مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا... الجملة تتبع قوله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن..) اي إنّهم مع اعترافهم بأنّ الله تعالى هو خالق الكون جعلوا له من عباده جزءا حيث قالوا بأن الملائكة بنات الله سبحانه وعلى هذا الاساس كانوا يعبدونهم ويصنعون الاصنام لتمثيلهم للعبادة. والآيات تردّ على هذا التوهم. والغرض من هذه الآيات تثـقيف العرب بثقافة الدين ليتسنى لهم معرفة الله سبحانه بقدر الامكان.

وأساس الردّ في الآية الاولى أنّ الولد لا يكون الا جزءا من الوالد ينفصل عنه ويتربّى الى ان يكمل ويكون كوالده. والله تعالى لاجزء له اذ المركب من أجزاء يفتقر في كينونته الى الأجزاء. والله تعالى غني عن كل شيء. ثم ان هؤلاء الذين جعلتموهم جزءا لله تعالى عباد له والعبودية هنا بمعنى الذلة المطلقة فكيف يكون العبد جزءا وولدا؟!

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ... الكفور مبالغة في الكفر والمراد به كفران النعم وقد مرّ في الآيات السابقة ذكر بعض نعم الله سبحانه. وكفرانه هنا يتجلى في انكاره ان النعم من الله تعالى واسنادها الى بعض عباده وهم الملائكة. والمبين اما بمعنى ان كفره واضح او انه يظهر كفره ويعلنه من دون حياء. وفي الجملة اشارة الى ان الانسان بطبعه كفور للنعم فكأنه جُبِل عليه ولا يختص ذلك بكفره بنعم الله تعالى بل هذه صفة مشهودة للانسان فهو يحاول التهرّب من الاعتراف بالجميل حتى من انسان آخر لئلا يطالب بمقابلة الجميل بالجميل.

أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ... (أم) منقطعة ففيها معنى الاستفهام والاضراب. والاستفهام للانكار. والاضراب بمعنى انه على افتراض انهم لا يقولون بكون الملائكة أولادا حقيقيين له تعالى حتى يقال انه كيف يكون له جزء؟! بل يقولون بانه تعالى اتخذهم أولادا واتخاذ الولد ليس بمعنى كونه ذا ولد بل هو أمر اعتباري فالانسان ايضا ربما يتخذ ولدا لمصالح كما لو لم يكن له ولد او كان الولد ممن له ميزة تؤهله للاتخاذ وقد حكى الله سبحانه عن عزيز مصر قوله: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا..)[1] وعن امرأة فرعون قولها: (وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا..)[2] فيمكن ان يتوهم ان الله تعالى وان لم يكن له ولد ولكن لا مانع من ان يتخذ اولادا له.

وهذا التوهم باطل من دون ريب، لأنّ اتّخاذ الولد ايضا لا يكون الا لرفع حاجة والله تعالى منزه عن الفقر والحاجة، قال تعالى: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[3]. وفي هذه الآية يردّ عليهم هذا التوهّم من جهة اخرى وهي أنّهم ينسبون اليه تعالى اتّخاذ البنات حيث كانوا يزعمون أن الملائكة إناث!! فلو فرض ــ وهو فرض محال ــ انه تعالى اتخذ ولدا مما يخلق فلماذا اختار البنات كما تزعمون والحال أنّه أصفاكم بالبنين بمعنى أنّه جعل البنين لكم خاصّة وأنتم تعتقدون أنّ البنين أشرف من البنات؟! ولعله أتى بالفعل المضارع اي (يخلق) لافادة الاستمرار في الخلق وهو يستوجب مزيدا من الاستغراب من قولهم لأنه تعالى مستمر في خلق الذكور والاناث ومع ذلك يتخذ البنات لنفسه ويصفيهم بالبنين باستمرار!!

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ... المراد بما ضرب للرحمن مثلا البنات. وانما عبّر عنهن بذلك تنديدا بهم حيث يجعلون لله البنات وهم يستاءون الى هذه الدرجة اذا ولدت لهم بنت. والمثل ــ بفتحتين ــ بمعنى المثل ــ بكسر الميم ــ اي اذا بشر احدهم بالانثى ظلّ وجهه مسودّا ومع ذلك فهو يجعلها مثلا لله تعالى فان القول بان الملائكة بنات الله يستلزم القول بانهم مثله لأنّ الولد لا يكون الا من جنس الوالد ومثلا له. واسوداد الوجه كناية عن الخجل والاستحياء كأنّه قد اقترف ذنبا لا يغفر او كناية عن شدّة الكآبة والغمّ لما أصابه.

و(ظلّ) فيه معنى الصيرورة والبقاء فكأنّه قال صار مسودّا واستمرّ كذلك. والكظم: الحبس، ولكن لا بقول مطلق فيقال لمن حبس نفسه انه كظيم، ولمن تجرّع الغصّة انه كظيم، كقوله تعالى (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)،[4] ولمن حبس غيظه انه كاظم له قال تعالى (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)،[5] والكُظوم امساك البعير عن الجرّة. وقد ورد تفسير الكلمة في معجم مقاييس اللغة بالحبس وهو اولى من تفسيرها بامتلاء الباطن غيظا كما في سائر المعاجم وان كانا متلازمين عادة الا ان حبس الغيظ هو الصفة الممدوحة لا امتلاء الباطن منه.

ومهما كان فالمراد هنا انه مملوء غيظا وحابس نفسه عليه. وهكذا كان حالهم في الجاهلية بل بعدها ايضا فكانوا يستاءون الى هذه الدرجة من ان تولد لهم بنت وذلك ازدراءا لها واحتقارا فالآية تؤنبهم بانكم اذا كنتم تحتقرون الانثى الى هذه الدرجة فكيف ترضون بنسبة البنات الى الله تعالى؟! ثم تجعلونها له مثلا لما مر من مماثلة الوالد والولد.

