المشهور انها سورة مكية وهو الذي يبدو من سياق آياتها وان احتمل كونها مدنية. وموضوعها يوم القيامة وما يسبقه من حوادث وحالة الانسان في أوّل ما يواجه الحادثة ونتيجة اعماله التي يراها هناك.
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا...
(اذا) ظرفية تفيد معنى الشرط ولكن قد لا يكون لها جواب. ومثله كثير كقوله تعالى (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ).[1] ولا حاجة الى تقدير فان الغرض التنبيه على الامر العظيم الذي يقع لا محالة في موعده.
ويمكن أن تكون ظرفا لفعل مقدر نحو (اذكر).
وسيأتي احتمال أن يكون قوله (تحدث اخبارها) جوابه.
والزلزال مصدر زلزل والاصل فيه زلّ اي زلق ودحض عن مكانه. وتكرار (زلّ) يفيد تكرر الزلق وهو ما يشاهد من اضطراب الارض.
و(زلزالها) مفعول مطلق. والاضافة الى الارض تفيد ان هناك زلزالا عظيما متوقعا وهو الذي يحدث ذلك اليوم كما قال تعالى (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).[2]
واتى بالفعل مبنيا للمفعول لان هناك من يزلزلها وهو الله تعالى.
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا...
الاثقال جمع ثقل بفتحتين بمعنى متاع المسافر وغيره او ثقل بكسر وسكون اي الحِمل الثقيل. والمراد على ما يبدو اجساد الموتى.
ولا وجه لما قيل من أنّها تخرج كنوزها فلا قيمة للكنوز ذلك اليوم. نعم يحتمل ان يشمل الاثقال ما في جوفها من المعادن الذائبة بمعنى أن البراكين تشتعل مع ذلك الزلزال العظيم ولعل هناك براكين جديدة تحدث ذلك اليوم ليكون هناك دمار شامل ولتزيد المشهد مهابة وترويعا.
ولو اريد اخراج الاجساد فهو ليس على حقيقته بل هو تعبير رمزي والقصد منه إحياء الموتى حيث إنهم غالبا دفنوا في الارض فكأنّ الارض تخرجهم من باطنها والواقع انهم لا يبقون كاجساد والله تعالى يعلم كيف يحييهم ويجمعهم بل ان بعضهم لم يدفن في الارض وانما تفجرت طائرته في الهواء وتلاشت اجزاؤه او احترق واصبح رمادا او سقط في البحر فاكلته الاسماك وغير ذلك.
فالخروج من الارض او من الاجداث كما قال تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)[3] تعبير عن إحيائهم وإحضارهم وان لم يكونوا في جدث.
وهنا سؤال: الى أيّ حادثة تشير الآيات هنا؟
فهل المراد ما يحدث من زوال النظام الكوني الموجود الذي اشير اليه في القران بالنفخة الاولى ام ما يحدث يوم قيام الناس في النفخة الثانية؟
ويلاحظ ان الارض في النفخة الثانية غيرها في النفخة الاولى فلا ينفع القول بانهما متعاقبتان. وذلك لقوله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ).[4]
ولا يبعد ان تكون الآية الاولى اشارة الى زوال النظام الكوني الذي يصاحبه الزلزال والثانية اشارة الى احياء الموتى بالنفخة الثانية.
وعليه فلا بد من حمل إخراج الاثقال على إحياء الموتى لان اشتعال البراكين انما يحدث على هذه الارض وهو من حوادث يوم زوال النظام فالذي يختص بالارض الجديدة هو إحياء الموتى.
ولعل ذلك هو الوجه في تكرار كلمة الارض.
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا...
عطف على قوله (زلزلت) اي واذا قال الانسان.. والانسان حيّ ذلك اليوم لان الارض اخرجت اثقالها فيستغرب من الارض وزلزلتها او يستغرب من حديثها.
والمراد بالانسان جنسه فهذا شأن الجميع ولا يختص بالكافر كما قيل.
