وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ... هؤلاء هم أصحاب المشئمة الذين سبق ذكرهم. والتعبير عنهم باصحاب الشمال من جهة أن العرب كانوا يتشاءمون به وقيل لانهم يؤتون كتابهم بشمالهم. ومر الكلام في وجه الاستفهام عند تفسير قوله تعالى (واصحاب اليمين ما اصحاب اليمين).
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ... السموم صفة مشبهة من السُّم ــ بالضم والفتح ــ وأصله بمعنى الثقب الصغير كما قال تعالى (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)[1] ويقال للمادة القاتلة سمّ لانه ينفذ في مسامّ الجسم ولذلك ايضا يعبّر عن الريح الحارّة الجافّة أنه سموم. والسموم من أسماء جهنم قال تعالى (وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)[2] ولعل الوجه أنها تحرق الباطن اي الروح كما قال تعالى (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ).[3] والحميم الماء شديد الحرارة. والظاهر أن الآية اشارة الى ما جاء في قوله تعالى (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)[4] حيث يترددون بين جهنم والحميم كما سيأتي هنا في تفسير قوله تعالى (فشاربون عليه من الحميم).
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ... اليحموم من الحمم وهو السواد الحالك وينطبق على الدخان الاسود ويمكن أن يكون المراد به النار بنفسها وقد عبر عنها بالظلل في قوله تعالى (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ..)[5] وورد في بعض الآثار ــ على ما قيل ــ أن نار جهنم أسود او يكون التعبير عن النار باليحموم من جهة الحرارة فان الحمم يفسر به ايضا. والتعبير بالظل على كل حال تهكم واستهزاء بهم يقابل به الظل الممدود لاصحاب اليمين.
لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ... فالظل من النار ــ لو فرض لها ظل ــ كيف يتوقع منه البرد؟! والكريم كل مستحسن من الامور فهذا الظل ليس فيه اي صفة حسنة من مميزات الظلال فلا هو بارد مريح ولا هو نافع بل ليس ظلا أصلا وانما سمي ظلا لانه يسترهم ويخيم عليهم بالنار والعذاب.
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ... الآية في مقام التعليل لعذابهم والاشارة في قوله (قبل ذلك) الى العذاب الذي احاط بهم. وقد أشكل الأمر بالنسبة للتعليل بكونهم مترفين بناءا على أن الترف بمعنى النعمة والمترف الذي أنعم الله عليه وليس هذا موجبا للعذاب. ولكن الظاهر أن معنى المُترَف الذي ابطرته النعمة وأشغلته عن ذكر ربه فطغى وتجبّر قال في الصحاح (اترفته النعمة اي اطغته) وهذا يظهر بملاحظة الآيات التي ورد فيها ذكر المترفين ولو فرض أن المعنى لغة غير ذلك فيمكن أن يقال ان المصطلح القرآني هو هذا المعنى.
قال تعالى (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)[6] ولو كان المراد مجرد الإنعام لم يكن بمتابعة ما اترفوا فيه بأس. وقال تعالى (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)[7] وهذا يفيد ان كونهم مترفين يقتضي الفسق وقال ايضا (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ)[8] وغير ذلك. هذا ويمكن القول بأن المراد ليس اعتبار الترف بذاته سببا للعذاب بل بضميمة ما ياتي بعده فالسبب كونهم مترفين وموسعا عليهم في النعمة ومع ذلك يصرون على الحنث العظيم وينكرون المعاد.
ويظهر من بعض العبارات أن الاشكال عندهم من جهتين من جهة أن المترفين ليسوا كلهم مشركين بل هناك كثير من المؤمنين يعدّون منهم ومن جهة أن المشركين ليسوا كلهم مترفين بل كثير منهم فقراء معدمون. والصحيح أن المترفين الذين بلغ بهم الترف الى الطغيان كلهم من أهل النار وان كانوا يعدون من المؤمنين فالجبابرة الطاغون ممن تسلطوا على بلاد المسلمين وقتلوا أخيارهم ونهبوا أموالهم في الدرك الاسفل من النار وهم شر من الكفار وأما المشركون والكفار الفقراء فاستحقاقهم للنار ليس للترف بل لاسباب اخرى والآية ليست في مقام حصر التعليل بل لبيان بعض الاسباب وفي اختيار ذلك تعريض بالمخاطبين حيث انهم كانوا من اهل الترف.
