مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ... من هنا يبدأ ذكر النعم التي منّ الله تعالى بها على عباده المتقين يوم القيامة ليقترن الترهيب بالترغيب وهذه سنة الله تعالى في كتابه الكريم. وتنكير الجنات والنعيم للتعظيم. والجنة: البستان الذي يستر شجره الارض مأخوذ من جنّ اي ستر. والنعيم: الخفض والدعة كما في العين. والخفض: لين العيش وسعته. والدعة: الراحة. وقال الراغب (النعيم: النعمة الكثيرة).

فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ... الفكاهة تأتي بمعنى التنعم والتعجب والمزاح. والفاكهة ما لذّ وطاب من الثمار. فقوله (فاكهين) اي متنعمين معجَبين بما آتاهم ربهم او انهم يتفكهون بذكر النعم. ولم يقل فاكهين بنعم الجنة بل بما آتاهم ربهم وهذا هو الموجب لتلذذهم حيث يشعرون بأنّ النعمة أتتهم من ربهم اي انها نتيجة تلك التربية حيث أتوا بالاعمال الصالحة.

وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ... عطف على الجملة السابقة فيكون ذكرا لنعمة اخرى وهو وقايتهم من العذاب وهو أعظم من النعم التي يتنعمون بها فان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة ويمكن ان تكون الجملة معطوفة على قوله (آتاهم) بناءا على أن (ما) مصدرية فهم فاكهون باتيان النعم والوقاية من العذاب. وتكرار كلمة (ربهم) للتأكيد على ما مرّ من أن النعمة أتتهم من ربهم ونتيجة لتربيتهم.

والتعبير بالوقاية من عذاب الجحيم ربما يفيد أنّ الجميع في معرض العذاب لولا وقاية الله تعالى وحفظه ولعله يستفاد ايضا من قوله تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)[1] والجحيم: النار شديدة التأجّج. والحاصل أن الآية تبين حال المؤمنين في تنعمهم وأنهم يتحدثون عن النعم فرحين بها والحديث عن النعم ايضا من التنعم.

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ... يقال ان هذا خطاب يخاطبون به هناك ليكون مزيدا من التنعم ولا شك ان مثل هذا الخطاب العلوي الصادر من الله تعالى او بأمره هو ألذّ النعم وأطيبها اطلاقا ولكن لا يبعد أن يكون هذا الامر أمرا تكوينيا يؤثر في إتاحة الفرصة لهم للاكل والشرب والتلذذ بكل ما هناك من نعم.

وقوله (هنيئا) صفة لمفعول مطلق مقدر اي كلوا واشربوا اكلا وشربا هنيئا او صفة للطعام والشراب اي كلوا طعاما هنيئا واشربوا شرابا هنيئا. والهنيء من الطعام والشراب ومن كل نعمة ما لا تتعقبه مشقة ولا وخامة كما في المفردات او ما يأتيك بلا مشقة كما في مقاييس اللغة او بالاحرى ما يجتمع فيه اللذة والطيب وعدم المؤاخذة والخوف فيكون هنيئا من كل الجوانب.

والطعام في الدنيا ليس هنيئا بهذا المعنى الا للجاهل المغفل لانه في الغالب يتعقبه اضرار جسمية وان جهلها الانسان حين الاكل فربما يهنأ به لجهله ولكن الغالب في هذا العصر يعلم به ويتوقعه واقل ما يقلقه السمنة وزيادة الوزن والتخمة فهذا المقدار امر طبيعي في غالب الاطعمة ويزيد في بعضها الخوف من ارتفاع الضغط وزيادة الكوليسترول والسكر وغير ذلك باختلاف الاشخاص. كما انه في الغالب يتعقبه التساؤل عن مصدره يوم القيامة وهذا جانب عظيم من القلق والخوف لدى المؤمن المتقي فهو لا يهنأ بالطعام في الدنيا الا اذا كان واثقا مطمئنا من حلية مصدره وهو في ما بأيدينا قليل الى غير ذلك مما يمنع الهناء في ملذات الدنيا ومنها تذكر ان في ما حولنا كثير من البشر محرومون من الطعام والشراب وخصوصا الاطفال والشيوخ والمرضى وهناك منهم من لا ينقصه مال ولكن الحرب والعدوان منعاه من الالتذاذ باقل ما يحتاجه الانسان.

