مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

سورة الواقعة تتعرض لردّ تكذيب المشركين للمعاد ولتصنيف الناس يوم القيامة وتختتم بالتأكيد على سلامة القرآن الكريم من دسّ الشياطين وتأثيرهم في آياتها كما زعم المشركون. وسيأتي التنبيه على ما يدل على أن الغرض الاساس منها هو تصنيف الناس الى ثلاث طوائف والتأكيد على الفرق بين المقربين وسائر اصحاب الجنة. وهي مكية بشهادة سياق آياتها وقيل في بعض آياتها أنها نزلت في المدينة او في بعض الاسفار والاحاديث الواردة في ذلك غير صحيحة عندنا وسيأتي الكلام حول بعضها في تفسير قوله تعالى (وتجعلون رزقكم انكم تكذبون).

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ... الواقعة اي الحادثة العظيمة التي حدثت من قبل واطلقت على يوم القيامة باعتبار أن وقوعها حتمي فكأنها وقعت فالمعنى اذا وقع الامر الذي لابد من وقوعه. و(اذا) ظرف زمان يتضمن معنى الشرط. والجزاء محذوف اي اذا وقعت الواقعة سيحدث ما لا يكون بالحسبان. ويمكن ان يقدر الجواب مما يأتي من ذكر تصنيف الناس يوم القيامة كأنه قال اذا وقعت الواقعة كان الناس اصنافا ثلاثة: فاصحاب الميمنة.. ويمكن ان يكون الظرف متعلقا بـقوله (اذكر) مقدرا.

لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ... الوقعة حدوث الامر العظيم وكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية اي ليس لوقعتها كذب في الوعد بل هو وعد صادق حتمي يقال صدق وعده اي أنجزه فهذا بمنزلة قوله تعالى (وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ).[1] وقيل ان (كاذبة) صفة لمحذوف اي نفس كاذبة وأن اللام للظرفية اي حين وقوعها لا يكذّب بها أحد. وقيل ان (اذا) متعلق بـ (ليس) اي اذا وقعت فلا يكذّب بها أحد. وكلاهما باطلان اذ أن كل واقعة مشهودة لا يكذّب بها أحد.

خافِضَةٌ رافِعَةٌ... خبران لضمير مقدر اي هي خافضة رافعة تخفض أقواما كانوا يعدّون من عِلْيَة قومهم وترفع أناسا كانوا يعدّون في الدنيا من الطبقة السفلى. ويحتمل أن يكون كناية عن قلب النظام الكوني رأسا على عقب.

إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا... ظرفية اخرى تتضمن معنى الشرط. وجوابها محذوف ايضا كسابقتها. والرجّ: التحريك الشديد والمراد به الزلزال كما قال تعالى (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا).[2] والمفعول المطلق للتأكيد على عظمة الرجّة والاضطراب اي رجّا عظيما كما أن قوله (زلزالها) ايضا يفيد نفس المعنى اي ذلك الزلزال المهيب.

وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا * فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا... عطف على (رُجّت الارض) والبسّ له معنيان ــ وكلاهما يناسب المقام ــ أحدهما: الدكّ والتفتيت، والآخر: السوق والتسيير. وقد ورد في الكتاب العزيز آيات تذكر النسف والدكّ كقوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا)[3] وقوله تعالى (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ)[4] وقوله (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَة)[5] كما ورد التسيير في عدة آيات قال تعالى (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً..)[6] وقال ايضا (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا)[7] وقال تعالى (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ)[8] وربما يقال ان التسيير مقدّمة للدكّ والانهيار.

وقوله (كانت) هنا بمعنى صارت. والهباء: الغبار الدقيق. والمنبثّ: المتفرق. قال في العين ( الهباء المنبث: ما يظهر في الكوى من ضوء الشمس). والكوى جمع كوّة بفتح الكاف وضمه النقب في الحائط ونحوه يدخل منه النور في الحجرة. ومثلها قوله تعالى (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا)[9] اي الرمل المنثور وقوله تعالى (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)[10] اي الصوف المتطاير في الجو.

والمعروف في التفاسير أن هذه الآيات تشير الى زوال هذا النظام الكوني وإقامة نظام جديد كما قال تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)[11] وعلى هذا الاحتمال فالتعرض لزوال الجبال للتهويل فان الانسان العادي تعجبه عظمة الجبال وشموخها ولذلك كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عما يحدث لها يوم القيامة كما مر في ايات سورة طه من قوله (ويسالونك عن الجبال..) والا فالامر أكبر من ذلك بكثير بل لا يعدّ انهدام الارض بكاملها شيئا امام ما يحدث في ذلك اليوم.

ولكن الظاهر أن الآيات تشير الى حقيقة اخرى من حقائق يوم القيامة لا من الامور التي تحدث قبلها كزوال الارض والسماء وهذه الحقيقة هي ما أشار اليه تعالى بقوله (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)[12] فقوله (يومئذ يتبعون الداعي..) يدل على ان ذلك يحدث يوم قيام الناس وحشرهم لا يوم زوال الكون وتبدله.

فالظاهر ان المراد بنسف الجبال وتسييرها ودَكّها وجعل الارض قاعا صفصفا ليس فيها تعاريج ولا انخفاض وارتفاع ونحو ذلك من التعابير هو الاشارة الى أن الانسان ليس له مهرب يوم القيامة ولا ملجأ يأوي اليه او يختبئ فيه وأن كل حقائق اعماله وافكاره واقواله واضحة بينة للجميع فلا يمنّي الانسان نفسه جهلا وحمقا بانه يتمكن من الاختفاء واللجوء الى الجبال كما يفعل ذلك في مواجهة حوادث الدنيا مع انه هنا ايضا لا يمكنه الفرار من عذاب الله كما قال نوح عليه السلام في جواب ابنه وذلك في قوله تعالى (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ..)[13] وهناك من البشر من يتوهم انه حتى لو قامت القيامة فمن الممكن ان يبحث الانسان عن طريق للفرار ولعله السبب في سؤال المشركين عن الجبال ومصيرها في قوله تعالى (ويسالونك عن الجبال).  

وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً... اي وصرتم.. فإن البشر قبل ذلك لا يظهر عليهم هذا الانقسام وانما يحدث ذلك يوم القيامة فربّ انسان يعتبره عامة الناس في هذه الدنيا وليا من اولياء الله تعالى او صدّيقا او مؤمنا او مسلما على الاقل ثم يتبين يوم تبلى السرائر أنه من ألدّ أعداء الله كما أنه يمكن العكس ايضا. والازواج: الامثال المتقارنة فالبشر في ذلك اليوم ثلاثة أصناف.

 


[1] الحج: 47

[2] الزلزلة: 1

[3] طه: 105- 106

[4] المرسلات: 10

[5] الحاقة: 14

[6] الكهف: 47

[7] الطور: 10

[8] التكوير: 3

[9] المزمل: 14

[10] القارعة: 5

[11] ابراهيم: 48

[12] طه: 105- 108

[13] هود: 43