سورة الزخرف سورة مكية تتناول بعض اوهام المشركين وتردّ عليهم وتندّد بهم وتذكر بعض الانبياء السابقين وما جرى بينهم وبين قومهم وتنتهي بذكر بعض اوصاف القيامة والجنة والنار.
حم... من الحروف المقطعة وقد مرّ الكلام حولها في تفسير سورة يس.
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ... المراد بالكتاب القرآن الكريم وقد أقسم تعالى بالقرآن على أنه جعله بمستوى فهم العامة والحال أنه في ام الكتاب أسمى من تناول الناس. والكتاب مصدر بمعنى المفعول اي المكتوب وهو بمعنى المجموع. قال في معجم مقاييس اللغة (كتب اصل صحيح واحد يدل على جمع شيء الى شيء..) فالمراد هذه المجموعة من الالفاظ والمعاني سواء كتبت في مصحف ام لا.
والمبين من الابانة بمعنى الاظهار وله معنيان: الموضح لغيره والامر الواضح بنفسه، والقرآن مبين بمعنى انه أبان الحق من الباطل في المعارف الالهية وهي اهم ما يعرفه الانسان لانها ترتبط بخالقه ووظائفه تجاهه وبمستقبله الدائم وأظهر للانسان الحقائق المخفية عليه التي لا يصل اليها الا عن طريق الوحي وهي ما تتعلق بالامور الغيبية كصفات الله تعالى وأخبار الملائكة وحوادث يوم القيامة واحكام الله تعالى في ما يتعلق باعمال الانسان. وهو مبين ايضا بمعنى انه واضح لا لبس فيه وان كان التعمق والتدبر فيه بحيث يفتح آفاقا جديدة بحاجة الى علم غزير ودقة وتامل وتوفيق من الله تعالى. وهو مجال مفتوح لا ينتهي الانسان من الخوض فيه ولا يبلغ عمقه مهما اوتي من علم ودقة.
ويلاحظ تناسب المقسم به والمقسم عليه حيث اقسم بالقرآن على عظمته وكونه هاديا وموجبا لتعقّل الانسان. والقسم بنفسه ايضا يدلّ على عظمته، لأنّ القسم في الاخبار ربط اعتباري بين كرامة المقسم به وصحة الخبر، وما يقسم به الله تعالى لا يشذّ عن ذلك الا أنه تعالى لا يقسم لاثبات دعوى ليقال كيف يقسم بالشيء نفسه على عظمته وانما يقسم للتأكيد على المضمون فحسب.
و(القرآن) مصدر بمعنى اسم المفعول اي المقروء، والاصل في القراءة ايضا الجمع على ما قاله كثير من اللغويين فاطلاقه على التلاوة من جهة ضم الحروف والكلمات بعضها الى بعض، قال الراغب (ولذلك لا تطلق القراءة على التلفظ بحرف واحد). والظاهر أن المراد بقوله تعالى (جعلناه قرآنا عربيا) الجعل المركب وذلك بلحاظ أنّ قوله تعالى في الآية التالية (وإنّه في امّ الكتاب..) جملة حالية فالمراد أنّا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون والحال أنه في أصل الكتاب مما لا تناله الافهام.
وفي هذا تنبيه على النعمة التي خصّ الله تعالى بها العرب حيث أنزل هذا الكتاب العظيم بلغتهم واهتمّ بهم ليكونوا هم المبلغين عن دينه في آفاق الارض وحمّـلهم هذه المسؤولية الخطيرة. ولكنّ بعضهم ــ مع الاسف ــ لم يحترموا هذه النعمة ولم يؤدّوا واجبههم تجاهها ولم يقوموا بما كُلّفوا به بل ان بعضهم حاول تحريف الدين من أساسه واتبع كثير منهم السلطة الغاشمة الجاهلية واختلقوا الاحاديث لصدّ الناس عن الدين القويم.
