مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ... (هؤلاء) اشارة الى اهل مكة ومشركي الجزيرة العربية والظاهر ان الجملة اضراب عن قوله (لعلهم يرجعون) حيث إنّ الجملة السابقة تشملهم فانهم من ذرية ابراهيم عليه السلام ولكنهم لم يرجعوا كما أراد وكما كان مرجوا ومتوقعا منهم بل متعهم الله تعالى فاشتغلوا بما متعهم به كما متّع آباءهم ايضا فالتعبير بالتمتيع اشارة الى لازمه وهو الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا عمّا اراده لهم جدهم ابراهيم عليه السلام وظلوا على التهائهم بالدنيا الى ان جاءهم الحق فكان المتوقع ان لا يتوانوا عن قبوله ولكنهم كفروا به والمراد بالحق القرآن او الرسالة.

وجاءهم ايضا رسول مبين. والمبين من الابانة اي الايضاح فهو يوضح لهم حقائق الدين او من الوضوح فان رسالته واضحة بمعجزاته وبما كانوا يعلمون منه قبل ذلك من الصدق والامانة ومن انه لم يكتب ولم يقرأ قبل ذلك ولم يسبق منه كلام يدل على علم او نبوغ او حكمة ولم يقل قبل ذلك شعرا ولا كلاما منسقا ادبيا كل ذلك مما يبين كونه رسولا يوحى اليه من الغيب فهو رسول مبين اي واضح معالم رسالته وارتباطه بالغيب.

ولعل ذكر تمتيع الآباء لإكمال الرد على مقولة تقليد الآباء بانهم ايضا كانوا من عقب ابراهيم عليه السلام وكان المفروض ان يتأثروا بكلمته التي اورثها لهم واوصاهم بها ولكنهم ايضا اشتغلوا بمتاع الدنيا وملاهيها فانظروا من تقلدون وبأيّ آبائكم تقتدون؟!

وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ... نعم لما جاءهم الحق لم يؤمنوا به بل عاندوه وقالوا هو سحر ولم يقولوا ذلك جهلا منهم بالحق ولا بالسحر بل كانوا يعلمون انه ليس سحرا وانما كانوا يطلبون المعاذير حتى لا يؤمنوا بالحق ولإغواء الناس وإبعادهم عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. يدل على ذلك قصة الوليد بن المغيرة فقد روي أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رقّ له فبلغ ذلك أبا جهل فقال يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا فيعطوكه فإنك أتيت محمداً لتصيب مما عنده قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له وانك كاره له قال وماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا باشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ووالله ان لقوله الذي يقوله حلاوة وان عليه لطلاوة وانه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وانه ليحطم ما تحته قال لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلا سحر يؤثر فعجبوا بذلك وفيه نزلت آيات سورة المدثر (انه فكر وقدر فقتل كيف قدر...) ورويت القصة بوجوه اخرى. وقولهم (انا به كافرون) يدل على تماديهم واستمرارهم على الكفر حيث اتوا به جملة اسمية مؤكّدة بـ (إنّ) والكفر: الانكار.

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ... حكي عنهم القول بانه لو اراد الله ان ينزّل القرآن من عنده على بشر فلا بد ان يختار رجلا عظيما من احدى القريتين العظيمتين في المنطقة مكة والطائف. و(لولا) في الاصل للحث والتحضيض والقصد منها هنا التعجيب من عدم تنزيل القرآن على رجل بهذا الوصف وتنزيله على من ليست له هذه الصفة ليتوصل بذلك الى انكار رسالة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.

وقيل انهم سموا الرجلين المقترح انزال الكتاب عليهما وان احدهما الوليد بن المغيرة والآخر عروة بن مسعود الثقفي وقيل غير ذلك ولا يهمنا التعيين فمهما كان فانهم قصدوا بالعظمة المال والجاه شأنهم في ذلك شأن عامة الناس في كل المجتمعات فان مقياس العظمة عندهم غالبا ان لم يكن دائما هو المال والجاه وهؤلاء لجهلهم بالمقاييس الالهية يتصورون ان الوحي ايضا يجب ان ينزل على من له مال وجاه وبنون. وفي الآيات التالية يهدم الله تعالى بنيانهم في القيم التي بنوا عليها المجد والفخار ويبين لهم تفاهة قيمهم وسفاهة آرائهم.

أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ... الجواب واضح فالرسالة رحمة من الله تعالى، رحمة للرسول ورحمة للمرسل اليهم وهو العليم بمن يستحقها كما قال في موضع آخر (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)[1] ومن غاية الكبر والخيلاء ان يتوهم الانسان ان له حق التدخل في شؤون الربوبية. وهذا الامر لا يختص بهم فهو مشهود في عصرنا ايضا. والاستفهام للانكار وتقديم الضمير المنفصل لان التركيز في الانكار أن يكون تقسيم الرحمة اليهم. وفي اضافة الرحمة الى الرب المضاف الى شخص المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشارة الى ان ارسال هذه الرسالة اليك خاصة من بينهم يتبع التربية الخاصة بك فالله تعالى رباك من اجل الرسالة كما قال لموسى عليه السلام (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي).[2]

نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... تقديم الضمير المنفصل هنا للتركيز على الفاعل اي ان تقسيم المعائش والارزاق بينهم من فعله تعالى ولا يمكنهم التحكم فيه فكيف بالرسالة وهي أمر يرتبط بشريعة السماء وليس للناس الا الاستجابة لها والايمان بها؟! فهذا جواب واضح على اقتراحهم من جهة أن الامور الدنيوية التي لهم فيها حدّ من الاختيار باذنه تعالى ليست تحت اختيارهم تماما فالرزق وكل ما تتقوم المعيشة به في الحياة الدنيا وان كان الانسان يتحكم فيه نوعا مّا باذن الله تعالى الا ان هناك كثيرا من الامور الدخيلة في ذلك لا يمكنه التحكم فيها ولذلك يختلف الناس في معائشهم وليست كل الاختلافات تنشأ من اُمور اختيارية بل اكثرها لا يتبع الاختيار كالقدرة الجسمية والنفسية والعقلية والبيئة المناسبة والنظام الاجتماعي والتوارث وغير ذلك من الشؤون التي تغير مسار الحياة وتؤثر تأثيرا مباشرا في الغنى والفقر وغيرهما وهي خارجة عن الاختيار.

وهذا هو المراد بتقسيم المعائش ورازقية الله تعالى فانه قلّما يبعث رزقا محددا لاحد على وجه الاعجاز كما حدث للسيدة مريم سلام الله عليها فالرازقية بوجه عام بمعنى تهيئة وسائل المعيشة لكل حي كما قال تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا..)[3] فهو برازقيته جعل لكل حيوان صائد وسائل صيده وهيأ له في موضع معيشته الفريسة المناسبة كما هيأ لكل حيوان آكل للعشب ما يحتاج اليه من الكلأ حتى ان اسنان الحيوانات تختلف حسب حاجاتها وهناك في هذا الباب عجائب وغرائب في الطبيعة. وبما ذكرنا يتبين ضعف ما يقال من ان إطلاق المعايش يقتضي الشمول للحلال والحرام فالصحيح أنّ القسمة ليست بمعنى ايصال المعيشة كما تبين.

وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا... السخريّ يأتي مصدرا بمعنى التسخير ويأتي نعتا بمعنى المسخَّر وهناك اختلاف في كتب اللغة فقيل: إن سخريا ــ بضم السين ــ بمعنى المسخَّر، و ــ بكسر السين ــ بمعنى من يُستهزأ به. والمشهور بينهم أنّهما بالوجهين يستعملان في المعنيين بل في معجم مقاييس اللغة أنّ سخر (أصل مطّرد مستقيم يدلّ على احتقار واستذلال) فالمعنى واحد عام يشمل المعنيين. والمقصود هنا هو التسخير لا الاستهزاء. واختلفوا ايضا في معنى التسخير فالمعروف أنه بالنسبة للانسان إلزامه بعمل من دون مقابل وهو الظاهر من عبارة معجم المقاييس والمفردات وغيرهما ولكن المنقول عن بعض آخر من القدماء أنه يشمل الأجير وهو الظاهر من الآية الكريمة.  

