وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ... السماء: جهة العلو. وفي المفردات سماء كل شيء اعلاه فتنطبق على الاجرام الفلكية التي نجدها فوقنا. والحُبُك جمع حَبيكة او حِباك وقد اختلفت كلمات اللغويين والمفسرين في معنى الكلمة فقيل انها بمعنى الطريقة اي ذات طرائق كالطرائق التي تحصل على الرمل او الماء بفعل الرياح والتي تحصل في خصائل الشعر ونحوها. ولكن ما هي طرائق السماء؟ قيل ان المراد بها النجوم لأنها تشبه الطرائق الموشّاة في الثوب فالتعبير يكون مجازيا. وقيل طرق النجوم حيث تسير في السماء. وعليه فهي طرائق وهمية وقيل طرائق المجرّة التي تبدو ليلا في قبة السماء. وقيل طرائق السحاب. وقيل ان تفسير الكلمة بالطرائق يتأيد بقوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ..)[1] وهو غير صحيح لان هذه الآية تعتبر السماوات طرائق والآية هنا بناءً على هذا المعنى تعتبر السماء ذات طرائق.
وروي عن ابن عباس انها بمعنى ذات الخَلق الحَسن. وعليه فلا بد من قراءة الكلمة مصدرا ولا يستقيم هذا على القراءة المشهورة فانها جمع بناءا عليها وهناك قراءات اخرى قال في الكشاف (وقرئ الحبك بوزن القفل. والحبك بوزن السلك. والحبك بوزن الجبل. والحبك بوزن البرق. والحبك بوزن النعم. والحبك بوزن الإبل). وقيل انها بمعنى الشدة والاستحكام ومنه الدرع المحبوك وحبكت الثوب اي احكمت نسيجه. وعليه ايضا تكون مصدرا.
وأما بناءا على القراءة المشهورة فهي جمع وكل ما قيل في تفسيرها حينئذ لا يغني شيئا ويمكن ان يكون المراد بها ترابط اجزائها مع بعض رباطا وثيقا فكأنها محبوكة بعضها ببعض اي منسوجة باستحكام. قال في العين (الحباك رباط الحضيرة بقصبات تعرض ثم تشدّ كما تحبك عروش الكرم بالحبال واحتبكت ازاري: شددته). فاذا قرئت الكلمة مصدرا كانت بمعنى نفس الترابط واذا قرئت جمعا فبمعنى كونها ذات أجزاء مترابطة اوذات رباطات وثيقة وان كانت لا ترى.
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ... هذه هي الجملة المقسم عليها و(في) للظرفية المجازية فحيث كان الناس مختلفين في الاقوال فكأن كلا منهم يعيش في قول مخالف لقول الآخرين. والظاهر أنها في سياق التأكيد على أن ما وعده الله صادق وأن الدين والجزاء واقع.
وعليه فيمكن ان يكون الخطاب لاهل مكة والمشركين كما قال المفسرون حيث كانوا ينكرون المعاد والجزاء والرسالة والمراد انهم لا يستقر لهم قول في شيء من الامور المتعلقة بالامور الغيبية فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تارة يقولون ساحر وتارة يقولون شاعر وتارة يرمونه بالجنون وتارة بالكهانة وتارة بالافتراء وعن القرآن ايضا تارة يصفونه بأنه سحر واخرى بأنه إلقاء الشياطين او شعر او تعليم بشر او اساطير الاولين واذا سئلوا عن خالق الكون والرازق ونحو ذلك يقولون الله تعالى ومع ذلك يقولون بربوبية الاصنام التي لا تعقل شيئا وعن الآخرة تارة يزعمون انه لا حياة بعد الموت وتارة يقولون ان الاصنام شفعاؤهم يوم القيامة وهكذا في سائر الشؤون.
ويمكن أن يكون المراد خصوص اختلافهم في يوم القيامة بقرينة ما قبله. ومناسبة القسم بالسماء لهذه الاقاويل المختلفة أن الله تعالى خلق السماء باستحكام ونظام مستقر وانتم لا يستقر لكم راي.
ويمكن ان يكون الخطاب للبشر والمراد الاشارة الى اختلاف البشر في أفكارهم وعقائدهم في الكون والحياة والشؤون الاجتماعية وما يجب وما لا يجب وما يجوز وما لا يجوز والعادات والتقاليد والسنن وغير ذلك.
