فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ... الفاء لتفصيل بيان الازواج الثلاثة المذكورة في الآية السابقة وهم أصناف البشر يوم القيامة. والميمنة مصدر ميمي من اليُمن وهو الخير والبركة. يقال ان الاصل فيه هو الجانب الايمن وانما عبروا عن الخير والبركة باليمين والميمنة تفاؤلا بالطائر الذي يأتيهم من اليمين كما أن المشأمة من الشؤم وهو مأخوذ من الشمال تشاؤما بما يأتيهم من جانب الشمال. والمشأمة: الميسرة. ومهما كان أصل الكلمة فالمراد بهم هنا أصحاب الخير والبركة والسعادة وهم اصحاب الجنة.
والمذكور في التفاسير أن قوله (اصحاب الميمنة) مبتدأ وقوله (ما اصحاب الميمنة) خبره و(ما) استفهامية للتعجيب والتفخيم وكان الاصل ان يقال ما هم اي كيف هم وما أعظمهم ولكن أبدل الضمير بالاسم الظاهر لتكرار الكلمة والاهتمام بها كقوله تعالى (الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ).[1] وهكذا قالوا في قوله تعالى ( واصحاب المشئمة ما اصحاب المشئمة) الا ان التعجيب هناك ليس للتفخيم بل للتفظيع اي ما افظع حالهم.
ولكن الظاهر ان (ما) استفهامية وأن الاصل في هذه الجملة أن تكون هكذا (فاصحاب الميمنة واصحاب المشئمة والسابقون السابقون) وبذلك يذكر تفصيل الازواج الثلاثة ولكنه عند ذكر الفريقين الاولين ذكر استفهاما عن حقيقتهم (ما اصحاب الميمنة؟) و(ما اصحاب المشئمة؟) وهو سؤال يفرضه الحال كأنه يعبّر عن حال المستمع والقارئ ولا يفيد اي تعجيب او تفخيم او تفظيع. ولم يقل (من هم اصحاب الميمنة) لانه لا يريد ان يُعرّف الاشخاص وانما يريد ان يبين حقيقة الفرق فهذا الاستفهام جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وإثارة هذا السؤال تفيد تلهّفا لمعرفة الجواب الذي سيأتي فيما بعد.
وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ... تبين الحال فيها والمشأمة مصدر ميمي من الشؤم وهو ضد اليمن اي الشر والشقاء واصله كما قالوا من الشمال اي الجانب الايسر.
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ... وهذا هو الصنف الثالث وهم الافضل والاشرف. والسبق هو التقدم على الأقران في أمر مّا. واختلفوا في المراد بهذا التكرار فقيل ان الثانية خبر للاولى ولكن على تأويل أن السابقين لا يمكن الاخبار عنهم وتوصيفهم بأكثر من أنهم سابقون فيكون الابهام في توصيفهم نظير الابهام في الفريقين الآخرين حيث أتى باستفهام التعجيب وهذا نظير قول الشاعر (وشعري شعري) اي هو معروف بفصاحته وبلاغته فلا حاجة الى تعريف. وقيل انه خبر ولكن باختلاف موضع السبق فالسابقون الى الطاعة والعبادة سابقون الى الجنة والقرب لدى الله تعالى شأنه.
ولكن الظاهر ان الثانية للتأكيد بمعنى تأكيد مفهوم السبق نظير قولك (زيد عالم عالم) كأنك تقول: عالم حقيقي وليس كغيره ممن يُدعى عالما بالمسامحة. وعليه فالمعنى: الذين سبقوا الآخرين سبقا بعيد المدى بحيث لا يمكن لغيرهم من الصالحين الوصول اليهم وبذلك يتحدد معنى السابقين وأنهم صنف خاص وليسوا من سابقي أصحاب اليمين اذ لا شك أن في مجموعة أصحاب اليمين ايضا درجات مختلفة فمنهم المتقدمون ومنهم المتأخرون ولكن السابقين يختلفون عنهم باجمعهم اختلافا جوهريا يستدعي اعتبارهم فريقا خاصا وعليه فهذا التكرار وان كان للتأكيد الا انه يفيد التقييد بمعنى خاص. وسيأتي مزيد توضيح له.
