مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ... قوله (ما اصحاب اليمين) خبر و(ما) بناءا على المشهور للاستفهام المفيد للتعجيب والتفخيم. ولكنا ذكرنا في تفسير قوله تعالى (فاصحاب الميمنة ما اصحاب الميمنة) أن الاستفهام امر يفرضه الحال ويعبّر عن حال المستمع والقارئ ولا يفيد تعجيبا ولا تفخيما وما ورد هنا ايضا تكرار لذلك الاستفهام مقدمة لذكر الجواب. وهؤلاء هم أصحاب الميمنة الذين مر ذكرهم في عدّ الاصناف الثلاثة من البشر. واليمين مما كانت العرب تتيمن به كما كانوا يتشاءمون من الشمال وذلك في ما اذا مر طائر عن يمينهم او شمالهم. ويمكن أن يكون اشارة الى من يؤتى كتابه بيمينه. وهو ايضا تعبير عن كون مصيرهم الى الخير كما أن التعبير بايتاء الكتاب بالشمال كناية عن أن أعمالهم المسجلة في كتابهم تنتهي بهم الى الشؤم والشر ولا يراد بمثل هذه التعابير معانيها الظاهرة.

فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ... خبر لمبتدأ مقدر اي هم في سدر.. ويبدأ السياق بذكر ما يتنعمون به وهو بالنسبة الى ما سبق من نعم المقربين منزلة دانية جدا و ــ على ما قيل ــ فيه شيء من البداوة والبساطة وقد مر في تفسير سورة الرحمن أن الغرض بيان الفرق بين المقامين والمنزلتين لدى الله سبحانه وأن هذا يشير الى أن نوع النعم هناك ليس كما نتوهم وانما يعبّر بها عن تلك النعم التي لا نتصورها لضيق التعبير وضيق الفهم لدينا. والسدر شجرة النبق. والخضد ــ كما في العين ــ نزع الشوك عن الشجر والمعنى أن جنتهم مليئة بشجر السدر يستظلون بها ولكن ليس لها أشواك كما في الدنيا. وكونهم في الشجر بمعنى انهم في مكان فيه هذا الشجر.

وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ... الطلح ــ كما في العين ــ شجر أم غيلان شوكه أحجن من أعظم العِضاه شوكا وأصلبه عودا وأجوده صمغا. (أحجن) اي أعوج. و(العضاه) جمع عِضاهة اي الشجر الذي له شوك. والنَّضْد جعل الشيء بعضه على بعض قال تعالى (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ)[1] حيث ركبت الحبات في طلع النخل بعضها فوق بعض بطريقة منتظمة ولعل النضد في هذا الشجر في اغصانه او نَوره حيث يقال ان له نَورا طيب الرائحة.

ومهما كان فقد وقع المفسرون في مشكلة لتأويل هاتين الآيتين حيث لا يتوقع أن تكون شجر الجنة من هذا القبيل وهناك محاولات للتأويل.

فمنها ما رواه بعضهم من أن المسلمين نظروا إلى (وَجّ) وهو واد مُخصِب بالطائف فأعجبهم سدره وقالوا يا ليت لنا مثل هذا فنزلت الآية. ومثل ذلك روي عن مجاهد في الطلح والسدر ففي روح المعاني: أخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد قال: كانوا يعجبون بوَجّ وظلاله من طلحه وسدره فأنزل اللّه تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُود....

وهذا كلام غريب وهل شجر الجنة وتحديد نوعه يتبع اعجاب جمع من المؤمنين في عصر من الاعصار؟!

ومنها ما قاله كثير منهم من أن الطلح شجر الموز وروي ذلك عن امير المؤمنين عليه السلام وعن ابن عباس وغيرهما ولكن أنكر ذلك بعض اللغويين قال ابن سِيدة في المحكم والمحيط الاعظم (وقوله تعالى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فُسِّرَ بأَنه الطَّلْعُ وفُسِّرَ بأَنه المَوْزُ. وهذا غير معروف في اللغة).