والاختلاف ناشئ من طبيعة الانسان ولو دققنا النظر لم نجد شخصين يتفقان في جميع العقائد مهما تقاربا في العوامل الوراثية والاجتماعية وغير ذلك من المؤثرات في الفكر والعقيدة فالاختلاف جزء من نسيج الفكر البشري وهو امر غريب فالانسان بحكم كونه اجتماعيا يحاول ان يتقرب الى ابناء نوعه ومع ان الكل يحاول فهم الحقيقة على ما هي عليه والحقيقة واحدة لا تختلف ومع ذلك نجد هذا الاختلاف العظيم في جميع اصناف البشر وان كان يجمع كل مجموعة منهم دين او قانون اجتماعي او تقاليد عرفية ولكن سرعان ما تجد ابناء الدين الواحد يختلفون الى مذاهب شتى ويختلفون في كل مذهب الى مسالك متعددة بل لا تجد فردين من البشر يتفقان في كل ما يحاول البشر معرفته.
واذا قلنا بان معنى الحبك الطرائق فربما تشير الآية الى أن الاختلاف في البشر بعدد الافراد وكأن لكل فرد طريقه الخاص به كطرائق الرمل والماء التي تتكون بفعل الريح.
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ... الافك هو الصرف عن الحق الى الباطل فالظاهر أن الضمير في (عنه) يعود الى الحق المعلوم من قوله (مختلف) اذ الاختلاف يدل على أن هناك حقا يحاول الكل الوصول اليه فيصرف عنه من يصرف والابهام في قوله تعالى (من افك) يدل على أن معظم الناس مصروفون عن الحق نظير قوله تعالى (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)[2] حيث يدل على أن ما غشيهم أمر عظيم.
والتعبير المبني للمجهول من دون ذكر السبب يوحي بأن هناك موانع عديدة تمنع من وصول اكثر الناس الى معرفة الحق كما نجد هذه الموانع أمامنا في مختلف المجالات ولا ينافي ذلك اختيار الانسان ابتداءا في انتخاب طريق الهداية وان كان بعض الموانع المذكورة خارجة عن الاختيار كالعوامل الوراثية والبيئية والاجتماعية.
ويمكن ان تكون (عن) للتعليل كما في قوله تعالى (وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ..)[3] والضمير يعود الى الاختلاف اي يؤفك بسبب هذا الاختلاف قوم كثير. وبناءًا على كون الخطاب للمشركين خاصة يمكن أن يكون الضمير في (عنه) يعود الى الاعتقاد بيوم المعاد او بالقرآن كما مال اليه العلامة الطباطبائي رحمه الله. ومهما كان فالغرض من الجملة الاشارة الى أن قولهم هذا او اختلافهم سبب في ضلال جمع كثير من الناس فعليهم اثمهم واثم من يضلونهم كما قال تعالى (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ..).[4]
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ... الجملة في الاصل دعاء عليهم بالقتل والله تعالى لا يدعو على احد لانه تعالى هو المدعوّ وليس داعيا فدعاؤه تعالى على أحد بالقتل قد يكون كناية عن ايقاع اللعنة عليه وقد يكون بمعنى التنديد به وإبراز الغضب عليه، والدعاء بصورة عامة قد لا يقصد به الدعاء كالصلاة على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليهم السلام فان الناس غالبا لا يقصدون بها الدعاء بل لا ينتبهون الى كونها دعاءا وانما القصد منها إعلام الحب والولاء لهم ولذلك تعدّ الصلاة عليهم شعارا دينيا يدل على متابعة اهل البيت عليهم السلام.
ومثلها ايضا الدعاء للتعجيل في فرج مولانا صاحب العصر الامام المهدي المنتظر عليه السلام او لطول بقائه وصحته وسلامته فانا نعلم أن الله تعالى حافظه وناصره ونعلم أنه لا يعجل فرجه عن موعده الذي لا يعلمه الا هو سواء طلب الناس التعجيل او التأجيل فليست هذه الأدعية الا اظهارا للحب والولاء والمتابعة. كما أن اللعن على أعدائهم وأعداء الله والظالمين عامة قد لا يقصد به الا إظهار غاية الغضب منهم والبغض لهم.