ولكنه في الجنة هنيء بكل ما في الكلمة من معنى فهو لذيذ غاية اللذة والطيب وتستسيغه النفس والذوق ولا يخاف الانسان من عاقبته في جسمه بل هو لا يجد له فضولا يستوجب الافراغ ولا يخاف من التخمة او التسمم او اي ضرر ولا من الملاحقة والمساءلة وتعلق حق الغير فهو هنيء مريء من جميع الجهات الا ان هذا الطعام الهنيء المريء لا يحصل الا بالعمل في الدنيا وان كان كله تفضلا من الله تعالى الا ان الانسان لا يستحقه الا بالعمل الصالح.

مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ... وهذا ايضا تنعم آخر وهو الاجتماع الاخوي مع سائر المؤمنين ويبدو من الآية ونظائرها أن ذلك شأنهم بصورة مستمرة ولا يملّون ولا يسأمون وذلك لانه أتى بالوصف كحال لهم مما يدل على أن تلك حالتهم المستمرة. والاتكاء يدل على التنعم وانحسار الهموم. والسرر جمع سرير وهو موضع الجلوس والاصل في هذه المادة الاستقرار. و(مصفوفة) من الصف بمعنى تنظيم شيئين او اكثر في خط واحد وقد وردت الاشارة الى كيفية نظم السرر في آيات اخرى بانها متقابلة قال تعالى (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[2] وكذا في سورة الصافات والدخان والواقعة. والجلوس بالتقابل احسن كيفية لجلوس الاخوة والاحبة.

وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ... التزويج في الاصل بمعنى جعل شيء قرينا لمثله. والزوجان: المثلان المتقارنان. ويطلق الزواج على عقد النكاح باعتبار أنه يحقق الاقتران الشرعي بما يترتب عليه الحقوق من الطرفين ولكنه هنا يقصد به تحقيق الاقتران تكوينا.

والحور جمع حوراء وهي المرأة بها حَوَر. واختلف اللغويون في معناه قال الخليل في العين (انه شدة بياض العين وشدة سوادها ولا يقال امرأة حوراء الا لبيضاء مع حَوَرها). وقال الراغب قيل: انه ظهور قليل من البياض في العين من بين السواد قال وذلك نهاية الحسن في العين. وقيل ان الحَوَر هو البياض. وحوّرت الثياب اي بيضتها وعليه فالحور بمعنى النساء البيض وقيل غير ذلك. والعِين جمع عَيناء اي المرأة حسنة العين او ذات العين الواسعة.

وظاهر الآية وآيات اخرى كثيرة أن هذا من النعم الخاصة بالرجال المؤمنين وأن الله تعالى يقرنهم بهن وهن نساء خلقن في الجنة بصورة انسان ولسن من جنس البشر. ولكن حيث كان ذلك يحدث تساؤلا لدى كثير من الناس وخصوصا المؤمنات بأنه ما لهنّ في مقابل ذلك؟ لجأ المفسرون وغيرهم الى تأويلات شتى للتهرب من الاشكال. فقال بعضهم ان الحور العين كما هو جمع للحوراء العيناء كذلك يجمع به الاحور الاعين وهما صفتان في الرجل فلا يبعد ان يقرن هناك رجال بهذه الصفة بالمؤمنات ايضا. وهذا صحيح من حيث اللفظ في هذه الآية الا أن هناك آيات اخرى لا تقبل الانطباق على الرجال كقوله تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)[3] وقوله (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا)[4] وقوله تعالى (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا)[5] وغير ذلك وهذه كلها صفات انثوية.

وقال بعضهم ان التزويج بمعنى الاقتران وليس بمعنى الزواج الشرعي المقتضي للمناكحة وعليه فلا يختص بالرجال المؤمنين. وهذا ايضا لا بأس به في حد ذاته الا انه لا يرفع الاشكال من الاساس كما هو واضح فهناك فرق بين الاقترانين. وقال بعضهم انه لا يبعد وجود مثل ذلك للمؤمنات ولكن الله تعالى لم يذكره لقبح ان يصرح به للمؤمنات في هذه الدنيا. ولكن لعل منشأ القبح هو غيرة الرجال فيأتي السؤال عن عدم الاهتمام بغيرة النساء المؤمنات.