واختلفوا ايضا في المراد بالسابقين فقيل هم الأنبياء عليهم السلام وهذا أفضل ما قالوا ولكنه غير صحيح من جهة أنه لا يوافق قوله تعالى (وقليل من الآخرين) اذ ليس في الآخرين منهم الا واحد وهو الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلّم وسيأتي ان المراد بالآخرين المعاصرون لنزول الآيات ومن بعدهم.
وقيل هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة من المسلمين وقيل هم الذين صلّوا إلى القبلتين وقيل هم السابقون إلى الهجرة او إلى الصلوات الخمس وقيل هم أهل القرآن وهذه الاقوال كلها باطلة اذ لا ينطبق على الاولين ومن الواضح أن الآيات لم ترد في خصوص هذه الامة بل هي تقسّم البشر الى الاصناف الثلاثة والمراد بالاولين منهم البشر الاولون في مقابل الآخرين كما مر آنفا.
وقيل نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار الذي ذكر في يس وعليّ بن أبي طالب عليه السلام وكل رجل منهم سابق أمته وعليّ أفضلهم. وضعف هذا القول واضح اذ لا ينطبق على ثلّة من الاولين ولا قليل من الآخرين.
وقيل هم السابقون الى اتّباع الانبياء عليهم السلام وهو باطل ايضا اذ يكون الانبياء بأنفسهم خارجين عن كل الاصناف.
وتبين بما ذكرناه في وجه التكرار أن المراد بهم من هم في السبق الى الخيرات في مرتبة عالية جدا بعيدة عن متناول عامة المؤمنين الذين هم أصحاب اليمين وهؤلاء هم حجج الله تعالى على خلقه من الانبياء والأئمة المعصومين عليهم سلام الله.
والحاصل أن الآية تصرح بانقسام البشر يوم القيامة الى ثلاث طوائف ويظهر منه بوضوح عدم التداخل فلا يعتبر المقربون من المراتب العليا في اصحاب اليمين وكذلك العكس مع أن ظاهر العنوان اي (اصحاب اليمين) ربما يشمل الجميع ولكن هذا مصطلح قرآني يراد به فريق خاص من اصحاب الجنة فلا بد من أن يكون هناك ما يميّز المقربين تمييزا جذريا يصحح اعتبارهم طائفة مستقلة في قبال أصحاب اليمين واما اذا اعتبرناهم من الطبقة العليا المميزة بالسبق من اصحاب اليمين او الابرار او نحو ذلك لم يصح التقسيم فان في اصحاب اليمين بعد هذا التقسيم ايضا مراتب كثيرة تختلف اختلافا كبيرا كما أن المقربين ايضا لهم مراتب مختلفة بل واصحاب الشمال ايضا تختلف مراتبهم كما قال تعالى (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)[2] والآيات السابقة عليها تدل على ان المراد بهم اصحاب النار.
فلا يصح التقسيم الا بوجود مميز جوهري للمقربين وهو السبق بدرجة لا يمكن للآخرين اللحاق بهم ولا يمكن ذلك الا اذا كان ذلك بموهبة وعناية خاصة من الله تعالى والا فلو كان مما يكتسب لأمكن للآخرين اللحاق بهم وليس ذلك الا العصمة الالهية التي وهبها للانبياء والمرسلين والائمة الطاهرين عليهم السلام.
ومن هنا يمكن الاستدلال بهذه الآيات الكريمة على صحة ما تعتقده الامامية من عصمة بعض من هذه الامة لينطبق عليهم قوله تعالى (وقليل من الآخرين) ولا ينطبق ذلك على عنوان الصحابة لكثرتهم مع انه لم يقل بعصمتهم احد ولا يمكن القول بها لمن لاحظ سيرة بعضهم فلا يبقى الا القول بعصمة الائمة الطاهرين عليهم السلام.
