مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ... اي وقال المشركون.. وأما الضمير في قوله (ما عبدناهم) فالظاهر أنه يعود الى كل من يعتبرونهم اربابا وان لم يسبق لهم ذكر لان السياق يدل عليهم وأما احتمال أن يعود الى الملائكة لسبق ذكرهم فيبعد من جهة أنهم ما كانوا يعبدونهم او ما كانوا يعلمون ذلك وما كانوا منتبهين لفكرة تمثيل الاصنام للملائكة كما هو المعروف. ولو عاد الضمير اليهم فلابد من عدم اعتباره مقولا لهم بل نقلا لكلامهم بالمعنى لان المفروض انهم يعتبرونهم اناثا، بل لابد من ذلك على كل حال لان المشركين ما كانوا يعترفون باسم الرحمن قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ...).[1]   

ومهما كان فالغرض بيان نوع من التفكير الخاطئ السائد بين المشركين بل عامة الناس وهو ان الله تعالى لو شاء ان يمنعنا من عبادة الاصنام وارتكاب ما يعد اثما لمنعنا تكوينا من ذلك وهو قادر على ما يريد وعالم بما نعمل فيستنتجون من ذلك انه تعالى راض بعملنا بل ربما يقولون انه امر بها كما قال تعالى (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).[2]  

وهناك من عامة الناس من يظن ان امهال الطغاة من قبل الله تعالى ليس الا لانه يؤيدهم ويعزّهم بل يظنون انهم ــ وبنفس الدليل ــ على حقّ في كل ما يعملونه من ظلم وفساد. وحاصل استدلالهم ان الله تعالى راض بعملنا اذ لو لم يرض به لم يخيّرنا تكوينا بل منعنا عنه وهو قادر على ما يريد.

وبالمناسبة فإن بعض المعجبين بأنفسهم كان يطرح أفكارا شاذّة مضحكة في تفسير القرآن وغيره من معارف الدين ولم يكن من حملة العلم ويستدل على صحّة آرائه بأنه طلب من الله تعالى أن يعلّمه التفسير وأنّ استجابة هذا الدعاء لا يضر أحدا فلا بد من أن يكون الله تعالى قد استجاب دعاءه. وقلت له ان هذا الدعاء يدعوه كل أحد فلو صح هذا الاستدلال لاقتضى صحة كل هذه الاقوال المتعارضة فلم يحر جوابا ولكنه استمر في طريقه.

مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ... والجواب انّ هذا تخرص على الغيب فهو نظير شهادتهم على انوثة الملائكة ستكتب ويسألون. والقرآن يشدد كثيرا على الافتراء على الله تعالى واسناد ما لم يقل اليه سبحانه وهو المناط في حرمة البدعة. وحاصل الجواب ان استكشاف رضا الله تعالى بعملهم من عدم منعه تكوينا لا يستند الى علم وأنّى لهم ان يعلموا برضاه؟! وعدم المنع تكوينا لا يدل على ذلك اذ لعله لمصلحة اخرى وهو إبقاؤهم احرارا مختارين ليمتحنهم ويحاسبهم.

إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ... اي ليس هذا منهم الا تخرصا على الغيب والخرص في اللغة الحزر في العدد والكيل ويطلق غالبا على حزر الثمرة على الشجر اي الاخذ بالظن والتخمين. وكل قول بغير علم خرص سواء كان مطابقا للواقع او مخالفا.  

وقد حكى الله تعالى عنهم هذا القول في مواضع اخرى بوجوه اخر منها قوله تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ).[3] وهذه الآية تردّ عليهم ايضا بالتخرص على الغيب وتضيف اليه انه تعالى لو كان يجبركم على ما يريده تشريعا فيشاؤه تكوينا لشاء هدايتكم جميعا اذ لا شك أنّ هذا هو الأصلح لجميع البشر ولا شكّ أنّهم ليسوا جميعا مهتدين والا لم يختلفوا فيما بينهم فالنتيجة أنّه تعالى لا يشاء تكوينا إجبار البشر على اتّخاذ طريقة مّا فلا يمكن الاستدلال بعدم ممانعته تكوينا على رضاه تشريعا بالامر وهذه هي الحجة البالغة.

أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ... إضراب عن عدم علمهم واستفهام انكاري اي ان لم يكن هذا تخرصا على الغيب فلا بدّ من ان يستندوا فيه الى دليل، وليس هناك دليل على ما قاله الله تعالى واذن فيه او امر به الا كتبه ورسله، والعرب لم ينزل عليهم كتاب قبل القرآن ليتمسكوا به في اسناد القول الى الله تعالى. و(من) زائدة للتأكيد والضمير في (قبله) يعود الى القرآن من دون ذكر صريح لكونه مفهوما من السياق. والاستمساك والتمسك بمعنى الاعتصام والاصل في الاستفعال الطلب والتحري فكأنّ المعتصم بالشيء يتحرى ويحاول تشديد امساكه به او إمساكه من كل جانب.

بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ... هذا هو أساس الضلال فيهم وفي كثير من الناس. والاضراب في قوله (بل) إبطال للتمسك بأيّ حجة بمعنى انهم لا يستندون في ذلك الى حجة لا عقلية ولا نقلية وانما حجتهم تقليد الآباء. والأمة: الدين كما في العين. والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على أنهم مستمرون ومصرون على متابعة آثارهم. والاثر ما يبقى على الارض من رسم الأرجل والحوافر حين المشي والمراد انهم لا يتخطّون طريقتهم اصلا. وهكذا عامة الناس يتبعون اسلافهم من دون تفكير بل يفتخر بعضهم بأنهم سلفيون. والسلفية ليست الا متابعة الآباء والاجداد متابعة عمياء ولو كانوا يتبعون الحق لقالوا ان ما نتبعه هو ما يقتضيه العقل أو يأمر به الكتاب والسنة.

ومن المؤسف أنا نجد متابعة الآباء سارية حتى في انتخاب المرجعية لدينا فاذا اتبع ابو الاسرة مرجعا من المراجع لما ثبت له من كونه جامعا للشرائط مثلا اتبعته الاسرة بل يبحثون عن خليفة المرجع اذا توفي لان اسرتهم تقلد هذا الخط من المرجعية وكأن هذا هو العذر المقبول لدى الله تعالى اذا سئلوا عن دينهم ممن اخذوه.

وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ... اي وكما يقول هؤلاء قالت الامم السابقة بأسرها فهذا ليس غريبا ولا بدعا من الامر بل هذا ديدن المترفين. وهذه الآية تصرّح بالشمول للجميع حيث نفى ان يكون قد ارسل رسول الى قوم لم يواجه هذا الكلام. والتعبير بقوله تعالى (ارسلنا من قبلك) لتسلية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأن ما تجده من قومك ليس جديدا وخاصّا بهم بل هو شيمة البشر وسيرتهم في مواجهة الرسالات. و(من) في قوله (من نذير) زائدة للتأكيد على الشمول. كما أن قوله (في قرية) ايضا يؤكد الشمول وهو معلوم من دونه. والقرية بمعنى المجتمع وتطلق على البشر وعلى المكان الذي يجمعهم. وأصله من قرى يقري اي جمع.

وتفيد الآية أنّ هذا شأن التَرَف وهو التنعم والطغيان فيه فالمُترَفون الذين لا يألون جهدا في التوسع في الشهوات والملذّات لا ينصاعون لما يأتي به رسل الله تعالى حيث ان الشرائع والاديان كلها تفرض قيودا على الحريات وليست لدى المترفين حجة في مواجهة الرسل وانما يتشبثون بتقاليد الآباء. وهنا عبّر بالاقتداء بدلا عن الاهتداء في الآية السابقة للاشارة الى أنهم لا تهمهم الهداية فليس هناك هدف منشود ليحاولوا الاهتداء اليه وانما يقتدون بآبائهم في طريقتهم مهما آلت اليه الطرق.

قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ... اي قال النذير: هل تبقون على متابعة الآباء وان كان ما جئتكم به أهدى؟! فالاستفهام للانكار التوبيخي اي كيف يصح متابعة الآباء في هذا الفرض؟! والواو في قوله (أولو) للعطف على مقدر وهو ــ كما قلنا ــ البقاء على متابعة الآباء. والنذير وهو الرسول لحسن أدبه لا يصرح بأن ما أخذوه من آبائهم ضلال محض بل يقول باحتمال ان يكون ما جاءهم به أهدى مما كانوا عليه اي أقرب الى الهداية حتى لو فرض في طريقتهم نوع من الهداية.