والواقع أن الانسان لا يعلم ماذا يحدث هناك فالآيات تصرح كما سيأتي بأن الله تعالى يلحق بالمؤمنين من صلح من ازواجهم وهذا يشمل الرجل والمرأة فربما يلحق بالمرأة الصالحة زوجه ان صلح لدخول الجنة وكذلك العكس ولو كان الامر كما يحبه الرجال والنساء في هذه الحياة الدنيا فهناك مواضع للتساؤل حيث ان الازواج هنا ليسوا على شاكلة واحدة فقد يكون احدهما من اهل النار، وقد لا يكون المؤمن او المؤمنة متزوجين، وقد يكون كل منهما متعدد الازواج وربما يكونوا صالحين باجمعهم فمن يلحق بمن؟ وكيف يجمع الله تعالى هذه الشتات؟ وكيف يرضي هذه الرغبات؟ وهل هذه الغيرة في الرجال والنساء تبقى هناك على حالها ام تزول؟

والذي يهوّن الخطب أمور ثلاثة:

الاول: أن الله تعالى وعد المؤمنين ــ والعنوان يشمل المؤمنات ــ بأن لهم في الجنة ما يشاءون وأن لهم ما تشتهي أنفسهم فاذا كان هنالك تمييز بين الرجال والنساء او بين طبقات المؤمنين لاختلاف درجاتهم في الايمان والعمل الصالح فلعله لا يوجب تمنيا من غيرهم واشتهاءا لما ليس لديه والا لعمّ الاشكال وتوسع والامر كله لله تعالى وهو الفاعل لما يشاء والقلوب كلها بيده يقلبها كيفما يشاء.

الثاني: أن الانسان يتطور ويتكامل وتتغير تمنياته وآماله وأهواؤه حتى في هذه الحياة الضيقة فهو في طفولته يطلب امورا لا يطلبها في الشباب وفي شبابه يطلب ما لا يطلبه في الشيخوخة وكلما تقدم به العمر تغيرت طلباته بل كلما تطورت ثقافته وتوسع علمه وتكاملت نفسه تغير ما يطلبه فكيف به اذا انتقل الى عالم آخر يختلف عما نحن فيه في كل شؤونه. ومن وصل في هذه الدنيا الى معرفة ربه فانه تتغير طلباته سواء في الدنيا او في الآخرة.

انظر الى امراة فرعون ما الذي تطلبه من ربها (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ)[6] فهي لا تطلب القصور ولا الجنان ولا الزواج باي انسان حتى بالانبياء المقربين وانما تطلب ان يكون لها بيت عند ربها مهما كانت صفته.. يالها من معرفة وكمال!! ولذلك ورد في الحديث انها من النساء الكاملات. فاذا كمل الانسان المؤمن هناك وهو يكمل لا محالة فانه لا يطلب الا اعلى الرتب والمقامات لدى الله تعالى.

الثالث : أنه لا يبعد أن يكون ما يذكر من نعم الجنة تقريبا للذهن بما هو مأنوس للانسان ويكون الواقع مختلفا عن ما يحكي عنه اللفظ بحسب فهمنا فهناك حقائق في الكون لا يمكننا معرفتها ولا التعبير عنها وليس هناك في الثقافة البشرية شبيه لها ولا ما يعبر عنها فالعرف العام لا يمكنه تصور هذه الحقائق الا بنحو من التقريب بما يتناسب مع ذهنياته المألوفة. وقد ذكرنا مرارا أن هناك مواضع في القرآن الكريم تتبين لنا منها بالتأمل أن الامر ليس كما نتصوره فالنار هناك ليس كالنار هنا والطعام والشراب ليسا كالمألوف من الطعام والشراب.

ومن باب المثال نلاحظ سورة الرحمن حيث انه يذكر في الجنتين اللتين وعد بهما من يخاف مقام ربه وهذا يختلف عن الخوف من عذابه أن لهم فيهما من كل فاكهة زوجين وأن فيهما عينين تجريان ووصف الجنتين بانهما ذواتا أفنان ولكنه في الجنتين اللتين دونهما وصفهما بانهما مدهامّتان وعيناهما نضاختان وفيهما فاكهة ونخل ورمان فالفارق كبير ولكن يبعد جدا أن الله تعالى لا يعطي بعض اهل الجنة من كل الثمرات وهو اعطاها لاهل الارض حتى الكفار منهم فكيف يمنع اهل الجنة منها الا النخل والرمان وشيء من الفاكهة؟! كما ان جريان العين ليس بدعا من النعم ليمنع منه بعض اهل الجنة وتبقى عينهم تنضخ بمعنى انها تفور من دون ان تجري ومثل ذلك يلاحظ في سورة الواقعة والمطففين والانسان وغيرها.