ولعل قائلا يقول ولماذا خصّ العرب بذلك وما هي ميزتهم على سائر الشعوب؟
والجواب أن وجه الحكمة لا يعلمه الا الله تعالى ولكن لو لاحظنا الامر لرأينا في العرب من العناصر المفضلة ما لا يعرف قدره الا الله تعالى وهم محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين ولوجودهم في هذه الامة قال تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..)[1] ولولاهم لم تنطبق الآية على هذه الامة فإنّ كثيرا من هذه الامة ومن تسلطوا عليها ومن صَفَّق لهم لم يصدر منهم الا الامر بالمنكر وإشاعته والنهي عن المعروف وإبادته.
وقوله تعالى (لعلكم تعقلون) ليس للترجي كما يقال حتى يبحث عن وجه نسبة الترجي الى الله تعالى بل معناه ان كون الكتاب بِلُغَتكم يهيّء الارضية الصالحة لتعقّلكم وإدراككم للحقائق ولكن الموانع ربما تمنع من حصول ذلك. والعقل هو المنع والحبس. ويطلق على إدراك المفاهيم والمعاني باعتبار أنّ الانسان يحفظ هذه المفاهيم في ذهنه ويحبسها.
وام الكتاب اصل الكتب السماوية فان الامّ بمعنى الاصل اي المنشأ والمراد بالكتاب جنسه فيشمل كل ما نزل من السماء. ومنشأ كل الكتب السماوية وكل ما يوحيه الله تعالى الى أنبيائه ليبلّغوه الى الخلائق من حقائق عالم الغيب والاحكام الشرعية هو ما في علمه تعالى من هذه الحقائق، وقد ورد التعبير عنه بأم الكتاب في قوله تعالى (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)[2] وليس هناك شيء آخر وراء علمه الا أن المراد ليس هو العلم بنفسه بل المراد مجموعة من الحقائق لا يعلمها الا الله تعالى.
وقوله (لدينا) صفة لام الكتاب اي أصل الكتب الذي هو لدينا. وهذا الوصف توضيح وليس احترازا اذ ليس للكتب أصل غيره. ويطابق قوله تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)[3] وكذا قوله تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)[4] والمكنون: المستور. اي محفوظ ومكنون عند الله تعالى.
وقوله تعالى (في ام الكتاب) ظرف لقوله (لعليٌّ حكيم) وليس خبرا كما قيل وقوله (لعلي حكيم) خبر إن، فليس المعنى أنّه في ام الكتاب وأنّه ايضا علي حكيم بل هو علي حكيم في ام الكتاب. والدليل عليه ورود اللام على الوصفين فقط.
والظاهر أن المراد بكونه عليا في ذلك المقام انه أعلى من ان تناله الافهام وبكونه حكيما انه منيع لا يصل اليه ادراك الناس فان الحكمة بمعنى المنع وبذلك يتبين تناسب ذكر ذلك مع التنبيه على كونه منزلا في هذه النشأة بلغة عربية ليعقله الناس ويتبين ايضا انّ الواو في هذه الجملة حالية كما ذكرنا اي جعلناه لكم قرآنا عربيا لتعقلوا معانيه والحال انه في اصل الكتاب مما لا تناله الافهام.
و النتيجة ان هذين الوصفين هنا يخصّان بذلك الوجه من القرآن الذي هو مكنون ومحفوظ ولا ينافي ان يكون هذا القرآن المنزل والمصحف الكريم الذي بأيدينا عليا وحكيما بالمعنى الذي ذكره المفسرون وهو أنّ المراد بالعلي علو رتبته بين الكتب السماوية لاعجازه واشتماله على الاسرار وأن المراد بالحكيم انه مشتمل على الحِكَم او انه محكم لا ينسخه كتاب غيره.
وللعلامة الطباطبائي رحمه الله في الميزان رأي حول المراد من الوجه المكنون للقرآن وهو ــ باختصار ــ ان له وجودا بسيطا لا تفصيل فيه ولا اجزاء وانه بهذا الوجود هو الذي نزل في ليلة القدر نزولا دفعيا قبل النزول التدريجي قبلية رتبية لا زمانية وان هذه الآيات والسور تفصيل لذلك الوجود الذي ليس هو من قبيل المفاهيم والمعاني.