والمترفون لم يردّوا على هذه المبادرة الجميلة بأي حجة أو منطق يبرر موقفهم بل ردوا على الرسل بكل عناد ولجاج: انا بما ارسلتم به كافرون.. اي منكرون. هكذا وبكل صراحة ووقاحة انا نكفر به مهما كان ولا يهمنا ان يكون اهدى او هو الصحيح فقط. والاتيان بضمير الجمع في قوله (ارسلتم) باعتبار تعدد الرسل والامم.

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ... هذه نتيجة موقف المعاندين للرسل وهي واضحة بالطبع فان قوما هذا شأنهم لا يستحقون الا العذاب والانتقام الالهي فانهم مجرمون ولا جريمة أكبر من مواجهة المنطق والهداية الالهية بالاستكبار والعناد. والانتقام: المعاقبة. والنقم في الاصل بمعنى المبالغة في الانكار وينطبق على المعاقبة فانها غاية الانكار. ثم تأمر الآية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او كل مخاطب وسامع ان ينظر كيف كانت عاقبتهم حيث كذبوا الرسل فيعتبر المشركون بها ويتسلّى المؤمنون.

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ... (اذ) ظرفية. اي واذكر الزمان الذي قال فيه ابراهيم ذلك لابيه وقومه. والتنبيه على هذا الموقف الذي اتّخذه ابراهيم عليه السلام تجاه قومه وابيه يأتي في سياق الردّ على ما حكي عن القوم في الآيات السابقة من تقليد الآباء والاسلاف فالآية الكريمة تردّ عليهم بالاستشهاد بموقف ابراهيم عليه السلام من جهتين:

الاولى انه ينبغي لمشركي مكة التأسي به عليه السلام وهو جدهم الذي يفتخرون به ويدّعون انهم أتباعه حيث خالف اباه وقومه ولم يكتف بعدم المتابعة بل جابههم بكل شدة وصرامة وأعلن براءته منهم ومن سننهم الباطلة بل كسر اصنامهم واين هذا من متابعة الآباء القدامى والاسلاف البعداء؟ والثانية انه لو صح متابعة الآباء والاسلاف فليتبعوا اباهم ابراهيم عليه السلام وهو شيخ الانبياء فلماذا يختارون من بين اسلافهم المشركين الجهلة؟!

هذا وقد مر في تفسير سورة الصافات وغيرها ان المراد بابيه هو الذي رباه وانه لم يكن والده كما يظهر من دعائه في اواخر حياته (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ..)[4] مع انه امتنع من الاستغفار له بعد ان علم انه عدو لله كما قال تعالى (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ..).[5]  

ومهما كان فقد واجههم ابراهيم عليه السلام وقال لهم انني براء مما تعبدون. وبراء مصدر يطلق على المتبري من باب المبالغة في التبري وهو الابتعاد عما يكره.

إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ... المشهور بين المفسرين ان الاستثناء منقطع لان قومه ما كانوا يعبدون الله تعالى ولكن يحتمل ان يكون متصلا فلعل قومه كانوا يجمعون بين عبادة الله وعبادة الاصنام واذا قلنا ان العبادة تشمل الدعاء ــ كما هي كذلك ــ فان مشركي الجزيرة ايضا كانوا يدعون الله تعالى وكلمة (اللهم) ليست مستحدثة في الاسلام وكانت صحيفة قريش في مقاطعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبدوّة بجملة (باسمك اللهم) بل كانوا يستغفرون الله تعالى كما قال سبحانه (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[6] فان مقتضى السياق ان الضمير يعود الى المشركين، وما كانوا ينكرون الله تعالى ولا ينكرون تأثيره في الكون وانما كانوا يشركون بالله ويعتقدون لغيره ايضا تاثيرا بالاستقلال.

