مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظيمِ... الفاء للتفريع اي حيث تبيّنت عظمة الخالق وربوبيته فسبّح باسمه. والخطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ويعمّ الخطاب كل سامع وتال للقرآن. روى الشيخ الطوسي قدس سره بسنده عن عقبة بن عامر الجهني انه قال (لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال لنا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اجعلوها في ركوعكم).[1]

 والتسبيح التنزيه عما يقوله الظالمون من نفي ربوبيته تعالى. والتعبير بالرب مضافا الى الضمير لبيان العلة اي حيث ثبت أنه ربك فسبح باسمه. والباء زائدة للتأكيد او للتعدية وقد ترك في قوله تعالى (سبح اسم ربك الاعلى). والعظيم صفة للرب او للاسم.

وقد وقع السؤال هنا عن تعدية التسبيح الى الاسم الكريم مع أنه للمسمى في الواقع فقيل: ان الباء ليست زائدة بل سببية، والمعنى فسبح ربك بذكر اسمه او للاستعانة اي مستعينا بذكر اسمه او للمصاحبة اي مصاحبا له، وفي ذلك اشارة الى التسبيح اللفظي، اي لا تكتف بالتسبيح قلبا واعتقادا. وهذا الجواب بكل وجوهه لا يصح في قوله تعالى (سبح اسم ربك الاعلى). وقيل: تسبيح الاسم تسبيح للذات بطريق اولى، فمعنى تسبيح الاسم تنزيهه من أن يذكر بما لا يناسبه نظرا الى عظمته بعظمة المسمى.

ويمكن أن يقال: إنّ التسبيح ليس اعتقادا ولا أمرا لفظيا نظير ما ورد الامر به  في ذكر الركوع والسجود فان المطلوب هناك هو اللفظ حتى لو لم يفهم الانسان معناه او لم يقصده غفلة كما هو الغالب، بل المراد بالتسبيح هنا أمر إنشائي كالمدح والذّم، وهو عبادة خاصّة بالله تعالى، فكما أنّ الانسان ينشئ باللفظ او غيره البيع او النكاح، او ينشئ التمنّي او الترجّي او ينشئ مدحا او ذمّا او تعجّبا كذلك ينشئ التسبيح.

ثم إن انشاء الحقائق الاعتبارية باللفظ أقوى من انشائها بغيره، فاذا كان التسبيح باللفظ او الكتابة فلا يتعلق الا بالاسم الكريم، وان كان الغرض انشاء التسبيح للذات المتعالية، فكما يصح تعدية التسبيح الى الذات كقوله تعالى (فسبحه) كذلك يصح تعديته الى الاسم، لأنه هو المتعلق في الانشاء اللفظي. وللبحث في حقيقة الامور الانشائية مجال واسع في الاصول.

ولعل من قال ان الباء للمصاحبة او السببية قصد هذا المعنى.

فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ... الفاء للتفريع ايضا وهذا تفريع على ما مرّ من ردّ المكذّبين للقرآن والذي ابتدأ بقوله تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ). وقد تكرر في القرآن الكريم تصدير القسم بـ (لا) بل لم ترد كلمة أقسم بدونها واختلفوا في توجيه ذلك.

فقيل انها زائدة تفيد التأكيد. وقيل ان المراد نفي ما اعتقدوه في القرآن من أنه سحر او شعر او غير ذلك ثم يبدأ بالقسم. وهذا القول يساند القول الاول بمعنى أنه يشرح وجه كونها مؤكدة. ويمكن تأييده بتعارف هذا النفي اي نفي رأي المخالف في موارد التأكيد من دون قسم حتى في سائر اللغات ايضا. وقيل انه في الاصل لأقسم بل قرئ بذلك ايضا. وقيل انه في الاصل بمعنى نفي القسم تحرجا منه وتخوفا من عاقبته مع أن الامر مما ينبغي أن يقسم عليه ثم تطور الامر واستعمل حتى في غير موارد التحرج كما هنا وبقيت (لا) زائدة تفيد التأكيد.