والحاصل ان ملاحظة هذا الامر والتأمل فيه يكشف بوضوح أن الامر اكبر بكثير مما نفهمه من ظاهر اللفظ.   

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ... هذه من الآيات التي تدل على الشفاعة وأن الله تعالى يدخل بعض الناس الجنة اكراما لقوم صالحين مقربين لديه ومعنى الآية واضح وهو أنّ الذرية اذا اتّبعوا آباءهم الصالحين وكانوا مؤمنين ايضا يلحقهم الله تعالى بهم. والمستفاد من الآية أن لالحاقهم بالآباء الصالحين شرطين احدهما متابعة الآباء ولم يبين مورد المتابعة وحدودها والآخر الايمان وجاء به نكرة مما يقتضي كفاية اي مرتبة منه والباء للمصاحبة.

وليس المراد مجرد الجمع بينهم بمعنى أن الفريقين يستحقان الجنة الا أنهم ربما يكونون في مواضع متفرقة فيجمع الله بينهم بل المراد أن الله تعالى يدخل الابناء الجنة مع أنهم لا يستحقونها بأعمالهم وان كانوا مؤمنين. ولو كان المراد مجرد الجمع بينهما اكمالا للنعمة عليهما ــ كما يقال ــ لم يكن وجه لقوله تعالى (وما ألتناهم من عملهم) فانه لدفع توهم أن الالحاق ربما يتم على حساب النقص من اعمال الآباء فلو كانوا يستحقون الجنة باعمالهم لم يكن وجه لهذا التوهم ولم تكن حاجة لدفعه.

والحاصل أن المراد بالالحاق هو إدخالهم الجنة مع انهم لا يستحقونها إكراما للآباء وهذا لا يتم الا اذا كان الآباء مقربين لدى الله تعالى والابناء لم يكن عليهم تبعات شديدة من الاعمال الفاسدة التي قد لا يغفرها الله تعالى كقتل المؤمن ظلما وعمدا او الفساد في الارض او نشر العقائد الفاسدة او اضلال الناس والتشكيك في العقائد الحقة فلا يغرّنّ بعض الناس أنهم من ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأن الله تعالى بمقتضى هذه الآية يدخلهم الجنة مهما أفسدوا في الارض وأباحوا دماء المسلمين واستباحوا الاعراض وهتكوا الستور ونشروا العقائد الباطلة الى غير ذلك من المنكرات.

والدليل على ما ذكرناه قوله تعالى (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ..)[7] وقوله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ..)[8] فهناك شرط لقبول الشفاعة وهو صلوح الانسان لدخول الجنة ولا يصلح لها كل شخص وان ادّعى الايمان بل لا بد من ان يكون صالحا وانما يحتاج الى الشفاعة لنقص في ايمانه او في اعماله او في الامرين معا ويلاحظ أن الله تعالى أبهم هذا الصلوح ولم يبين المناط فيه لئلا يتوهم الفاسدون أنهم يدخلون الجنة بصلاح الآباء او الأبناء او الازواج كما أنه في هذه الآية ايضا أبهم المتابعة فلا بد من كونه مؤمنا من دون تحديد لدرجة ايمانه ولكن الشرط الآخر وهو المتابعة مبهم.

وقد وقع الكلام في أن الآية هل تشمل كل الاولاد حتى من مات قبل التكليف او خاص بالمكلفين بقرينة اشتراط الايمان كما اختاره العلامة الطباطبائي قدس سره. ولكن هذا الشرط لا يستوجب الاختصاص بالمكلف فان الايمان قد يصدق قبل التكليف ايضا مضافا الى أن هذا البحث لا اثر له فان من مات قبل التكليف يدخل الجنة بنفسه من دون الحاق. وأغرب من ذلك من خص الآية بالصغار فانه لا وجه حينئذ لاشتراط الايمان بل ليس ذلك مطلوبا منهم مضافا الى أن الالحاق لا يختص بالذرية حسب سورتي الرعد وغافر.

وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ... اي ما نقصناهم وهو من باب الافعال من لات يليت أي نقص او مجرد من ألت يألت ومثله قوله تعالى (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا..)[9] والمراد أنه تعالى يلحق الاولاد بالآباء من دون أن ينقص من عمل الآباء شيئا.

ثم علل ذلك بقوله تعالى (كل امرئ بما كسب رهين) والرهن في الاصل هو ايثاق الدين بوثيقة تودع في الغالب عند الدائن ليطمئن بتمكنه من تحصيل ماله ومعنى الايثاق هو الربط فكأنه يربط هذا الدين بما رهنه عنده ربطا وثيقا لا ينفكان عن بعض حتى يسدد الدين فلا يمكنه ان يبيع او يهب او يتلف او ينقله عن ملكه باي نحو كان وحيث ان هذا يستوجب ثبات الشيء المرهون محبوسا اطلق الرهن على الثبات كما في معجم المقاييس والا فالاصل فيه هو الربط والايثاق. وهذا هو المراد هنا اي انه موثوق ومربوط بعمله لا يتركه وليس معناه انه محبوس بعمله فان المؤمن في الجنة ليس محبوسا.

والظاهر أن المراد به بيان قانون عام يشمل الآباء والابناء وليس خاصا بهم فالعمل لا ينفك عن الانسان اينما كان والنتيجة ان الالحاق لا يمكن ان يوجب سلب العمل عن الآباء ودرجه ضمن اعمال الابناء فكل انسان موثوق ومربوط بعمله لا ينفك عنه. وهذا يدل على أمر آخر من خصائص الجنة واهلها وهو أن اجتماعهم في جنة واحدة واتكاءهم على سرر متقابلين لا يستوجب اتحادهم في الثواب والدرجة فليس الثواب هناك ــ كما مر ــ بالفواكه واللحم والشراب بل هو امر أهم واعظم ولكل انسان ثوابه ومقامه حسب عمله وهذا معنى ايثاقه بعمله وليس بمعنى الحبس كما يتوهم.

وربما يتوهم التنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ)[10] حيث استثني اصحاب اليمين من هذا الرهن مع ان مورده هنا هم اهل الجنة خاصة.

والجواب ان الموردين يختلفان فالآية هنا تبين ربط المؤمن الصالح بعمله الصالح ليتحدد به ثوابه ومقامه ولدفع توهم ان عمله ينقص اذا اُلحق به احد وفي سورة المدثر ينفي ربط المؤمن بالعمل الفاسد الذي تاب منه وغفره الله له وكفّر عنه وستره عن الناس بحيث لم يبق له اي اثر حتى انهم يتقابلون على السرر ولا يتذكرون ما رأوه من صاحبهم المؤمن التائب الذي غفر له والا لاحتقروه لاعماله المشينة التي عرفوه بذلك. وللكلام تتمة ستأتي ان شاء الله تعالى في تفسير سورة المدثر.

وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ... المدّ ــ كما في العين ــ الجذب وفي معجم المقاييس جرّ شيء في طول. ورجل مديد الجسم اي طويل فالمد والامداد ايصال ما به يبقى الشيء على حاله من خير وشر قال تعالى (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)[11] ومنه إمداد الجيش اي ارسال المدد اليهم من جند وسلاح وعتاد. وقيل: ان الامداد يأتي غالبا في الخير والمد في الشر كقوله تعالى (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا)[12] ولا دليل عليه. والحاصل في معنى الآية أن الله تعالى يرزقهم باستمرار من الفاكهة واللحم بجميع انواعهما و(من) في قوله (ممّا يشتهون) بيانية والمراد انه ليس فيهما اي تحديد من حيث النوع والكمية انما يتبع اشتهاءهم.

يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ... النزع قلع الشيء والتنازع محاولة كل من الطرفين قلع شيء من الآخر واخذه بعنف وقال المفسرون ان التنازع وان كان في الاصل بمعنى المجاذبة ولذلك يعبر به عن المخاصمة الا أنه هنا وبقرينة ذكر الكأس يراد به المجاذبة بلطف كما يفعله الاصدقاء حين الشرب والمنادمة وهذا تعبير عن تلاطفهم مع بعض واجتماعهم في مجالس الانس.