وقد ورد نظير ذلك في قوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).[6]

أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ... الهمزة للاستفهام الانكاري والمراد بمن ينشّأ في الحلية الاناث. والتذكير بلحاظ كلمة (من) لا المصداق. والتعبير بالتنشئة دون النشوء من جهة أنه ليس أمرا طبيعيا وذاتيا بل يستند الى العادات والتربية حيث يهتم الاولياء بتزيين البنات منذ الصغر فهي تُنشَّأ في الحلية لا تَنشَأ فيها بذاتها. والواو يعطف الانكار على الانكار في قوله تعالى (ام اتخذ مما يخلق بنات..) كما قيل، او يعطف الانكار على التعجيب المذكور في الآية السابقة اي أوَتجعلون لله المثل من الصنف الذي يُنشّأ في الحلية؟!

وذكر هنا خصلتين من خصال النساء مما يستلزم ضعفهنّ وبعدهنّ عن كل ما يحتاج الى القدرة والدقة إحداهما أنّ اُنوثة المرأة وحبّها الشديد لإظهار جمالها وفتنتها يحبّب اليها التزين بحيث تهيم به ويعتبر شغلهنّ الشاغل لأنهن نشأن في الحلية وتربّين عليها منذ الصغر.

والاخرى أنّ شدّة تأثرهن بالعواطف يمنعهنّ من التركيز في مقام المحاجّة والمخاصمة فقلّما تجد امرأة تتمكن من إبانة مرادها وفرضه على الآخرين بقوة الاحتجاج ولذلك يتمسّكن في الغالب بالبكاء وتحريك المشاعر والاحاسيس. وهذا بالطبع ليس كليا وانما هو الصبغة العامة للنساء ومنهن من تتعالى على اقوى الرجال حجة وبيانا كما ظهر من سيدة النساء سلام الله عليها في خطبتها في المسجد وكذا من ابنتها زينب سلام الله عليها امام الملأ في الكوفة وأمام الطاغوتين يزيد وابن زياد عليهما اللعنة. والآية تشمل الخصام في الحرب ايضا وعدم إبانتها هناك أوضح.

وليس القصد من ذلك التقليل من شأن المرأة فهذا أمر طبيعي من صنعه تعالى وليس في صنعه الا الحسن كما قال (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ..)[7] وانما القصد التنديد بمقالة المشركين وأنّه ينشأ من ضعف تعقّلهم وإدراكهم حيث إنّهم ينسبون الى الله اتّخاذ الولد ولا يكتفون بذلك بل ينسبون اليه اتّخاذ الجنس الأضعف ولدا.

وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا... هذا ردّ على بُعد آخر من معتقدهم الفاسد فان اعتقادهم بكون الملائكة بنات الله يشتمل على جهتين من الجهل والكفر تعرضت الآيات السابقة لاحداهما وهي اسناد الولادة الى الله تعالى وهذه الآية تتعرّض لجهة اخرى وهي اعتبار الملائكة إناثا فإنه مقتضى قولهم إنهم بنات الله تعالى.

ومعنى الجعل هنا التسمية كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى)[8] او الاعتبار والحكم اي اعتبروا الملائكة إناثا او حكموا عليهم بالانوثة ومن الغريب أن هذا التصور سائد في مجتمعات كثيرة حتى اليوم فاذا أرادوا تصوير الملائكة صوروهم إناثا، والعرب وغيرهم يسمون بناتهم ملاكا او ما يرادفه في لغتهم!!!

والله تعالى يردّ على هذا التوهم في مواضع عديدة من القرآن وهنا يصفهم بانهم عباد الرحمن ولعل في ذلك إشارة الى أن العبد لا يطلق على الانثى وليس المراد انهم ذكور فانّهم منزّهون عن الذكورة والانوثة، ويمكن أن يكون الردّ بلحاظ أنهم عباد مختصون بالله تعالى ووسائط لرحمته فكيف يوصفون بالانوثة؟! وهذا يستفاد من التعبير بالرحمن. وقد قرئت الكلمة (الذين هم عند الرحمن) كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)[9] ومثله قوله تعالى (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ)[10] مما يدل على غاية قربهم الى الله تعالى واختصاصهم به فيكون الردّ عليهم من هذا الباب.

أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ... الاستفهام انكاري اي ان هذا أمر لا يمكن الاستدلال عليه بالعقل فاما ان يكون لهم علم بالغيب وليس لهم ذلك بالطبع واما ان يستندوا الى وحي او رسالة او كتاب سماوي وهم أبعد ما يكون عن هذه الوسائل فلم يبق لهم الا ان يدّعوا انهم شهدوا خلقهم ولا يمكن ذلك ايضا كما هو واضح. ولكنهم من دون اي مستند لهم يشهدون بذلك!!!

سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ... وكل قول بغير علم شهادة زور ويسجل على الانسان كما يسجل كل اعماله واقواله ثم يسأل يوم القيامة عن مستنده وحيث لا يهتدي الى مستند فيؤاخذ به خصوصا اذا كان مما يتعلق بالمقدسات. وهذا التحذير لا يختص بهم فلا يجوز لاحد ان يتخرص في الحقائق الغيبية مطلقا من دون مستند وثيق.

 


[1] يوسف: 21

[2] القصص: 9

[3] يونس: 68

[4] يوسف: 84

[5] آل عمران: 134

[6] النحل: 57- 59

[7] السجدة: 7

[8] النجم: 27

[9] الاعراف: 206

[10] الانبياء: 19