وقيل انها لنفي القسم والمراد في الخطاب أن الامر أوضح من أن يقسم عليه وانك تعترف به فلا حاجة الى قسم. وربما لا يكون الامر واضحا لدى المخاطب الا ان القائل يدّعي فيه ذلك للتأكيد على ثبوته. ومثل هذا النفي متعارف في غير القسم ايضا تقول للمخاطب لا اوصيك بكذا وكذا وتقصد التأكيد على ذلك فمعنى (لا اوصيك) انك بنفسك مهتم بهذا الامر فلا حاجة الى وصية. ولعل هذا الوجه اقرب من غيره.

واختلفوا ايضا في المراد بمواقع النجوم والظاهر كما في الميزان وغيره أن المراد بها محالها ومواضعها في السماء وقيل ان المراد مساقطها فالموقع من الوقوع بمعنى السقوط اي مغاربها او سقوطها يوم القيامة وقيل بمعنى رجمها للشياطين.

وقيل ان النجوم بمعنى قطعات القرآن النازلة شيئا فشيئا. وذلك لان النجم في الاصل بمعنى الطلوع تقول نجم اي طلع ولذلك اطلق على النبات ايضا فيمكن ان يكون منه مطلع كل شيء ومنه آيات الكتاب العزيز او باعتبار أنهم كانوا يقسّمون كل امر ممتد كاقساط الدين باحتساب مطلع النجوم المختلفة فيدفع له عند طلوع نجم كذا مبلغا ثم اصبح تعبيرا عن كل نوع من التقسيم. وهو بعيد عن السياق وانما اختاره من اختاره لاستبعاد ان يكون القسم بمواقع النجوم عظيما.

وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيمٌ... هذه الجملة معترضة بين القسم والمقسم عليه لتأكيد عظمة القسم اي ان القسم بمواقع النجوم قسم عظيم لو تعلمون ذلك. وجملة (لو تعلمون) اعتراض في اعتراض.

و(لو) اما شرطية حذف جزاؤها اي لو تعلمون قدره لعلمتم عظمته او للتمني اي ليتكم كنتم تعلمونه. ولم يكن المخاطبون يوم نزول الآيات يعلمون عظمة هذا الامر المقسم به لجهلهم بعظمة الكون الذي خلقه الله تعالى. والبشر في هذا العصر قد اكتشف بفضل العلم والمراصد العظيمة مجموعات هائلة من النجوم والمجرات وهناك منها الكثير مما لا يحصيها أحد الا الله تعالى ولا تبلغها مراصد البشر وكل هذه البلايين من النجوم تسير وتسبح في هذا الفضاء الهائل الذي يحتار البشر في أن يعتبره محدودا او غير متناه ولا يمكن أن يصطدم بعضها ببعض. فسبحان الذي خلقها ونظمها ودبر امورها.

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَريمٌ... هذه الجملة هي المقسم عليها. والغرض تنبيه المخاطبين ــ وهم ضالون مكذبون ــ بكرامة هذا الكتاب العزيز. والقرآن مصدر بمعنى المقروء. والكريم كل أمر شريف قيّم فيمكن أن يراد به تميّزه عن سائر الكتب او المعارف او خصوص الكتب السماوية ويمكن أن يراد به كونه كريما وعزيزا عند الله تعالى. وقيل انه كريم بمعنى كونه بذّالا لما ينفع الانسان في دنياه وآخرته.

في‏ كِتابٍ مَكْنُونٍ... وصف ثان للقرآن. والكنّ هو الستر فالمكنون المستور والظاهر انه كناية عن الحفظ باعتبار أن الانسان اذا أراد أن يحفظ شيئا من الايدي المعتدية يستره فتكون الآية كقوله تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ).[2]

والمظروف وهو القرآن ما يقرأ ويتلى من الآيات والالفاظ والمعاني. والظرف هو الكتاب اي المكتوب وليس هو مكتوبا بالمعنى المتعارف فان الكتابة في الاصل بمعنى الجمع اي في مجموعة مستورة وهو اللوح المحفوظ ولا نعلم حقيقته ولكن الظاهر ـــ والله العالم ــ أن المراد به ما يودع فيه القرآن وتحمله الملائكة الى الرسول صلى الله عليه واله وسلم وليس امرا ماديا.

وكيفما كان فهو أمر مستور محفوظ عن أن تناله أيدي الشياطين وتعبث به وتزيد وتنقص خلافا لما زعمه المشركون كما تدل عليه الآية التالية والقرآن الكريم يؤكّد على هذا الامر في موارد عديدة وبعبارات متعددة كقوله تعالى (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ)[3] وكقوله تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[4] وغير ذلك.

لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ... الظاهر ان هذه الجملة صفة ثانية للكتاب وتفسر معنى المكنون كما بيّـنّا والمسّ معروف والمراد به التأكيد على نفي الوصول اليه فالمعنى انه لا يصل اليه ولا يحمله او يتحمله الا المطهّرون والمراد بهم الملائكة الكرام كما قال تعالى (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ)[5] وهو تأكيد على عدم تأثير الشياطين فيه وأنه لا يصل اليه الا الملائكة الكرام وتوصيفهم بالمطهرين بمعنى أن الله تعالى طهرهم وعصمهم من الزلل والخطأ كما قال تعالى (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ).[6]

وقيل ان المراد بالمسّ المسّ باليد او مطلق الجسم وأن المراد بالمطهّرين المطهّرون من الحدث والخبث وأن (لا) للنهي او للنفي مع ارادة انشاء الحكم اي المنع. وهذا يناسب ما نسب الى سلمان الفارسي رضوان الله عليه من قراءة الكلمة بتشديد الطاء والهاء وكسر الثانية وهو في الاصل (المتطهرون). وورد الاستشهاد بالآية على حرمة المس بدون طهارة في بعض الروايات. ولكن القراءة غير ثابتة والرواية ضعيفة والسياق لا يناسبه.

تَنْزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمينَ... صفة اخرى للقرآن الكريم والتنزيل مصدر بمعنى اسم المفعول اي منزّل من ربّ العالمين. والتنزيل باعتبار كونه من الله تعالى وكل ما يصل الينا من قبله تعالى فهو منزل لانه من مقام العلو والرفعة المطلقة ولذلك فان خلق الحديد ايضا انزال من عنده تعالى كما قال (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)[7] والانعام ايضا نازلة من عنده تعالى كما قال تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ..).[8] وهذا ردّ على توهم المشركين أنه من القاء الشياطين او من قول الكهنة كما قال تعالى (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ).[9]

ويمكن ان يكون المراد بالتنزيل تبسيطه واخراجه بصورة الفاظ عربية سهلة التناول بعد ما كان في كتاب مكنون ولوح محفوظ لكي يصل اليه كل انسان عارف باللغة ولو من دون دقة وتحقيق كما قال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[10] ومن هنا اسند الى ربّ العالمين فان من شأن الربوبية أن يهيّئ للعالمين ما يوصلهم الى غاية الكمال البشري.

أَفَبِهذَا الْحَديثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ... الاستفهام للاستنكار. والظاهر أن المراد بهذا الحديث القرآن الكريم لانه المذكور في سياق الآيات والفاء للتفريع اي مع ملاحظة أن القرآن تنزيل من رب العالمين ولا يمسّه الا المطهرون فهل أنتم تدهنون به؟

والادهان بمعنى التدهين الا أنه يستعمل كناية عن المداراة وترك الجدّ فالغرض هنا أنهم لا يحملون هذا الحديث على محمل الجدّ ولذلك يعبّرون عنه تارة بالشعر وتارة بالسحر. وقيل ان المراد بالحديث المعاد والمعنى أنهم لا يهتمون بهذا الخبر العظيم كما قال تعالى (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ).[11] وقيل ان الادهان كناية عن التكذيب. ولكنه غير مناسب للاصل اللغوي.

وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ... الجملة عطف على الجملة السابقة اي أَوَتجعلون رزقكم.. والظاهر أن المراد بالرزق الحظّ من الخير ــ كما في المجمع ــ وان كان في الاصل بمعنى العطاء والانعام مطلقا فالمعنى أن الله تعالى أنعم عليكم بهذا الخير العظيم اي القرآن ولكنكم لا تنتفعون به بل تكذّبونه وتجعلون التكذيب حظكم ونصيبكم من هذا الخير.

ولكن كثيرا من المفسرين اضطروا الى تأويل الآية بما لا يطابق ظاهرها وسياقها لورود عدة أحاديث عن طرق العامة في شأن نزول الآية منها ما رواه مسلم عن ابن عباس قال (مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا قال فنزلت هذه الآية فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ حتى بلغ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُون).