والكأس يطلق على الاناء الخاص للشرب ولا يطلق حتى يكون فيه الخمر فهم يتجاذبون كأس الخمر ولكنه ليس كخمر الدنيا يزيل العقل ويستتبع الحديث الباطل والمشاتمة والاثم بل هو شراب طهور لا لغو فيه ولا تأثيم. واللغو هو الكلام الباطل. والتأثيم ان يقول بعضهم لبعض (أثمت) كما في الصحاح. والكأس كالخمر يذكر ويؤنث.

ولكني أظن ــ والله العالم ــ أن التنازع بمعناه الحقيقي فأهل الجنة مع أنهم لا يتنازعون ولا يتخاصمون في اي موضع وقد نزعت الاغلال من صدورهم فليس هناك طلب للعلو ولا حسد ولا محاولة للاستئثار بالخيرات وامثال ذلك مما يبتلى بها البشر في الحياة الدنيا ويستوجب المشاحنات بل الحروب ولكنهم في هذا المقام خاصة يتنازعون وليس ذلك بمعنى المخاصمة بل يحاول كل أحد منهم ان يترشف من هذا الشراب الطهور قبل غيره او اكثر من غيره ولكن هذه المجاذبة لا يتخللها كلام باطل ولا ظلم واثم.

والسر في هذا التنازع ان هذا الشراب ليس كسائر نعم الجنة بل هو أمر خاص ولذلك عبر عنه تعالى بقوله (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)[13] ولم يقل وآتاهم او ما يفيد هذا المعنى وان كان هذا السقي واردا في العباد المقربين وهم من نزل فيهم سورة هل أتى سلام الله عليهم الا انه لا يبعد ان يكون فيه بالنسبة للآخرين ايضا ميزة على سائر النعم بالقرب لدى الله تعالى مما يسلب عن اهل الجنة وقارهم فيتنازعون عليها بل يسلب العقل ايضا ولكن لا كسلب الخمر في الدنيا بحيث يستتبع لغوا وتأثيما بل بحيث يذوبون في حبّ ربهم فلا يريدون غيره ولعل هذا هو الوجه في تسميته خمرا.

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ... هذا من تمام الكلام في تداول الخمر فيما بينهم والمراد ان هذا الخمر يطوف بها عليهم الغلمان كما قال تعالى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ)[14] وقال ايضا (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا)[15] فان قوله (ويطوف عليهم) متمم لقوله (ويطاف عليهم) وحيث انهم يسقون كأسا والكأس لا يطلق الا للاناء الذي فيه خمر فالولدان يطوفون عليهم بالخمر وهم الغلمان هنا. وهو جمع غلام اي الانسان الذكر في اول بلوغه وقد نبت شاربه واصله من الغلمة اي الشهوة واطلق عليه لان الشبق بيّن عليه.

والمراد بطوافهم أنهم يدورون عليهم بالسقي في مجالسهم وهم على سرر متقابلين اما باعتبار ان مجالسهم دائرية او باعتبار أنهم اذا انتهوا من سقي الجميع يعودون الى السقي فيكون طوافا وادارة عليهم والقصد منهم انهم لا يملّون من هذا الشرب لانهم لا يصّدّعون عنها ولا ينزفون ولانه شراب طهور يقرّبهم الى الله تعالى وشبّه الغلمان باللؤلؤ وهو الدرّ المأخوذ من الصدف وذلك لصباحتهم ونظافتهم وبياض وجوههم. والمكنون اي المستور اما بلحاظ انه بعد في الصدف لم يخرج منه فيكون اكثر صفاءا او بلحاظ انه قيّم جدا فيحتفظ به في ستر. وقوله (لهم) يدل على أن الغلمان ملك لهم يتبعونهم ويخدمونهم.

وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ... مشهد آخر من تنعمهم في تجمعهم حول بعض حيث يتذاكرون نعمة الله عليهم وقوله (يتساءلون) جملة حالية اي اقبل بعضهم على بعض وهم يتساءلون. والتساؤل تفاعل من السؤال اي كل منهم يسأل الآخر. ولم يذكر متعلق السؤال ولكن الذي يظهر من الآيات التالية انها جواب عن ذلك السؤال فالظاهر انهم يسالون عن السبب في نجاتهم من النار ووصولهم الى هذه النعمة.

قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ... الظاهر انه جواب عن السؤال السابق والمعنى أن سبب نجاتهم هو كونهم في الدنيا وبين اهلهم مشفقين خائفين من الآخرة وما ينتظرهم من محاسبة الاعمال. والاشفاق يفسر عادة بالخوف ولكن في فروق اللغة انه ضرب من الرقة وضعف القلب ينال الانسان واستدل على ذلك بقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ)[16] اذ لا يصح ان يقال انهم من خوف ربهم خائفون.

