والمراد قيامهم باي محاولة لصد العذاب ودفعه عن انفسهم ويمكن ان يكون المراد نفي القيام حقيقة اي سقط كل منهم حيث ما كان وكيف ما كان.
والآية تشير الى خطأ آخر يقع فيه الانسان الجاهل وهو مقاومة عذاب الله تعالى فهو يظن أنه كسائر الحوادث الكونية حيث يمكن تجنبها والفرار منها كما حدث لابن نوح عليه السلام قال تعالى (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ)[9] وقوله (وما كانوا منتصرين) اي ما كان بامكانهم ان يطلبوا المساعدة من أحد كما لا يمكن لاحد ان يساعد من نزل عليه عذاب الله تعالى.
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ... اي وأهلكنا قوم نوح قبل من ذكر من الاقوام والمراد التنبيه على أنهم سبقهم من كان يجب الاعتبار به فلم يعتبروا. والجملة التالية تعليل لاهلاكهم. والفسق هو الخروج عن الطاعة وهذا التعليل ينبه الانسان أن الفسق اذا تفشى في المجتمع فأصبح صفة القوم فانهم يستحقون العقاب الجماعي وعذاب الاستئصال الا أن له شروطا ومنها ما دلت عليه الآيات الكريمة من وجود رسول بينهم يدعوهم الى اطاعة الله ويتلو عليهم آياته واوامره ونواهيه. ولعل هناك شروطا اخرى.
والملفت في قصة قوم نوح عليه السلام أن الله تعالى أمهلهم مدة طويلة جدا لم يمهَل قوم مثلهم حيث لبث فيهم نوح الف سنة الا خمسين عاما كما قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).[10]
[1] الاسراء: 102
[2] فصلت: 51
[3] الشعراء: 34
[4] الشعراء: 27
[5] الشعراء: 63
[6] هود: 65
[7] مريم: 8
[8] هود: 67
[9] هود: 43
[10] العنكبوت: 14