وقوله (قالوا هذه رحمة الله) اي قال الشاكرون. وقوله وقال بعضهم اي الكافرون والمراد الكفر بالنعمة لا الكفر بالله تعالى لوروده في مقابل الشاكر مضافا الى ان الظاهر أن المراد بهما فريقان من الصحابة لقول الراوي في اول الحديث على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وهذا التعبير لا يطلق الا في عهد نزوله في المدينة وبسط حكمه في المنطقة. ومن هنا فان الحديث يدل على نزول هذه الآيات في المدينة او في بعض الاسفار كما قيل وقد مرّ أن سياق السورة يقتضي كونها مكية بكاملها ويبعد فصل هذه الآيات عن السياق.

ويبدو من الحديث أن المراد بمواقع النجوم مغاربها اي مواضع وقوعها فان النوء يقال للنجم اذا مال للمغيب وقد مر أن الظاهر كونها بمعنى مواضعها من السماء وهو ما يجعله قسما عظيما ومما لا يعلم به المخاطبون. والاعتقاد بأن المطر من الانواء من عقائد العرب في الجاهلية فقال المفسرون ان في الآية تقديرا اي وتجعلون شكر رزقكم وهو المطر أنكم تكذبون بأنه من الله تعالى فتقولون مطرنا بنوء كذا. وقال جمع من اللغويين أن الرزق عند بعض العرب بمعنى الشكر واستشهدوا ببعض الاشعار.

فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

 

فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ... الفاء لتفريع الكلام على تكذيب الانسان لآيات الله تعالى الذي دلّ عليه قوله تعالى (وتجعلون رزقكم انكم تكذبون) فهذه الآيات تظهر عجز الانسان امام ارادة الله تعالى ونواميس خلقه لكي يكسر طغيانه الذي يتجلى في هذا التكذيب والاصرار عليه.

و(لولا) للحث والتحضيض وهنا استعملت مجازا في التحدي. وفاعل (بلغت) النفس ولم يسبق ذكرها ولكنها معلومة من السياق والمراد بها الروح التي بها الحياة فانها هي التي في الجسم. وبلوغ النفس الحلقوم كناية عن آخر لحظات الحياة ولا يدل على أن الموت يسري تدريجا من الرجل الى الحلق كما توهم. اي فلولا اذا بلغت النفس الحلقوم ترجعونها اي ترجعون النفس. وبهذا التعبير الحي يوقف الانسان امام المحتضر وهو ابوه او اخوه او اي شخص عزيز عليه او عظيم في عينه ولكنه عاجز عن مساعدته فالقصد من الحث عليه اظهار عجز الانسان عن ذلك.

وهذا التعجيز خطاب لجنس الانسان وان رتبه على تكذيب المكذبين فهذه الآيات تصوّر حالة الانسان لدى الموت وعجزه في مواجهة هذا الحدث مهما كان المتوفى عظيما فيستوي في ذلك الانبياء والاولياء وعامة الناس كما يستوي الملوك والجبابرة والرعايا ويستوي الابطال واصحاب الاجسام الحديدية ــ كما يقال ــ والضعفاء والمرضى ويستوي العلماء والاطباء وغيرهم وان كانت هناك محاولات في موارد من الاحتضار الا أن لكل انسان موعدا تتوقف فيه كل الحيل ويقف الجميع أمام هذا الموقف الحرج مكتوفي الايدي لا حول لهم ولا قوة ولا يهتدون الى حيلة.

وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ... اي تنظرون اليه حين موته وهي جملة حالية للمحتضر المعلوم من السياق فهو ينازع الموت وانتم تنظرون اليه عاجزين أمام القهر الالهي.

وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ... والله تعالى أقرب الى الانسان من نفسه كما قال تعالى (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[12] وهو كناية عن كونه أقرب اليه من روحه ونفسه فهو اعلم به من نفسه وأقدر على تغيير مقاصده من نفسه كما قال تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ..)[13] فبطريق أولى هو أقرب اليه من غيره. ولا يختص ذلك بحال الموت وانما أكد عليه هنا لان علاقة الآخرين منقطعة عنه حينئذ حتى في الظاهر بينما هو بين ظهرانيهم. والمراد بالقرب الاحاطة بكل شؤونه فالله تعالى قيوم على كل نفس بل على كل شيء قال تعالى (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ..).[14]

والغرض أنكم تنظرون الى المحتضر ولا ترون ما هو مشغول به وراء الحجاب فهو مشغول بربه وبالملائكة المحيطين به فقد يسلّمون عليه ويرحبون به كما قال تعالى (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[15] وقد يضربون وجهه ودبره كما قال تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)[16] وقد يكون له حال آخر. ومهما كان فانتم لا تبصرون هذه الاحوال حتى لو علمتم بها.