وقيل في معنى الآية انه من الله تعالى قضاء عليهم بالقتل فالمعنى أنهم سيقتلون وهو خلاف الواقع اذ ليس مصير الخراصين كلهم القتل. والخرص هو الظن ومنه خرص ثمر النخل والشجر وليس معناه الكذب كما قيل لقوله تعالى (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)[5] وكذلك قوله تعالى (مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)[6] فيظهر من هذه الآيات ان الخرص هو المحاسبة على أساس الظن كما ان تخمين الثمر ايضا من هذا القبيل ولكنه هنا مذموم لانهم ينفون المعاد لا بالاستناد الى دليل علمي بل لمجرد الاستبعاد والظن والتخمين ولا يحق للانسان ان ينفي شيئا من دون علم.
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ... الغمر في الاصل الماء الكثير المُغرِق كما ذكره الخليل في العين ثم اطلق على كل ما يحيط بالشيء ومنه ما يحيط بالانسان ويغطيه ماديا كان او معنويا كغمرات الجهل والباطل واللهو والسكر وكذلك غمرة العطف والحب والحنان والنعمة يقال غمره بالحب والحنان او غمرته النعمة ونحو ذلك. والمراد هنا غمرة اللهو والاشتغال بالباطل الموجب للغفلة عن الخطر العظيم الذي أمامه. و(ساهون) بمعنى غافلون.
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ... جملة مستأنفة تبين سبب التنديد بهم في الآية السابقة وتبين ايضا وجه غفلتهم وسهوهم وذلك لان السؤال يدل على عدم اهتمامهم باصل الموضوع فيسألون عن الوقت مع أن هذا الامر الخطير يجب على كل عاقل الاهتمام به حتى لو كان محتملا باحتمال ضعيف ولا يهتم بموعده فالمهم أنه آت ولكنهم انما سألوا ذلك استبعادا وتهكما كقولهم (متى هذا الوعد ان كنتم صادقين).
و(أيّان) يسأل بها ــ على ما قالوا ــ عن الزمان والموعد. وفي تهذيب اللغة في باب (اين) ان (أيان) لا تكون الا استفهاما عن الوقت الذي لم يجئ. وقيل اصلها (أيّ أوان). وجملة (ايان يوم الدين) بيان للجملة السؤالية بتقدير يقولون..
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ... هذا جواب عن سؤالهم اي موعد يوم الدين يوم هم... ولكنه ليس جوابا مطابقا للسؤال فانهم سألوا عن الوقت والجواب جاء عما يحدث في ذلك اليوم والسبب انه لا يمكن تحديد الوقت فان الله تعالى اخفى الموعد عن كل احد والجواب يشتمل على تهكم في قبال استهزائهم حيث حدد الموعد بعذابهم.
والفتنة: الاحراق بالنار. ومن الملفت التعبير بانهم على النار يفتنون ولم يقل بالنار او في النار ولا يعبر في المعتاد عن حرق الانسان بالنار بانه على النار وانما يعبر بذلك في ما يشوى به عن قصد من لحم ونحوه ولعل الغرض منه الاشارة الى انهم يحرقون بها عن قصد ولو عبر بالباء لشمل ما لو احترقوا بها صدفة.
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ... المراد بالفتنة هنا النار نفسها. واضافتها اليهم اما بلحاظ انها اعدّت لهم او لانها من صنعهم فان الانسان يصنع النار والجنة بعمله كما ورد في الحديث وكما ورد التعبير في الكتاب العزيز عن عين الكافور بقوله تعالى (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)[7] فهي من صنع عباد الله.
وفي التفاسير أن هذه الجملة خطاب يوجه اليهم يوم القيامة تهكما ومزيدا من التبكيت والايلام ولكن لا يبعد كما قلنا مرارا ان هذه الاقوال المحكية عن حال ذلك اليوم ربما لا تكون حكاية عن خطابات واقعية بل هي بيان الحال وانما يوجه اليهم الخطاب هنا في الدنيا ليعلموا ما سيواجههم من العذاب في الآخرة.
والتعبير بانه هو ما كنتم في الدنيا تستعجلون وتطالبون به تهكم ايضا لانهم لم يطلبوا العذاب وانما استعجلوا بيوم القيامة كما قال تعالى (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[8] وحيث كان العذاب نهايتهم التي يصلون اليها فكأنها كانت هي المطلوبة والمقصودة نظير ما يقال (كالباحث عن حتفه بظلفه). وهذا الاستهزاء بهم في مقابل استهزائهم حيث قالوا (أيان يوم الدين).
[1] المؤمنون: 17
[2] طه: 78
[3] هود: 53
[4] العنكبوت: 13
[5] الانعام: 116/ يونس: 66
[6] الزخرف: 20
[7] الانسان: 6
[8] الملك: 25