وقوله (ما لها) اي ماذا حدث لها؟! والضمير يعود الى الارض. والاستفهام للتعجب فانه يرى ما لم يكن بالحسبان.
وفي قوله (يومئذ تحدث اخبارها) احتمالان:
الاول أنه تكملة لمقولة الانسان فالذي يستغرب منه الانسان ولم يكن يتوقعه ان تتكلم الارض وتخبر عما وقع عليها فهي تبدو كاحد الشهود على جريمة الانسان طيلة بقائه على ظهرها يتنعم من نعمها ولا يشكر منعمه بل يعصيه ويكفر به.
وعليه فقوله (بان ربك اوحى لها) يمكن ان يكون ايضا من تمام كلامه فهو يعلم ذلك اليوم ان هذا ليس امرا طبيعيا وانما هو بوحي من الله تعالى.
ويمكن ان يكون اضافة من الله تعالى كجواب له وان كان في الظاهر مكملا لكلامه.
الاحتمال الثاني: أن يكون استغراب الانسان من زلزلة الارض فهي شيء عظيم لم ير الانسان طيلة حياته مثلها في زلازل الارض.
وعليه فقوله (يومئذ تحدّث اخبارها) جواب لقوله (اذا زلزلت الارض زلزالها) وليس من تتمة كلام الانسان وكذلك الاية التالية.
والباء في قوله (بأن ربك اوحى لها) سببية اي ان الارض تتحدث بوحي من الله تعالى واللام بمعنى (الى) فان الايحاء يتعدى بها.
ويمكن ان يكون الخطاب في قوله (ربك) للرسول صلى الله عليه واله وسلم تشريفا وتكريما له ويمكن ان يكون للانسان.
والمراد بالايحاء الامر التكويني كقوله تعالى (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا..).[5]
ولكن ما هو المراد بحديث الارض هل هو بصورة كلام يخلقه الله تعالى فيها كما يقال وهو على كل شيء قدير ام هو تصوير يظهر على الارض بكيفية لا نعلمها يظهر به كل ما حدث عليها ام امر اخر؟
ثم اذا قلنا بان الارض يوم القيامة غير هذه الارض كما ورد في القرآن الكريم وهذا الحديث من حوادث يوم القيامة فكيف تحدّث تلك الارض بما حدث على هذه الارض؟
يمكن ان يكون كل ذلك تعبيرا عن بروز الحقائق ذلك اليوم. ويمكن ان يشاهد على الارض بعض ما وقع على ارض الدنيا من الحوادث او كلها.
ولعل ما يتغير واقعا هو الانسان فهو الذي يكشف عنه الغطاء ويرى من وراء القرون الماضية كل ما حدث على الارض وكأنها تقع في ذلك اليوم.
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ...
صدر صدْرا اي خرج من المكان بعد وروده فيه كما يعبر به عن خروج الابل عن الماء بعد ورودها. فالتعبير يحكي عن تفرق الناس بعد اجتماعهم كأنهم يصدرون عن ذلك الموقف. فالظاهر ان المراد توجههم الى الحساب وبعضهم الى منازلهم بدون حساب كما قال تعالى (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ).[6]
وأشتاتا حال منهم اي متفرقين جمع شَتّ وهو مصدر بمعنى الفعيل اي الشَتيت. والمعنى أنهم لا يصدرون الى جهة واحدة فكل منهم يذهب الى مجمعه او الى منزله. والهدف ان يرى عمله او نتيجة عمله ان كان خيرا فيرى خيرا وان كان شرا يرى شرا.
وهم لا يرون بانفسهم بل يُرونها شاءوا ام ابوا ولم يذكر الفاعل وهو الله تعالى او الملائكة بأمره. و(اعمالهم) مفعول ثان للاراءة. ومفعوله الاول الضمير العائد الى الناس.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ...