والآية تنبّه الانسان على أمر في غاية الاهمية والجميع يغفلون عنه ونحن حينما نحضر جنازة ميت من أقاربنا اوأصدقائنا نهتم غاية الاهتمام بجسمه فنحيط به ونحترمه ونقبّله ونودّعه مع أنّنا ندفنه في التراب ونعلم أنّه بعد عهد سيتحول ترابا ولا يبقى منه أثر في الغالب ولكنه حاضر معنا بروحه الا انه مشغول بربه ولعلّه لا يهتم ولا يلاحظ أي عمل من أعمالنا فلا يختلف لديه ان يحرقه الناس او يحترمونه ويدفنونه كما هو الواجب، فقد وصل الى لقاء ربّه وهو غاية الغايات وغاية ما يتمنّاه المؤمن.

فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ... (لولا) هنا تكرار للتحضيض السابق ومع ذلك فقد فصل بينه وبين فعله والترتيب هكذا: فلولا ترجعونها اذا بلغت الحلقوم ان كنتم غير مدينين. والضمير في (ترجعونها) للنفس كما مر اي ترجعون نفس المحتضر اليه وتخلصونه من الموت. وقوله (ان كنتم صادقين) تأكيد على عجز الانسان أمام ارادة الله تعالى القاهرة فهو كاذب ان ادّعى القدرة وحيث جاء هذا الشرط بعد الاشتراط بكونهم غير مدينين فمعناه ان كنتم صادقين في دعوى انكم غير مدينين.

والكلام في المراد بقوله تعالى (مدينين) فانه يحدّد المعنى المراد من مجموع هذه الآيات. فقيل انه من الادانة بمعنى المجازاة ومنه يوم الدين اي يوم الجزاء والمعنى أنكم ان كنتم كما تزعمون غير مبعوثين للجزاء فارجعوا نفس هذا المحتضر وادرأوا عنه الموت ان كنتم صادقين اي قادرين او صادقين في هذه الدعوى. وعليه فالآيات جاءت للاستدلال على البعث والنشور.

وجاء في الميزان في بيان وجه الاستدلال بالآية أنها تفريع على تكذيبهم بأنكم إن كنتم صادقين في نفيكم للبعث مصيبين في تكذيبكم لهذا القرآن الذي ينبئكم بالبعث رددتم نفس المحتضر التي بلغت الحلقوم إذ لو لم يكن الموت بتقدير من الله كان من الأمور الاتفاقية التي ربما أمكن الاحتيال لدفعها فإذا لم تقدروا على رجوعها وإعادة الحياة معها فاعلموا أن الموت حق مقدر من الله لسوق النفوس إلى البعث والجزاء.

وقال بعضهم ان المعنى لو كنتم غير مدينين لما أخرجت الأرواح من الأجساد إذ لا فائدة تحصل من تفريق ذينك الإلفين لولا غرض سام وهو وضع كل روح فيما يليق بها من عالم الخلود جزاء على الأعمال.

والحاصل أن الانسان عاجز في مواجهة الموت وأنه يفرض نفسه على الانسان فرضا مهما تكامل علم الانسان وتمكن من تسخير الطبيعة وليس ذلك الا لارادة الهية قاهرة وحكمة تترتب على الموت وهو البعث للجزاء.

ولا شك أن الانسان عاجز أمام الموت مهما حاول وهو يحاول فعلا وقد تمكّن من صدّ كثير من الامراض الفتّاكة وهو يحاول المزيد ولكنه لا يتمكن أبدا من التحفظ من الموت كليا وليس هذا من مصلحة الانسان بوجه عام. ولكن السبب لا يكمن في خصوصية لروح الانسان وارادة خاصة به ليكون موته مقدمة للجزاء بل هو مقتضى طبيعة الحياة على هذا الكوكب حيث ان الحياة هنا تستند الى حياة الخلايا في جسم الانسان والحيوان وهي لا تستقر فلا فرق بين الانسان وسائر الحيوانات من هذه الجهة ولا يدل على ارادة البعث والنشور.