وقد تبيّن بما مرّ أنّه لا حاجة الى هذا التأويل الذي لا دليل عليه لا من لفظ الكتاب ولا من الروايات وسيأتي بعض الكلام حوله في تفسير سورة الدخان ان شاء الله تعالى.
وقال ايضا في معنى الحكمة هنا انه بمعنى كونه غير مفصل ولا مجزّأ الى سور وآيات وكلمات واستفاد ذلك من قوله تعالى (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)[5] ولم أجد أساسا لتفسير الحكمة بهذا المعنى من حيث اللفظ وجذوره في اللغة. ولعل معنى الآية ان آياته محكمات من باب توصيف الشيء بصفة معظمه فان منها الآيات المتشابهات قال تعالى (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..).[6] والاحكام كما قلنا بمعنى المنع والمراد منعها من احتمال ارادة خلاف الظاهر فيكون بمعنى المبين والواضح ويقابله المتشابه كما ورد في سورة آل عمران. واما (ثم) فيمكن ان لا يكون للتراخي الزماني او الرتبي، بل التراخي في الذكر كما تقول زيد عالم ثم انه عادل ايضا.
وربما يقال: لعل المراد بالإحكام منعه من التجزئة والفصل بين الاجزاء فيكون بمعنى الامر الموحد المندمج فيه المعاني من دون تفصيل ويكون الاحكام بمعنى المنع. ولكن هذا لا يصح لأنه لو كان القرآن في مرحلة من وجوده ممنوعا من ورود التفصيل فلا معنى لقوله تعالى (ثم فصّلت..) وهذا تناقض واضح.
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ... الضرب هنا كناية عن الصرف، اُخذ من ضرب الحيوان ونحوه لصرفه عن فعله او عن سيره في اتجاه خاص ومنه قولهم (ضرب الغرائب عن الحوض) اي صرف الابل الغريبة عن حوضه فحيث كان الصرف هناك يتحقق بالضرب جعل الضرب كناية عن الصرف. والمراد بالذكر معناه اللغوي لا خصوص القرآن. والصفح جانب الوجه. اي أَنَصرف وجه الذكر عنكم؟ فصرف الوجه عن أحدٍ معناه الاعراض عنه وعدم الاهتمام به، وصرف وجه الذكر عن أحدٍ معناه عدم الاهتمام به في تذكيره بما يحتاج اليه.
وقوله (أن كنتم قوما مسرفين) تعليل للصرف والاعراض بتقدير اللام اي (لأن كنتم..) اي لكونكم.. والخطاب موجّه الى مشركي مكة. والاسراف التجاوز عن الحدّ. والمعنى أنّ اسرافكم وتجاوزكم الحد في الظلم والعتوّ والطغيان او في تكذيب الآيات هل يستوجب الاعراض عن تذكيركم او عن الاستمرار في تذكيركم بالآيات؟! والاتيان بكلمة (قوما) لعله للاشارة الى أنّ الاسراف أصبح ميزة لمجتمعكم وليس صفة فردية.
والفاء في قوله تعالى (أفنضرب) يحتمل أن تكون لتفريع هذا السؤال على الآية السابقة ويحتمل التفريع على جملة مقدرة اي افنهملكم فنعرض عنكم؟! والاستفهام للانكار الابطالي فيقتضي نفي ما بعده اي انه تعالى أرسل لكم القرآن تذكيرا لكم، واسرافكم لا يستوجب الاعراض عن تذكيركم. وهذا غاية في اللطف والرحمة بالعباد حيث إنهم مهما توغّلوا في الكفر وأسرفوا على أنفسهم او أصرّوا على الانكار والتكذيب فانّ الله تعالى لا يمنعهم عنايته بالتذكير.