وقوله (في اهلنا) لعل المراد به انهم كانوا يخافون في موضع الأمن حيث كانوا بين اهليهم والناس عادة يشعرون بالاطمئنان ان كانوا بين الاهل ولكن المتقين يشعرون بالغربة وهم بين الاهل لان قلوبهم متعلقة بربهم وهم يخافون ان يصدر منهم ما لا يرضيه تعالى فهم يحذرون الآخرة ولا تهمهم شؤون الدنيا وليس اشفاقهم من عوارضها وحوادثها.

فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ... المنّ هو النعمة العظيمة والفاء يدل على أن هذه النعمة مترتبة على الخوف من الله تعالى وعذابه ومحاسبته. والوقاية: الحفظ. واضافة العذاب الى السموم بيانية اي العذاب الذي هو السموم. والسموم صفة مشبهة من السم واصله بمعنى الثقب الصغير كما قال تعالى (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)[17] ويقال للمادة القاتلة سمّ لانه ينفذ في مسام الجسم ولذلك ايضا يعبّر به عن الريح الحارة الجافّة والمراد به هنا نار جهنم سميت به لان حرارتها تنفذ من مسامّ الجسم وتحرق الباطن كما قيل او لانها تنفذ في الارواح كما قال تعالى (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ).[18]

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ... الظاهر أنه اكمال للتعليل السابق ومعناه ان الاشفاق والخوف بنفسه لا يكفي للنجاة من النار بل لا بد من الدعاء والتضرع الى الله وقد قال تعالى (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ..)[19] ولم يذكروا للدعاء متعلقا ومعناه أنهم كانوا يدعونه تعالى لكل شيء ويستفاد من الآية انهم ما كانوا يدعون غيره وأن هذه هي ميزتهم فهم لا يتوجهون الا اليه ولا يطلبون حاجتهم الا منه ولا يأملون الخير الا عن طريقه وان طلبوا من غيره شيئا فانما يعتبرونه منفذا لما اراده الله تعالى ووسيطا بامره ولا يعتقدون لشيء الاستقلال في القدرة والعمل.

وقوله (من قبل) اي في الدنيا وهذا تنبيه على أن الدعاء في تلك الحياة لا ينفع شيئا لمن لم يدع في الدنيا واما من كان يدعو فيها فلعله يفيده هناك ايضا كما قال تعالى (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[20]

وعللوا اختصاص الدعاء به تعالى بأنه هو البر الرحيم والبَرّ صفة مشبّهة من البِرّ وقد اختلفت كلمات اللغويين في تفسيره ولم اجد فيها ما تطمئن اليه النفس فقد فسر بالصدق والطاعة والاحسان والصلاح وخلاف العقوق ونحوذلك وفي موارد استعماله ما لا يناسبه شيء من ذلك كقولهم حج مبرور اي مقبول ولعله من الصدق بمعنى أن يكون الحاجّ صادقا في تعهده والتزامه بترك محرمات الاحرام. والبَرّ من صفات الله تعالى وقد فسر بالعطف والاحسان.

والرحيم صفة مشبّهة من الرحمة. وهذه الصيغة تدل على الثبوت كما أن صيغة الرحمن تدل على الشمول ولذلك يقال ان مقتضى رحمانيته تعالى عموم الرحمة وشموله للمؤمن والكافر في الدنيا ومقتضى رحيميته اختصاص رحمته الثابتة للمؤمنين في الآخرة قال تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ).[21] والمراد بالكتابة الثبوت والاستقرار.

 


[1] مريم: 71- 72

[2] الحجر: 47

[3] الرحمن: 56

[4] الواقعة: 36- 37

[5] النبأ: 33

[6] التحريم: 11

[7] غافر: 8

[8] الرعد: 23

[9] الحجرات: 14

[10] المدثر: 38- 39

[11] لقمان: 27

[12] مريم: 79

[13] الانسان: 21

[14] الواقعة: 17- 18

[15] الانسان: 15- 19

[16] المؤمنون: 57

[17] الاعراف: 40

[18] الهمزة: 6- 7

[19] الفرقان: 77

[20] التحريم: 8

[21] الاعراف: 156