والظاهر أن المراد بالمدين المقهور والديّان القهّار. قال في الصحاح (دانه دِينا اي اذله واستعبده) ومع ذلك تبع الجوهري المفسرين وذكر ان المراد بالاية محاسَبين. وقال في معجم مقاييس اللغة (اصل واحد اليه يرجع فروعه كلها وهو جنس من الانقياد والذل). اي فلولا ان كنتم غير مقهورين ومغلوبين بارادة الله تعالى ترجعونها الى محتضركم والغرض بيان عجز الانسان أمام ارادة الله تعالى وقهره كما ورد في الدعاء (وقهر عباده بالموت والفناء) والانسان مقهور أمام قانون الطبيعة التي تسير بارادته تعالى في جوانب كثيرة ولكن الموت من أوضح ما يقهره والانسان معترف بعجزه أمام هذه الظاهرة المتكررة التي يراها كل يوم بالنسبة لغيره ويعلم أنه سيأتي دوره ولكنه يرتع كالبهيمة الغافلة.

والآية تنبه الانسان على أن سعيه في ارادة البقاء في هذه الدنيا سعي باطل ومحاولة فاشلة حتى لو تغلب على كل الامراض وتمكن كما هو يحاول حاليا من صنع ما يحفظ شبابه الف سنة فان الموت سيأتيه لا محالة وللموت أسباب عديدة أكثرها خارجة عن اختيار الانسان كما قال تعالى (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).[17]   

فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ... اي فله روح وريحان.. وهذا تفصيل لحال المحتضر المذكور حين الموت وما يلاقيه حسب التقسيم المذكور في اول السورة فهو عود على بدء كما في كثير من السور ولعل ذلك يدل على ما هو الغرض الاسمى من السورة وهو بيان هذا التقسيم كما أشرنا اليه في ما سبق. بل لعل الغرض هو الاشارة الى امتياز المقربين عن سائر اصحاب الجنة لان التقسيم الى اصحاب الجنة والنار مذكور في موارد كثيرة جدا من الكتاب العزيز. نعم وردت الاشارة الى هذا التقسيم في سورة الاعراف وفي قصة الاعراف بالذات وهي ايضا من الآيات التي تدلّ على عظمة أصحاب الاعراف وأنهم هم الذين يقسمون النار والجنة ولا يدخل اهل الجنة جنتهم الا بعد اذنهم كما وردت ايضا في سورة الانسان وسورة المطففين وفي مواضع اخرى متفرقة.

والروح ــ بفتح الراء ــ في الاصل بمعنى النفس ــ بفتح الفاء ــ ويطلق كناية عن الفَرَج والراحة باعتبار ان الانسان اذا استراح من ضيق نفسي يتنفس الصعداء قال تعالى (وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[18] اي من فَرَجه وتنفيسه وقيل انه بمعنى الرحمة. والريحان فسر في اللغة بالرزق وبالنبات طيب الرائحة. ومعنى الآية أن المقربين يُقدِمون حين الموت على رَوح وريحان وجنة نعيم وبهذا ايضا يمتازون عن اصحاب اليمين فانهم انما يردون الجنة بعد مرورهم بحشر وحساب وانما يُلقّون سلاما حين الموت والمقربون يردون من حين الموت على سرور وراحة ورزق كريم وجنة نعيم.

والمقربون كما مر ليسوا من اصحاب اليمين بل يمتازون عنهم بأن الله تعالى قرّبهم اليه. وأخطأ من ظنّ أن من سبق الى الايمان بالانبياء ينطبق عليهم ذلك فهؤلاء من المتقربين بأعمالهم لا من المقربين والا لانطبق العنوان على كل أصحاب اليمين او كثير منهم او على الاقل على السابقين منهم ولم يكن وجه حينئذ لتثليث الطوائف. بل المقربون هم الذين أنعم الله تعالى عليهم بنعمته الخاصة واجتباهم وعصمهم من الزلل والخطأ والذنوب وقد ورد التعبير بالمقربين عن السيد المسيح عليه السلام في قوله تعالى (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ).[19] وقال بشان سيدنا موسى عليه السلام (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا)[20] فهو تقريب من الله تعالى لا تقرب من العبد.