هذه الآية تحكي الحال في الدنيا حيث اتى بالفعل المضارع. والفاء للتفريع اي نتيجة هذا الكلام ان الذي يعمل في هذه الدنيا مثقال ذرة خيرا او شرا يراه هناك.
والمثقال: ما يوزن به، ماخوذ من الثِقل.
والذرّة. الشيء الصغير جدا. قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (اصل واحد يدل على لطافة وانتشار ومن ذلك الذر صغار النمل. الواحدة ذرة وذررت الملح والدواء. والذريرة معروفة) والذريرة فتات من قصب الطيب.
والغرض ان الله تعالى لا يفوته شيء مهما كان صغيرا او كبيرا. وكثيرا ما نعمل شيئا خيرا او شرا ولا نحسب له حسابا والله تعالى يحاسب عليه قال تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[7]
بل قد لا نعلم به فهو مما يخفيه الانسان عن نفسه كالنوايا التي لا ينتبه لها الانسان ولكنه اذا نُبّه بها يعلم انها هي التي دعته الى العمل ولكنه خدع نفسه وقال انه لا يقصد ذلك وهذا كثير متكرر في اعمالنا قال تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ).[8]
والله تعالى لا يعذب على ما ينويه الانسان اذا لم يعمل به كما ورد في الروايات ولكن الذي يخفيه حتى عن نفسه نية العمل فهو يعمل ولكن يظهر لنفسه او لغيره غرضا والذي يدعوه اليه امر اخر.
وهناك من الاعمال ما لا يراه الانسان يوم القيامة وهو كثير ايضا سواء من العمل الصالح او الفاسد.
اما الاعمال الصالحة فقد يحبطها الانسان بذنب وقد ورد التحذير في القرآن عن عدة امور توجب حبط الاعمال منها الشرك والكفر وان يقتصر الانسان في اعماله على الاهداف الدنيوية والارتداد والنفاق وعدم احترام الرسول صلى الله عليه واله وسلم.
وأما المعاصي فالتوبة قد تمحوها ولكن الذنب يؤثر في درجة الانسان حتى لو لم يعاقب عليه وحتى لو اُخفي عنه وعن غيره اذ لا شك ان الناس ليسوا بدرجة المعصومين والذي اذنب وتاب ليس كمن اتقى ولم يذنب فما ورد من ان التائب من الذنب كمن لا ذنب له محمول على عدم العقاب والفضيحة ولا يمكن ان لا يؤثر في درجته يوم القيامة.
وهناك من الاعمال ما يكفَّر اي يُستر باعمال اخرى ولعل بعض السيئات تتبدل حسنات كما ربما يظهر من قوله تعالى (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ).[9]
ولا شك في ان المتقين الذين يدخلون الجنة لا يرون خطاياهم ولا خطايا اصحابهم والا لم تبق لهم لذة في العيش والنعمة بل انهم لا يشعرون بما كان بينهم من العداء الشخصي قال تعالى (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).[10]
فالظاهر ان المراد بما ورد هنا وامثالها مما يدل على حضور جميع الاعمال هو الاصل وترد عليه استثناءات.
ويبعد ان يقال ان الاية الاولى خاصة بالمؤمنين الصالحين والثانية خاصة باهل النار اذ لا يبعد ان يكون بعض اعمال اهل النار تفيدهم يوم القيامة ولو من جهة تخفيف العذاب ولذلك فهم ايضا درجات قال تعالى (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).[11]
والمراد برؤية العمل قد يكون نفسه كما هو ظاهر آيات كثيرة وقد يكون المراد رؤية نتيجته من ثواب وعقاب.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد واله الطاهرين
[1] الواقعة : 1
[2] الحج : 1
[3] يس: 51
[4] ابراهيم: 48
[5] النحل : 68
[6] طه: 108
[7] الكهف: 49
[8] البقرة: 284
[9] الفرقان: 70
[10] الحجر: 47
[11] ال عمران: 163