روى الكليني بسنده عن جابر الجعفي قال قال ابو عبدالله عليه السلام (يا جابر ان الله تبارك وتعالى خلق الخلق ثلاثة اصناف وهو قول الله عز وجل وكنتم ازواجا ثلاثة فاصحاب الميمنة ما اصحاب الميمنة واصحاب المشئمة ما اصحاب المشئمة والسابقون السابقون اولئك المقربون فالسابقون هم رسل الله عليهم السلام وخاصّة الله من خلقه...)[3]
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ... الجملة استينافية. وفيها احتمالان: الاول أن يكون هذا شروعا في بيان جزائهم يوم القيامة فأوله وأفضله هو القرب لدى الله تعالى. والثاني أن يكون هذا تحديدا لمصداق السابقين لا بيانا لجزائهم اي ان السابقين السابقين هم المقربون اي الذين أنعم الله تعالى عليهم في الدنيا بأن قرّبهم اليه وجعلهم خاصّته واجتباهم وزكّاهم وعصمهم من الزلل والخطأ وتعقّب حياتهم في الدنيا من اول يوم ولادتهم بل قبل الولادة فصُنِعوا على عينه وبعنايته الخاصة ليكونوا مثلا وأئمة وقادة للبشرية في الصراط المستقيم.
والاحتمال الثاني هو الاقرب وسيأتي ما يؤيده في آخر السورة المباركة. والتعبير يفيد الحصر حيث أتى بالخبر محلى بلام التعريف اي ليس المقربون الّا هؤلاء. والمراد بالقرب القرب المعنوي اي قرب المكانة والمنزلة لدى الله تعالى. وهناك فرق بين المتقربين والمقربين فالانسان بالطاعة والعبادة يتقرب الى الله تعالى اي يحاول ان ينال منزلة لديه تعالى او كرامة او حاجة واما المقربون لديه فهم الذين قرّبهم وأكرمهم بكرامته الخاصة وعصمهم من الزلل وصُنِعوا على عينه تعالى كما قال في شأن موسى عليه السلام (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي).[4] فالتقرب فعل العبد والتقريب فعل الله سبحانه.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ... قيل ان الظرف خبر بعد خبر. ولكن الاولى أن يكون الظرف متعلقا بالتقريب فيكون المراد بالنعيم نعيم القرب اي ان تقريبهم وتنزيلهم في المكانة المقربة لدى الله تعالى يتحقق بكونهم في جنات النعيم وبناءا عليه فالمراد بالجنات معنى آخر غير ما هو المتبادر منها كما أن نعيمها من سنخ آخر لا يعرفه الا من نال لذّة القرب بل لذّة التقريب.
ويؤيد هذا الاحتمال الفصل بين ذكر كونهم في الجنات وتفصيل النعم التي فيها مما يوحي بأن تلك النعم من واد آخر غير كونهم في جنات النعيم. ولعل الاتيان بالجمع للتفخيم والتعظيم فالمقرب لدى الله تعالى كأنه يعيش في جنات من النعيم لا في جنة واحدة. وقيل ان الجمع باعتبار أن كل واحد منهم في جنة. وهذا لا باس به ولكن بمعنى أن التعدد بلحاظ اختلاف مراتب القرب.
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ... خبر لمبتدأ محذوف اي هم ثلّة.. واختلفوا في معنى الثلّة ففي كتاب العين (الثلة: جماعة من الناس كثيرة) ولم يرد التوصيف بالكثرة في غيره من كتب اللغة ولكن يتبين من توصيف المقربين من الاخرين بالقلة انهم في الاولين موصوفون بالكثرة. ومن الواضح أن المراد بالآخرين في عهد النزول المعاصرون لنزول القرآن ومن بعدهم ممن يعتبرون من هذه الامة والمراد بالاولين في مقابلهم الامم السالفة فما قيل من أن المراد أوائل هذه الامة وأواخرها خطأ واضح وانما لجأوا اليه لاستبعادهم أن يكون السابقون في هذه الامة أقل من الامم السابقة والسبب عدم التأمل في معنى السبق وبناءا على ما ذكرناه يرتفع الاستبعاد فان الانبياء في الامم السابقة هم السابقون وهم ثلة عظيمة ومن هذه الامة لا ينطبق هذا العنوان الا على محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ... السرر جمع سرير ما يستقر عليه الانسان في خفض عيش ودعة وكأنه مأخوذ من السرور. والوضن ــ كما في العين ــ نسج السرير وأشباهه بالجوهر والثياب. والغرض كونها سررا أنيقة مزينة. وتوصيفهم بأنهم على سرر لبيان أنهم متفرغون للتلذذ والتنعم لا يشغل بالهم همّ ولا يحزنهم شيء.
مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ... الاتكاء ايضا من أمارات الترف والرفاه وفراغ البال. وكونهم متقابلين ينبئ عن استئناس بعضهم ببعض وتجمّعهم حول بعض للحديث عن النعم الالهية. والتقابل افضل أنحاء المجالسة.
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ... الطواف: المشي حول الشيء ولا يتعدّى بـ (على) ولكنه ضُمّن معنى العرض اي يكررون العرض عليهم وهم طائفون حولهم وينتقلون الى غيرهم من الجلساء المتقابلين. والولدان جمع الوليد وهو الخادم الشاب والظاهر أن توصيفهم بالخلود بمعنى أنهم لا يشيبون فيبقون دائما على صفة كونهم ولدان. وظاهر الآيات أنهم خلق خلقهم الله لهذا الامر اي خدمة أهل الجنة تكريما لهم. وهناك روايات ضعيفة تدل على أنهم من أولاد البشر في الدنيا وهو بعيد.
ومهما كان فلا استبعاد في اصل الاستخدام ولو فرض تكليف رجال من الانس صالحين مؤمنين بأن يخدموا المقربين كالانبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين عليهم جميعا سلام الله فلا أظن أحدا منهم يتثاقل عنه او يشعر باحتقار ومذلة او تعب بل هو غاية العزة والشرف وهو مطلوب لهم ومحبوب لديهم بل مما يقلقهم هو أن يكونوا لاختلاف الدرجة والمقام والبعد الشاسع بينهم وبين المقربين في موضع لا يحظون بلقائهم وزيارتهم فلو انيطت بهم خدمتهم فان ذلك غاية المنى.
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ... الاكواب جمع كوب وهو القَدَح اناء للشرب لا عروة له ولا خرطوم. والاباريق جمع إبريق اناء له عروة وخرطوم يستعمل لصب الماء ونحوه وقيل اصله فارسي وهو آبريز وقيل هو من البريق حيث انه غالبا يصنع مما يلمّع ظاهره ومنه جارية ابريق اي يبرق جسمها بياضا وصفاءا.
والكأس اناء الشرب ايضا والظاهر أنها لا تطلق الا على اناء يشتمل على الخمر والمراد بها جنس الكأس فتصدق على الجمع والمفرد. والمعين: العين التي يجري ماؤها على الارض والمراد هنا الخمر الذي يجري على الارض في أنهار. والباء في قوله (باكواب) متعلق بـ (يطوف) اي يطوف الولدان عليهم بالاكواب وكؤوس الخمر.
لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ... الضمير في (عنها) يعود الى الخمر او الكأس. وهما يذكران ويؤنثان. والصَّدع في الاصل شقّ في شيء له صلابة واستعير للصُّداع اي وجع الرأس فالمعنى لا يصيبهم صداع عنها اي بسببها من تأثير السكر كما يحصل من خمر الدنيا على ما قيل. وقيل: المراد به التفرق فان السكر يوجب المشاحنة والنزاع بين الاحباب وينشأ منه التفرّق قال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ..)[5] ولكن خمر الجنة لا تسكر فلا توجب التفرق. وقيل بمعنى أنها لا تنقطع عنهم.
والنزيف: الصب الغزير. واستعير لزوال العقل يقال نُزِف ــ مبنيا للمجهول ــ من السكر اي زال عقله بالمرة فاذا قُرِئت الكلمة هنا كذلك كما في قوله تعالى (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ)[6] فالمعنى واضح واذا قرئت مبنيا للمعلوم كما هو المشهور فمن باب أنزف القوم اذا نزف ماء بئرهم وهو ايضا بنفس المعنى. هذا وقد مرّ بعض الكلام حول خمر الجنة في تفسير قوله تعالى (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ).[7]
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ... عطف على الكأس فهي ايضا مما يطاف عليهم. والفاكهة ما يؤكل للتلذذ. وأهل الجنة لا يأكلون لسدّ الجوع فلا جوع هناك ولكن للتلذذ فكل ما يؤكل هناك فاكهة. والتخير: الاختيار، واصله طلب الخير ثم اطلق على كل ما يختاره الانسان وان كان شرا باعتبار انه لا يختاره الا وهو يجد فيه خيرا له وان اشتبه الامر عليه.