ومنها ما في مجمع البيان عن الحسن البصري أن الطلح ليس بالموز ولكنه شجر له ظل بارد رطب ثم قال: وقيل هو شجر يكون باليمن وبالحجاز من أحسن الشجر منظرا. وفي روح المعاني (وقال السدي شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل وقيل: هو شجر من عظام العضاه وقيل: شجر أم غيلان وله نور كثير طيب الرائحة).

والمحاولة والتهرب واضحان على كل ذلك.

وفي تفسير ابن عاشور بعد مبالغة في مدح السدر وثمره قال: (ولما كان السدر من شجر البادية وكان محبوبا للعرب ولم يكونوا مستطيعين أن يجعلوا منه في جناتهم وحوائطهم لأنه لا يعيش إلا في البادية فلا ينبت في جناتهم خص بالذكر من بين شجر الجنة إغرابا به وبمحاسنه التي كان محروما منها من لا يسكن البوادي وبوفرة ظله وتهدّل أغصانه ونكهة ثمره). ولا أعلق على ذلك بأكثر من أني رأيت هذا الشجر في كثير من البيوت في المدن والقرى.

ومنها ما في تفسير الرازي من أن الأشجار أوراقها على أقسام كثيرة والسدر في غاية الصغر والطلح وهو شجر الموز في غاية الكبر فقوله تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ إشارة إلى ما يكون ورقه في غاية الصغر وإلى ما يكون ورقه في غاية الكبر فوقعت الإشارة إلى الطرفين جامعة لجميع الأشجار نظرا إلى أوراقها والورق أحد مقاصد الشجر. ثم قال: وهذا جواب فائق وفقنا اللَّه تعالى له. وعلق عليه الآلوسي بقوله وهو مما لا بأس به.

أقول بل لا قيمة له وكيف يكون ذكر نوعين من الشجر دليلا على وجود كل ما بينهما من انواع الشجر حسب اختلاف حجم الورق؟! ان هذا مما يضحك الثكلى. ولكنه على كل حال يدل على وقوع القوم جميعا في ضيق وشدة لتأويل هاتين الآيتين.

ومنها ما رواه العامة على ما في مجمع البيان عن امير المؤمنين عليه السلام من أنه تحريف عن الطلع قال في روح المعاني: وقرأ علي كرم اللّه تعالى وجهه وجعفر بن محمد وعبد اللّه رضي اللّه تعالى عنهم وطلع بالعين بدل وَطَلْحٍ بالحاء، وأخرج ابن الأنباري في المصاحف وابن جرير عن قيس بن عباد قال: قرأت على علي كرم اللّه تعالى وجهه وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فقال: ما بال الطلح؟ أما تقرأ وطلع، ثم قرأ قوله تعالى: (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) فقيل له: يا أمير المؤمنين أنحكّها من المصحف؟ فقال: لا يهاج القرآن اليوم.  

ثم قال الآلوسي: وهي رواية غير صحيحة كما نبه على ذلك الطيبي وكيف يقر أمير المؤمنين كرم اللّه تعالى وجهه تحريفا في كتاب اللّه تعالى المتداول بين الناس أو كيف يظنّ بأن نقلة القرآن ورواته وكتّابه من قبل تعمّدوا ذلك أو غفلوا عنه؟ هذا واللّه تعالى قد تكفل بحفظه. سبحانك هذا بهتان عظيم.

وفي مجمع البيان بعد أن روى الحديث المذكور عن العامة قال (ورواه أصحابنا عن يعقوب بن شعيب قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قال لا وطلع منضود). ولم أجد الرواية في مصدر آخر.

والروايتان لا يعتمد عليهما قطعا اما الاولى فعامية واما الثانية فمرسلة ولكن ما يدل على هذا المقدار من التحريف ليس بعزيز بل اكثر ما يعدّ من اختلاف القراءات من هذا القبيل بل فيها ما هو أعظم اختلافا منه. وانما اعتبر هذا الحديث مما يدل على التحريف لانه ينفي القراءة المشهورة وهذه القراءات عند القوم متواترة لا يجوز نفي شيء منها وقد رووا أن القرآن نزل على سبعة أحرف.