ولكن ربما يقال بأن بعض الاوصاف المذكورة للصنف الثالث لا تشمل كثيرا من الكفار فقد وصفوا في الآيات التالية بالضالين المكذبين وهناك من الضالّين من هم ليسوا مكذّبين ولا مصدّقين لانهم لم يواجهوا رسولا ولا سمعوا بكتاب ولا باليوم الآخر ووصفوا ايضا بانهم يصرون على الحنث العظيم وينكرون البعث وهم ليسوا بأجمعهم كذلك فمنهم من يؤمن بالله ويؤمن ببعض الرسالات وباليوم الآخر بل ان اصحاب النار بعضهم مسلمون فليس كل مسلم يعمل بما امر الله به بل ان منهم الطغاة الجبابرة فالسورة المباركة لا تشمل جميع اصناف البشر لا في التقسيم الاول في بداية السورة ولا الذي في اخرها.
والجواب ان التقسيم شامل لجميع البشر وان كان كثير من الناس يدخلون تحت قوله تعالى (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[9] الا انهم في النهاية اما يعذبهم او يتوب عليهم وانما الاهتمام في هذه السورة بتقسيم اصحاب الجنة الى المقربين واصحاب اليمين ولكن كما أن أصحاب اليمين لهم درجات في الجنة وتختلف مواضعهم وانحاء ثوابهم كذلك اهل النار تختلف دركاتهم وانحاء جزائهم قال تعالى (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)[10] والذي يذكر الله تعالى جزاءه في الغالب هم المكذبون الضالون المترفون خاصة لان غالب المخاطبين بالقرآن كانوا منهم وأما أنه تعالى كيف يحاسب الناس على اختلاف عقولهم وظروف حياتهم وبعدهم او قربهم من عصر النبوة ونزول الكتاب فلا يعلم به الا هو ولا شك انه تعالى لا يؤاخذ احدا الا بمقدار ما تمت عليه من الحجة وان كانت الحجة ما تمليه عليه الفطرة والعقل السليم.
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ... الحنث: الاثم. ويطلق شرعا على خصوص نقض العهد واليمين والمراد به على الظاهر مخالفتهم للعهد الازلي الذي اخذ منهم في عالم الذر ولعل المراد به ما جُبِل عليه الانسان بفطرته من الاعتراف بربوبيته تعالى كما قال (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا..)[11] ولذلك وصفه بالحنث العظيم لانه مخالف للفطرة. والاصرار عليه هو الاستمرار على الكفر او الفسق حتى بعد مشاهدة الآيات البينات. وقوله (كانوا يصرون) يفيد أنّ هذا كان دأبهم وديدنهم وكانوا مستمرين على ذلك.
وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ... عطف على الجملة السابقة وهذا ايضا يدل على استمرارهم على هذا القول وتكرارهم له لانه كان راسخا في نفوسهم. وقولهم (أإذا متنا..) استفهام انكاري يقصد به التكذيب. وقد حكي ذلك في موارد متعددة من الكتاب العزيز. وعطف العظام على التراب لاحتمال عدم انقلاب بعض العظام ترابا او بمعنى أنه حتى لو لم تتحول العظام الى التراب فان العود الى الحياة غير ممكن. وهذا التكذيب بعد ما رأوا الآيات وسمعوا ما أخبر به الله تعالى على لسان رسله يدل على كفرهم وعدم اقتناعهم بقدرته تعالى على احياء الموتى.
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ... أعاد حرف الاستفهام في هذه الجملة لتأكيد الاستنكار بالنسبة للآباء الاولين اي وهل يبعث آباؤنا الاولون القدماء مع أنهم مضى على موتهم زمن طويل ولم يبق منهم أثر ولا عنهم خبر؟! فكأنهم يستبعدون إحياءهم بعد طول الزمان لعدم بقاء اي اثر منهم في التراب. ويحتمل أن يكون المراد استبعاد إحيائهم من جهة انه لو أمكن لأحياهم الله تعالى طيلة هذه المدة. وهذا الاستبعاد مما تكرر في كلام الكفار السابقين كما حكاه الله عن فرعون حيث قال تعالى (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى).[12]
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ... أمر الله تعالى نبيه أن يردّ عليهم تعريضا بأنهم لا يستحقون الخطاب من الله تعالى. وهذا جواب عن استغرابهم من بعث الناس والآباء الاولين بوجه خاص والجواب يزيدهم استغرابا لانه يدل على إحياء الجميع أوّلا ثم على جمعهم في موعد محدد وهذا أمر في غاية الغرابة لا تكاد تتصوره عقول البشر ولكن الله تعالى قادر على كل شيء. وقد عبّر عن يوم القيامة بيوم الجمع في قوله تعالى (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ..).[13]
والمراد بالاولين والآخرين جميع البشر منذ بدء الخليقة الى يوم القيامة. والميقات مصدر من وقّت بمعنى حدّد ويستعمل ايضا بمعنى اسم الزمان غالبا وقد يستعمل في المكان ايضا كمواقيت الحج. والاضافة هنا بيانية اي موعد محدد هو يوم معلوم. و(الى) لانتهاء الغاية باعتبار ان الجمع يتضمن بذاته معنى السوق فهم يساقون الى تجمّع في هذا اليوم. والمراد باليوم مرحلة من الزمان وليس بالمعنى المعروف كما هو واضح.