ويلاحظ أنه لم يذكر في هذا المقام صفة السبق فلم يقل فاما ان كان من السابقين بل ذكر كونهم مقربين فقط مما يدلّ على أنّ هذا هو ما يميّزهم عن غيرهم ومن هنا رجّحنا في بدو السورة أن يكون قوله تعالى (اولئك المقربون) لتحديد المصداق لا لبيان الجزاء وذكرنا أن التقريب من الله تعالى انما يحصل لهم في هذه الحياة وأنه تعالى يتعقب تكونهم قبل الولادة وبعدها ويبعّدهم عن كل ما يخلّ بقداستهم وطهارتهم حتى في الصغر بل حتى ما يوجب سقوطهم من أعين الناظرين حتى لو لم يكن محرّما. قال امير المؤمنين عليه السلام (وَلَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ (صلى الله عليه وآله وسلّم) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ..).[21]

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ... اي فيقال له سلام لك. (ومن اصحاب اليمين) الثانية متعلقة به اي هم يسلمون عليك فيكون بشارة له بانهم ينتظرون قدومه. والسلام في الاصل بمعنى الامن والسلامة ولكنه كناية عن التحية وعدي باللام مع انه يعدى بـ (على) لانه حكاية عن سلام اصحاب اليمين. وقد مر ذكر اصحاب اليمين في اول السورة. وقيل تقديره انت من اصحاب اليمين وعليه فيمكن أن يكون إلقاء السلام عليه بمعناه الاصلي لا التحية ومعناه أن الملائكة يبشرونه بأنه في الأمن والسلام المطلق لانه من أصحاب اليمين.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ... مرّ التعبير عنهم بالضالين المكذّبين ولعل الوجه في تغيير العبارة أنهم هناك ضلّوا طريق الهداية فكذّبوا بالقرآن وبالرسالة وباليوم الآخر وأما الضلال في هذه الآية وهو ضلالهم يوم الجزاء او يوم الموت فلعل المراد به أنهم ضلوا طريق الجنّة وسلكوا طريق الجحيم لانهم كذّبوا من قبل. قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)[22] ولذلك قدّم التكذيب على الضلال هنا.

والنزل ما يقدّم للضيف في اول قدومه والتعبير به هنا استهزاء واضح. والحميم: الماء الحار شديد الحرارة كما مر. والتصلية: الاحراق. والجحيم: النار المتأجّجة.

إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ... اشارة الى القرآن الكريم او الى الخبر المذكور. والحق: الامر الثابت. واليقين فعيل بمعنى الفاعل من يقن اذا زال عنه الشك ووضح واوجب الاستقرار والسكون وبهذا الاعتبار يطلق على العلم الموجب للسكون والاطمئنان وهذا من اضافة الصفة الى الموصوف او العكس فعلى الاول يكون المعنى أن هذا أمر متيقن حق اليقين كقولك زيد عالم حق العالم اي انه ليس مما يطلق عليه اليقين بالتسامح العرفي وعلى الثاني يكون المعنى أنه حق متيقن اذ ربما يكون الامر متيقنا ولكنه خاطئ.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ... تفريع على ما ذكر من أن القرآن او هذا الخبر حق متيقن والوجه في ترتب التسبيح على ذلك أنه لا ينبغي أن يتوهم في ما يقوله تعالى الا كونه الحق المتيقن وحيث كان التعبير يوهم ذلك أمر بتسبيحه تعالى عن كل ما لا يليق به. وقد مر تفسير الآية.

والحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطاهرين.

 


[1] تهذيب الاحكام ج2 ص313

[2] ق: 21- 22

[3] الشعراء: 210- 212

[4] الحجر: 9

[5] عبس: 13- 16

[6] التحريم: 6

[7] الحديد: 25

[8] الزمر: 6

[9] الحاقة: 41- 43

[10] يرسف: 2

[11] ص: 67- 68

[12] ق: 16

[13] الانفال: 24

[14] الرعد: 33

[15] النحل: 32

[16] الانفال: 50

[17] النساء: 78

[18] يوسف: 87

[19] ال عمران: 45

[20] مريم: 52

[21] نهج البلاغة الخطبة 192 المعروفة بالقاصعة

[22] النساء: 168- 169