والمراد برفع الدرجات اختلاف الناس في معايشهم وهذا امر لابد منه فأيّ نظام اجتماعي واقتصادي يُتّبع لا يمكن ان يمنع من اختلاف طبقات الناس في المعيشة وانما ينبغي ان يحاول تقليل الاختلاف او وصول كل احد الى الحد الادنى من مستلزمات المعيشة والا فالاختلاف يتبع في الغالب اختلاف الناس في مواهبهم ومؤهلاتهم ومن اكبر الاخطاء الاقتصادية منع الناس من استخدام مواهبهم بغية توحيد الطبقات.

واللام في قوله تعالى (ليتخذ) يمكن ان تكون للغاية والنتيجة، بمعنى ان الله تعالى وهبهم طاقات مختلفة وهذا الامر ينتهي بالطبع الى ان يسخّر بعضهم بعضا لحاجاته وان لم يكن هذا التسخير مقصودا بالذات. وهذا هو المتعين ان كان معنى التسخير الزام الانسان وقهره لغيره كي يعمل ما هو المطلوب بلا مقابل. وأما ان كان يشمل القهر الطبيعي الحاصل من احتياج الانسان الى العمل فيؤجر نفسه من اجل الحصول على الاجرة فاللام لام الغرض ويبين المقصود من اختلاف المواهب وذلك لان تسخير الناس بعضهم لبعض بهذا المعنى هو اساس التعايش الاجتماعي حيث ان كل واحد من الناس له مواهب خاصة به فيخدم المجتمع بمواهبه والآخر يخدم بمواهبه الاخرى وكل مسخر لبعض آخر فالعامل مسخر لصاحب المعمل وصاحب المعمل ايضا مسخر للايدي العاملة وانما ينشأ الظلم والاستغلال المقيت من كثرة الايدي العاملة والا فليس اصل التسخير موجبا للاستغلال.

وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ... لمّا آل الكلام الى المقارنة بين معائش الحياة الدنيا ورسالة السماء التي عبّر عنه سبحانه بانه رحمة ربك اقتضى المقام ان يزيل الوهم عن تساويهما عند الله تعالى وهذه الجملة كفيلة بذلك فالرسالة خير من كل ما يجمعونه من مال ويحصلون عليه من جاه وسلطة. والخيرية هنا ليست بمعنى ان ما يجمعون فيه خير والرسالة اكثر خيرا بل يصدق الخيرية حتى مع عدم وجود خير في ما يجمعون بل مع كونه شرا محضا فهو كقوله تعالى (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ..)[4] ونظائره كثيرة. والحاصل انه لا تمكن المقارنة بين الرسالة وما يجمعونه من مال خصوصا أن أكثره من الحرام وانما يقال انه خير حسب توهمهم الخير في متاع الدنيا ولا شك ان الرسالة خير في المقاييس الالهية لا تقاس بشيء فانها اكرم مقام يمنحه الله تعالى لبشر وأعظم نعمة على الناس أجمعين. 

وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا... تعقيبا على التقليل من شأن الدنيا في ذيل الآية السابقة جاءت هذه الآية لتبين بوضوح تفاهة ما يهتم به البشر من زينة الحياة الدنيا وليندّد بتفاخرهم بكثرة المال والولد وتكالبهم على الجاه والسلطة واعتبارهم كل ذلك من القيم التي يشتاقون اليها ويجعلونها نصب اعينهم وغاية لكل حركة ونشاط كما نجده بوضوح في من حولنا من دون استثناء الا نادرا لا يذكر وليس القصد منه المنع من التزيّن بل القصد اولا عدم اعتباره قيمة اساسية وثانيا الحد منه وعدم الافراط فيه خصوصا بملاحظة انه ما من ثراء مفرط واسراف في التزين الا وبجانبه حق مضيّع وفقر مدقع.

وظاهر التعبير انه لولا ان الناس ينبغي ان يكونوا امة واحدة لجعلنا كذا وكذا للكفار. ولكن المفسرين قالوا ان التقدير هنا لولا كراهة او مخافة ان يجتمع الناس على الكفر فيكونوا امة واحدة لما يرون من سعة الرزق على الكافر لجعلنا لهم كذا وكذا. وما ذكروه وربما اتفقوا عليه غير صحيح اذ لا وجه للتعبير عن هذا المعنى بكونهم امة واحدة كأنّ الامر الذي لا ينبغي هو الوحدة مع أن المقصود حسب هذا التفسير هو الكفر فكان ينبغي ان يقال ولولا ان يكفر الناس جميعا. ولا وجه للعدول عنه الى التعبير بالوحدة.