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ... عطف على الفاكهة. والاشتهاء: الميل والرغبة. والمهم في الامرين عدم التحديد بنوع فالفاكهة كما يختارون ولحم الطير كما يشتهون. ولعل التخصيص بذكر الطير لكونه أفضل اللحوم ولا تحديد هناك فلهم ما يشاءون من اللحوم وغيرها. وأهل الجنة وخصوصا المقربون يتناولون الفاكهة ولحم الطير بدون واسطة ايضا كما مر في قوله تعالى (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ)[8] ولكن ربما يكون الاخذ من يد الخدم في مواضع التجمع والتقابل على السرر ألذّ لهم.
وَحُورٌ عِينٌ... قد يكون عطفا على الولدان اي كما يطوف عليهم الولدان للخدمة كذلك تطوف عليهم الحور العين. او هو مبتدأ خبره محذوف اي وفيها حور عين او ولهم حور عين. وقرئ (وحورٍ عينٍ) بالجر فيكون عطفا على أكواب بتقدير فعل آخر اي ويُزوّجون بحور عين. او على جنات بمعنى أنهم محاطون بهنّ. وقد مر بيان معنى الحور قريبا في تفسير سورة الرحمن. والعِين جمع عيناء اي المرأة واسعة العين. وهناك بحث في وجه تخصيص الرجال بالحور العين ذكرناه في تفسير قوله تعالى (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ).[9]
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ... تشبيه لهن باللؤلؤ في الصفاء والجمال. والامثال: الاشباه ولعل الاتيان به لتأكيد التشبيه. والمكنون: المستور. ولعل التوصيف به اشارة الى صونهن من ان يمسهن أحد كما مر في سورة الرحمن ويمكن أن يكون اشارة الى نفاستهن فان كل نفيس يحفظ عادة او يكون للمبالغة في الصفاء فان اللؤلؤ يفقد بعض بريقه اذا مسّته الايدي.
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ... مفعول لاجله والباء للسببية اي ننعم عليهم بكل ذلك جزاءا لهم بسبب اعمالهم في الدنيا ولم يقل جزاءا بما عملوا بل بما كانوا يعملون مما يدل على الاستمرار ولذلك ورد في الاثر الحثّ على الاستمرار على العمل الصالح وان كان قليلا. وهذه الآية تقطع آمال المبطلين فان كان المقربون يؤتون نعيم الجنة جزاءا لعملهم المستمر فكيف بغيرهم؟! فلا بد من شدّ العزم وبذل الجهد.
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً... اللغو: الكلام الباطل الذي لا يفيد شيئا بل ربما يضر. والتأثيم أن يتهم بعضهم بعضا بالاثم. والآية تصف اجتماعهم وهم متكئون على السرر متقابلين وأنهم لا يتحدثون بما يسيء الى أحد منهم وليس هناك اثم من أحد حتى يتبادلوا التهم كما هو الحال في مجتمعات الدنيا حتى بين المؤمنين والصالحين فكل ما يعكّر جو الصفاء والمودة بعيد عن محافلهم.
إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً... استثناء منقطع يفيد التأكيد على انتفاء اللغو والتأثيم فان معناه أنه لو كان بينهم حديث لغو لكان ذلك قولهم سلاما وهذا ليس لغوا كما هو واضح فلا لغو نهائيا. والقيل كالقول اي الا قولهم سلاما والتكرير لبيان تكرر السلام اما منهم او من الملائكة كما قال تعالى (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ..).[10] والسَّلام والسِّلم والسَّلامة بمعنى واحد وهو ما يقابل الابتلاء بالآفات والعاهات الظاهرة والباطنة وهو من غير الله تعالى دعاء يراد به التحية.
[1] الحاقة: 1- 2
[2] الانعام: 132
[3] الكافي ج1 ص271 باب فيه ذكر الارواح التي في الائمة عليهم السلام
[4] طه: 39
[5] المائدة: 91
[6] الصافات: 47
[7] الطور: 23
[8] الرحمن: 54
[9] الطور: 20
[10] الرعد: 23- 24