وفي هذا التوصيف استدلال على التوحيد فان الفطر هو الشق ويعبر عن الخلق بالفطر اذا كان بالايجاد من العدم وهذا خاص بالله تعالى فان غيره وان امكن ان يخلق شيئا باذنه تعالى الا انه يغير صور الاشياء ولا يمكن لاحد ان يوجد شيئا من العدم وانما يصدق الفاطر على الله تعالى حيث ابدع السماوات والارض والتعبير عنه بالفطر تشبيه كأنه شق العدم واخرج منه الوجود. ولكن يقع السؤال عن خلق الانسان كيف يعبر عنه بالفطر مع انه يتكون في أحضان الطبيعة ويولد من امه وابيه؟ فيه احتمالان:

الاول انه يعبر عنه بذلك باعتبار انه جزء من الكون الذي خلقه الله من العدم فيصدق ذلك على الانسان باعتبار انه جزء من الكون فكان هناك زمان لم يكن الانسان موجودا حيث لم تكن الطبيعة موجودة والله تعالى فطر الانسان بخلق النواة الاولى للطبيعة واستمرار قائمة العلل والمعاليل. وهذا وجه قوي وعام.

والوجه الثاني وهو خاص بالانسان ان جسم الانسان الذي تربى في احضان الطبيعة ليس هو حقيقة الانسان بل حقيقته هي الروح الذي نفخه الله فيه كما قال تعالى في خلق آدم عليه السلام (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[7] بل قال في خلق عامة البشر (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ..)[8] فان الظاهر أن المراد بنفخ الروح في هذه الآية كل انسان وان احتمل رجوع الضمير الى آدم عليه السلام. كما أنه هو المقصود ظاهرا بقوله تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ..)[9] فهو انشاء وابداع لخلق جديد ويظهر منه أن هذا الروح ليس جزءا من الطبيعة بل هو مما أبدعه الله تعالى.

ومهما كان فان ابراهيم عليه السلام يستدل بفاطريته تعالى على انه هو الرب وهو المعبود والاله لانه خلقني من العدم وجعل لي من البدو هذه القابليات والغرائز التي بها أتكامل وأصل الى غاية الكمال المنشود لي كأي شيء آخر فاذا كانت هذه القابليات من بدو الخلقة ومن صنع المبدع فهو الذي يسير بالاشياء في هذا المسار الطويل الى غاياتها فهو هاديها والمربي لها. والرب هو الذي يجب ان يُعبَد لانه هو الضار النافع وليس غيره من ينفع او يضر الا باذنه فهو الذي يُخاف ويُرجى والانسان انما يعبد ما يعبد دفعا للمضرة وجلبا للمنفعة فاذا ثبت ان النافع الضار بالذات هو الله تعالى ولا ينفع غيره ولا يضر الا باذنه فالاله المعبود منحصر في ذاته المتعالية.

وعقّب التوصيف بالفطرة بأنه تعالى هو الهادي. والفاء للتفريع فتدل على أن هدايته تعالى تتبع كونه هو الفاطر لانه ــ كما مر ــ من شؤون الربوبية كما قال تعالى حكاية لكلام موسى عليه السلام: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[10] ولكلام ابراهيم عليه السلام (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)[11] فالهداية مترتبة على الربوبية والظاهر أن مراده عليه السلام الهداية في جميع شؤون الدنيا والآخرة وهذا القول انما قاله حين خروجه من عند قومه كما قال عنه تعالى (وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[12] ولكنه لم يشعر بالوحدة والوحشة ولم يخف شيئا من حوادث الدهر لوثوقه بعناية ربه وأنه سيهديه الى الطريق الصحيح في كل شؤونه ومثله قال موسى عليه السلام حين خروجه من مصر كما قال تعالى (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ).[13]

وقد ورد مثل هذا البيان بصورة أكثر تفصيلا في قوله تعالى (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).[14] ومن سياق هذه الآيات يتبين بوضوح أن المراد بالهداية ليس خصوص الهداية الدينية الى الصراط المستقيم كما في الميزان وغيره بل مطلق الهداية ولذلك عطف عليه الاطعام والسقي والشفاء مما تتوقف عليه الحياة المادية.

وقد أشكل الامر على بعض المفسرين من جهة التعبير بسين الاستقبال مما يقتضي عدم الهداية في الحال فقال بعضهم ان الجمع بين القول في هذه الآية وقوله تعالى (فهو يهدين) في سورة الشعراء يقتضي أن الهداية موجودة في الحال ومستمرة لانهما يحكيان عن قضية واحدة والصحيح أن مفاد الجملتين أمر واحد وهو ترتب الهداية على الفطرة والخلق وأن الخالق تعالى لا يمكن أن يترك مخلوقه من دون هداية ولعل الاستقبال بلحاظ حال الخلق اي انه تعالى يهدي بعد الخلق لا محالة.

وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ... العقب مؤخر الرِجل ويعبر به عن الاولاد والنسل والظاهر ان فاعل الجعل هو ابراهيم عليه السلام وضمير المفعول المؤنث يعود الى الجملة السابقة ومفادها التوحيد. فجعلها كلمة باقية مستمرة في نسله وذريته وذلك بالوصية كما حكى الله تعالى (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[15] فهو عليه السلام ليس كأهل الدنيا همّهم في حياتهم المال واذا اوصوا ايضا جلّ اهتمامهم معيشة اولادهم وكيفية تقسيم اموالهم بل هو لا يهتمّ الا بدينهم فيوصيهم بان لا يموتوا الا مسلمين.

وكذلك كان عليه السلام يختلف في دعائه عن الناس فنحن اذا دعونا لاولادنا فان غاية ما نطلبه المال والعافية وطول العمر وابراهيم عليه السلام يدعو ربه (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)[16] ومن دعائه (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)[17] ولما جعله الله تعالى للناس اماما قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)[18] فهو يدعو ان تكون ذرّيّته مقيمين للصلاة وأئمة يهدون المجتمع ويدعونهم الى الهدى والصلاح.

وهو عليه السلام بنفسه نشر التوحيد وتحمل في سبيله المصاعب وترك قومه وعشيرته وهاجر الى ربه يدعو الناس الى التوحيد ولم يكتف بذلك بل طلب من اولاده وذريته الى يوم القيامة ان يتبعوا طريقه وكان كما اراد فان الانبياء المذكورين في القرآن اكثرهم من ذريته ولذلك يدعى ابا التوحيد ولذلك ايضا جازاه الله تعالى في الدنيا والآخرة كما قال تعالى (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)[19] (وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)[20] (وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)[21] ولعل من اجره في الدنيا ان جعل من ذريته الرسل والانبياء والائمة والصالحين.

والضمير في قوله (لعلهم يرجعون) يعود الى عقبه وانما اتى بضمير الجمع باعتبار ان المراد به الاقوام الذين ياتون بعده من نسله والمراد بقوله (يرجعون) الرجوع الى الله تعالى حيث ان التوجه الى ملذات الدنيا ونعيمها بطبيعة الحال يبعد الانسان عن ربه فاراد ابراهيم عليه السلام ان يرجع ذريته الى الله تعالى والى عبادته كلما استهوتهم الدنيا ولذائذها وأبعدتهم عنه فجعل لهم كلمة التوحيد منارا وملاذا يرجعون اليها كلما توغّلوا في شؤون الدنيا.

وقيل إن ضمير الفاعل في (جعلها) يعود الى الله تعالى واختاره العلامة الطباطبائي رحمه الله. ولكن السياق يأبى ذلك وانما ألجأهم الى هذا التكلف القول بان ذلك ليس من فعل ابراهيم عليه السلام فانه لا يؤثر بعد موته فكيف جعلها كلمة بعده؟! وقالوا: الوصية لا تستلزم الجعل.

والجواب ان الوصية وان كانت لا تستلزم ذلك ولا توجبه بصورة طبيعية فلا يصدق الجعل التكويني بمجرد الايصاء ولكنّ مصحح هذا التعبير انه بوصيته واصراره على ترسيخ هذا الامر في المجتمع وباعتبار كونه عنصرا مؤثرا في المجتمع بنفسه وباولاده تسبب في بقاء هذه الكلمة فيما بعده فالجعل هنا باعتبار جعله للسبب.

 


[1] الفرقان: 60

[2] الاعراف: 28

[3] الانعام: 148- 149

[4] ابراهيم: 41

[5] التوبة: 114

[6] الانفال: 33

[7] الحجر: 29

[8] السجدة: 7- 9

[9] المؤمنون: 14

[10] طه: 50

[11] الصافات: 99

[12] العنكبوت: 26

[13] القصص: 22

[14] الشعراء: 75- 82

[15] البقرة: 132

[16] ابراهيم: 35

[17] ابراهيم: 40

[18] البقرة: 134

[19] البقرة: 130

[20] النحل: 122

[21] العنكبوت: 27