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ... (ثمّ) للتراخي وهو هنا زمانيّ لان زمان العذاب ودخول النار متأخر عن الجمع. ويحتمل كونه رتبيا اي ان الامر لا يقف عند حدّ الاحياء والجمع بل هو أفظع وأفظع. ووصفهم مضافا الى الضلال عن الحق بالتكذيب ليوم القيامة ولشريعة السماء لانه هو السبب الاقوى للعذاب فلو كان الانسان الجاهل متوقفا وساكتا لهان الامر ولامكن ان يشمله العفو ولكن البشر قديما وحديثا يصرّ على تكذيب ما لا يبلغه علمه.
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ... (من) الاولى للابتداء والثانية لبيان الشجر وقد مر بعض الكلام حول الزقوم في تفسير سورة الصافات الآية 62 والدخان الآية 43 وقلنا انه لم يثبت له استعمال في اللغة فلا يبعد كونه مصطلحا قرآنيا لطعام أهل النار الذي لا يسمن ولا يغني من جوع وليس له مثيل في الدنيا.
فَمالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ... اشارة الى عدم تأثيره في الشبع فهم يملأون بطونهم ولا يشبعون ولا يهنأون فان الزقوم طعام محرق للجوف كما قال تعالى (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)[14] وتأنيث الضمير اما بتأويل الشجرة اي شجرة الزقوم او لأن الشجر جمع او لأن الشجر والثمر يذكران ويؤنثان كما في مجمع البيان.
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ... الحميم ــ كما مر آنفا ــ الماء شديد الحرارة والفاء يدل على التعاقب اي ان هذا الشرب يعقب الاكل المذكور مباشرة فهم من تأثير هذا الطعام يعطشون فيذهبون الى الحميم ويشربونه حميما على حميم فلا يرفع عنهم عطشا بل يحرق احشاءهم. وتذكير الضمير اما باعتبار لفظ الشجر او يعود الى الزقوم او الى الاكل.
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ... كرر كلمة (فشاربون) مع الفاء تعجيبا من حالهم فهم يشربون الماء المحرق لا كما يشرب العطشان الماء بل كما يشرب الابل الهيم. والهيم جمع أهيم وهائم والانثى هائمة وهيماء وهي الابل يصيبها داء العطاش فتشرب الماء ولا ترتوي والاصل فيه على الظاهر هو العطش ولذلك يطلق الهيام (بفتح الهاء) على الرمل الجاف الذي لا يرتوي من الماء ولا يتماسك. وحيث اطلق على الابل الهائم على وجهه في الصحراء من شدة العطش اطلق على كل متحير ايضا ومنه العاشق الولهان.
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ... انتهى الى الآية السابقة ما امر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم أن يبلغهم وهذا تعقيب من الله سبحانه وفيه تهكم شديد فان النزل ما يقدّم للضيف في أول قدومه فاذا كان ما ذكر من الطعام والشراب نزلهم يوم الجزاء من الله تعالى وهو أكرم الأكرمين فماذا يكون جزاؤهم الكامل؟! والدين: الجزاء.
[1] الاعراف: 40
[2] الطور: 27
[3] الهمزة: 7
[4] الرحمن: 43- 44
[5] الزمر: 16
[6] هود: 116
[7] الاسراء: 16
[8] سبأ: 34
[9] التوبة: 106
[10] الانعام: 132
[11] الاعراف: 176
[12] طه: 51
[13] التغابن: 9
[14] الدخان: 43- 46