وقيل: إن الاستفهام للتهديد والمعنى إن أسرفتم في التكذيب وأصررتم على الكفر فسنصرف الذكر عنكم. ولكنه بعيد خصوصا بملاحظة الآية التالية بل الظاهر أن الغرض من الآية الاشارة الى أنّ القوم يتوقّعون أن لا يرسل الله اليهم رسولا منذرا فيعكّر صفو حياتهم ويمنعهم من بعض ما يشتهون كما ورد في كلام مؤمن آل فرعون حيث قال (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ..).[7]
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ... (كم) اسم استفهام يفيد التعجيب من الكثرة اي ما اكثر الانبياء الذين ارسلناهم في الاولين؟! اي في الاقوام السابقين. وقوله (وما يأتيهم..) في مقام الحال فالتعجيب من جهة كثرة المرسلين مع أن الاقوام المرسل اليهم كانوا يستهزئون بهم كما هو الحال في هذه الامة. وفي ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وتشجيع على الصبر وتحمل الاذى وهو في نفس الوقت شاهد على ما مر في الآية السابقة فانه لو كانت سنة الله تعالى جارية على صرف الذكر عن الناس اذا كانوا مسرفين لم يبعث الله رسولا قطّ فكم ارسل رسلا وانبياء في الاقوام السابقة وهم يستهزئون بهم بل كان هذا دأبهم في مواجهة كل نبي ورسول ومع ذلك استمرت الرسالات.
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا... البطش هو الأخذ بشدة وعنف. والضمير في قوله (منهم) يرجع الى كفار قريش اي اهلكنا المستهزئين من الامم السابقة وهم كانوا أشدّ من هؤلاء بطشا. وكان مقتضى السياق ان يقال فاهلكناهم (اي الامم السابقة) وانما عدل عن ذكر الضمير الى ذكر الوصف ليكون تهديدا لكفار قريش. ومع أن الخطاب كان متوجها اليهم في قوله تعالى (أفنضرب عنكم الذكر صفحا..) الا أنه عدل عن مخاطبتهم وخاطب الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم تحقيرا لهم ولا يصح عود الضمير في (منهم) الى الاولين اذ الهلاك شملهم جميعا لا خصوص من كان أشد منهم بطشا مع أنه لو اريد ذلك لقيل (الاشد بطشا منهم).
وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ... المعروف بين المفسرين في تفسير هذه الجملة أنها للتنبيه على أن ذكر الاولين وما جرى عليهم من العذاب الالهي قد مضى في آيات نزلت سابقا من القرآن الكريم. ولكنه تفسير بعيد غاية البعد اذ لا فائدة في هذا التنبيه مع أنه أمر واضح ولا يناسب سياق الآيات مضافا الى أن التعبير عن حديثهم بالمثل بحاجة الى تأويل بعيد وقد قالوا ان الوجه في ذلك أن قصتهم ينبغي أن تُتّخذ مثلا يعتبر بها.
والذي يبدو لي أن المراد بالمثل ما يمثّلهم ويذكّر بهم فان المثل مأخوذ من المثول وهو الانتصاب ولذلك يطلق على كل ما ينصب علامة لشيء والمراد بالمضيّ هلاكهم اي هلك وزال كل ما يمثلهم حيث لم يبق لهم أثر ولا نسل الا بقية من الآثار التي تحكي عن هلاكهم الجماعي فيكون الغرض منه التنبيه على أنهم بادوا وباد نسلهم وبادت حضارتهم وثقافتهم حيث نزل عليهم العذاب الالهي الذي لا يبقي شيئا كما قال تعالى (فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا..)[8] اي كأن لم يكونوا مقيمين فيها وقال ايضا (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ).[9]
[1] آل عمران: 110
[2] الرعد: 39
[3] البروج: 21- 22
[4] الواقعة: 77- 78
[5] هود: 1
[6] آل عمران: 7
[7] غافر: 34
[8] هود: 95
[9] الحاقة: 7- 8