ولكن الصحيح عندنا أن القرآن نسخة واحدة ففي الكافي (علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذينة عن الفضيل بن يسار قال: قلت لابي عبدالله عليه السلام: إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف فقال: كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد).

وفي رواية اخرى فيه ايضا (عن الحسين بن محمد عن علي بن محمد عن الوشاء عن جميل بن دراج عن محمد بن مسلم عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن القرآن واحد نزل من عند واحد ولكن الاختلاف يجيئ من قبل الرواة).

هذا مع أن الطلع ايضا لا يناسب المقام اذ انه ليس اسما للشجر حتى يقال ان اصحاب اليمين في طلع منضود اذ لا يصدق على النخل ولا أظن أنه يطلق مجازا عليه وليس هو بذاته ايضا شيئا يذكر في ما هو المتوقع من أشجار الجنة والتي وصفها في موارد اخرى من القرآن الكريم حتى بالنسبة للمرتبة الدانية بل حتى في هذه السورة بالذات حيث يأتي ذكر الفاكهة الكثيرة وهي على الشجر طبعا.

فالظاهر كما مر أن الغرض ليس هو تحديد نوع الشجر في هذه الجنة بل الاشارة الى الفرق الكبير بين المرتبتين فلا مانع من كون المراد بالطلح الشجر المعروف بام غيلان او غيره مما يستظل به وهو على كل حال يدل على نوع من البساطة والتقشف في العيش مع أن الله تعالى لا يبخل على أهل الجنة قطعا بما لم يبخل على عامة الناس في الدنيا فالغرض هو الاشارة الى أن الفرق بين مرتبة الفريقين من حيث القرب لدى الله تعالى كالفرق بين جنة فيها كل انواع الفاكهة وكل ما يتلذذ به الانسان وجنة ليس فيها من الشجر الا ما يستظل به. كما مر مثله في تفسير قوله تعالى (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ)[2] والله العالم.

وَظِلٍّ مَمْدُودٍ... قيل انه الظل الدائم الذي لا يتقلص كالظل بين الطلوعين او انه ظل طويل لا يخشى زواله. وفي روح المعاني أن الاثار تدل على أنه ظل الاشجار.

ولكن الصحيح أنه ليست هناك شمس حتى يستظل عنها بالشجر كما قال تعالى (لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا)[3] وان كان مورد هذه الآية المقربون ولكن الظاهر عدم الفرق من هذه الجهة فالغرض ليس هو تفصيل حالة الظل هناك بل الاشارة الى الفرق بين المقامين كما قلنا ويلاحظ البساطة في العيش تحت الظل كما كانت زوجاتهم في سورة الرحمن مقصورات في الخيام وليس معنى ذلك أن الله تعالى يبخل عليهم بدار كما في الدنيا على الاقل بل الغرض ما ذكرناه والله العالم.

وَماءٍ مَسْكُوبٍ... اي مصبوب معد للشرب فلا يحتاج الى من يناوله ولا الى تكلف البحث عنه ومع ذلك فالبساطة واضحة في التعبير بالنسبة لما مر من الاكواب والاباريق مع خدمة الولدان وطوافهم والغرض واضح.

وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ... اي لا تنقطع باختلاف الفصول كما في الدنيا ولا يمنعون عنها باي سبب من الاسباب ككونها مضرة لهم صحيا او ممنوعا قانونا فهم يختارون ما شاءوا ومتى شاءوا ومع ذلك فالفرق واضح بين المنزلتين حيث إن الفاكهة هناك لا تتحدد بنوع بل هي مما يتخيرون وهنا توصف بالكثرة فقط والغرض واضح.

وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ... الفرش جمع فراش ما يبسط للاستقرار عليه. والظاهر أن المراد بالرفع كونها على السرر وفيه ايضا تنزّل عن السرر الموضونة المعدة للمقربين. وقيل المراد بها ازواجهم وأنه يعبّر عن المرأة بالفراش وأن المراد بكونهن مرفوعات، علو قدرهن في الجمال والكمال. وانما قيل بذلك لعود الضمير في الآية التالية وسيأتي له وجه اخر.

إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً... الضمير يعود الى الفرش بناءا على ان المراد بها النساء ويمكن ان يعود الى ازواجهم المشار اليهن بذكر الفرش حيث انها معدة للاتكاء عليه وهو يتم عادة مع الازواج كما قال تعالى (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ)[4] والانشاء الخلق ابتداءا اي من دون استناد الى سبب طبيعي فهن لم يولدن من آباء وامهات وعليه فينحصر ذلك في الحور العين. و(انشاءا) مفعول مطلق لعله للاشارة الى انه خلق عجيب من جهة كونهن كالبشر ولسن من البشر ولا يعتريهن التغير الذي يطرأ على الانسان في الدنيا.  

وقيل ان المراد بهن نساؤهم في الدنيا وأن الانشاء اعادة خلقهن خلقا جديدا حيث انهن يعدن شابات كما أن الرجال يعودون شبابا وورد ذلك في بعض الروايات ولكنها ضعيفة وظاهر الآية ما ذكرناه والنعيم في الجنة فوق تصورنا فلا حاجة الى شباب ولا تضره الشيبة.

فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً... البكر أول كل شيء ويقال لاول من يولد لابويه بكر كما يقال للفتاة قبل زواجها وهو هنا كناية عن عدم المس كما قال تعالى (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)[5] والرجل يحب أن لا تعرف زوجته رجلا غيره. والتعبير بالجعل بمعنى أن هذا شأنهن في أصل الخلقة فهن لسن كنساء الدنيا حيث ان البكر منهن من لم تتزوج ولم يمسها رجل والحور العين لا يمكن أن يمسهن أحد. وقيل معناه أنهن يبقين أبكارا حتى مع أزواجهن.

عُرُباً أَتْراباً... العرب جمع عروبة بفتح العين المرأة المتحببة لزوجها وفي معجم مقاييس اللغة (الضحوكة الطيبة النفس) واعتبره اصلا آخر في قبال الاعراب بمعنى الافصاح والتبيين ولكن لا يبعد أن يكون من نفس الباب فالمراد بالمراة العروب من تفصح لزوجها عن حبها له ولا يمنعها الحياء. والاصل في المعنى هو تسمية هذا الجيل من البشر وحيث ان العرب لا تفهم من سائر الناس مقاصدهم للجهل بلغتهم اعتبر الافصاح من الاعراب وكأن العرب هم الذين يفصحون عن مقاصدهم فقط وسموا غيرهم عجما. والعجمة: العجز عن البيان ولذلك اعتبروا الحيوان أعجم.

والأتراب جمع تِرْب وهو اللِّدَة اي من ولد معك واكثر ما يستعمل في الاناث فالاتراب اي الفتيات اللاتي في عمر واحد. وهو هنا بمعنى الامثال اذ ليست هناك ولادة. وقيل ان المراد تساوي أعمارهن حسب ظاهر الحال مع أزواجهن. ومهما كان فالغرض من ذلك التأكيد على دوام حالتهن من الشباب والجمال وعدم عروض التغير والشيبة عليهن فانّ ممّا يكدّر صفو العيش في الدنيا حينما يلاحظ الرجل زوجته الشابة الجميلة هو العلم بان الحالة لا تستمر وانها تتغير واما الجنة فلا تغير فيها ولا تقادم في العمر.

لِأَصْحابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ... اللام متعلق بـ (أنشأناهن) اي خلقناهن لهم. وقد مر الكلام في معنى الثلة. وهذا يدل على ان اصحاب اليمين موجودون بكثرة في الاولين والاخرين وانما ورد التنبيه على ذلك للاشارة الى الفرق بين الفريقين وان القسم الاول اي المقربين لا يوجد في الآخرين الا قليلا وبذلك يتبين ان الهدف الاساس من هذه السورة وهذه التعابير المختلفة هو الاشارة الى رفعة مقام المقربين في هذه الامة.

 


[1] ق: 10

[2] الرحمن: 62

[3] الانسان: 13

[4] يس: 56

[5] الرحمن: 56 و74