والصحيح ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله من ان المراد ان يكونوا كلهم يتبعون النظام الكوني وقانون العلة والمعلول فيكون لكل احد من المتاع بمقدار جهده ومواهبه ولا يخصص الله تعالى قوما بمتاع من اجل كفرهم او ايمانهم ولولا ان الله تعالى اراد ان يكون الناس امة واحدة بهذا المعنى لخصص الكافرين بهذا المتاع الباذخ والزينة الفاخرة دون المؤمنين والغرض من بيان ذلك التنبيه على مهانة الحياة الدنيا ومتاعها عند الله سبحانه بحيث لا يليق الا بالكافرين. وعليه فلا حاجة الى تقدير المخافة والكراهة بل تبقى الآية على ظاهرها من أن الذي يدعو الى عدم هذا الجعل هو أن يكون الناس امة واحدة من جهة الوصول الى الاهداف والاغراض الدنيوية.

ولعل التعبير بالرحمن للاشارة الى انهم يكفرون بمن يستشعرون سعة رحمته ويسعدون بنعمه. والرحمن مبالغة من الرحمة وتدل على السعة والشمول فيشمل الرحمة على الكافر. وقوله (لبيوتهم) بدل من (لمن يكفر). والمعارج: المصاعد. ويظهرون اي يصعدون، كما قال تعالى (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ)[5] والزخرف: الذهب او الزينة، فقد اختلف اهل اللغة انه في الاصل بمعنى الزينة او انه بمعنى الذهب واطلق بهذه المناسبة على كل زينة ولعله يتأيّد بالتعبير عن كل شيء مموّه بالذهب بانه مزخرف. ومهما كان فقد ورد بمعنى الزينة في قوله تعالى (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ)[6] وورد بمعنى الذهب في قوله تعالى (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ).[7] وهنا يحتمل الامرين اي جعلنا لبيوتهم زينة او جعلنا لها ذهبا.

ثم ان المعارج والابواب والسرر يحتمل ان يراد بها كونها من فضة وذهب كما هو مقتضى كونه عطفا على من فضة ويحتمل ان يراد اصل جعلها فان ذلك ايضا في تلك الازمنة كان من البذخ والترف ولم تكن البيوت ذوات طوابق ومعارج وحتى الابواب لم تكن الا لبيوت الاثرياء ويمكن ان يكون المراد بالابواب انا نجعل لكل بيت من بيوتهم ابوابا متعددة فيدل على فخامة البيت وسعته. وتوصيف السرر بانهم يتكئون عليها للاشارة الى انهم لغاية الثراء والترف لا يعملون عملا ولا يتعبون انفسهم فكل حاجاتهم حاضرة لديهم كانهم اصحاب الجنة.

وبعض ما ذكر في هذه الآية وان كان في عصرنا هذا امرا متعارفا حتى للمؤمنين بل حتى في العصور القديمة كان هناك كثير من البشر يبنون القصور الفخمة ولكن الكلام هنا ان الله تعالى يجزي الكفار اجمعين بذلك فلولا ان يكون الناس امة واحدة لجعل الله جزاء الكفر سعة الثراء والبذخ وذلك استهانة بالدنيا لا تقديرا للكفر.

وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... (ان) نافية. و(لمّا) بمعنى (إلّا) اي كل ذلك ليس الا متاعا في هذه الحياة الدنيئة او القريبة. والمتاع يطلق على كل ما يستمتع به الانسان ولكنه لا يفيد شيئا وليس له تاثير عميق في تكوين ذاته وشخصيته ولا يوجب كمالا له, مضافا الى انه ليس دائما بل هو زائل اما في هذه الحياة او بزوال هذه الحياة وانتقال الانسان الى العالم الآخر. وهكذا يقرر القرآن قاعدة اساسية مما يدعو اليه الدين وهي الزهد في الدنيا وعدم الاهتمام بشؤونها الا بمقدار الضرورة والحاجة وهكذا علمنا الانبياء والائمة عليهم السلام بسيرتهم في الحياة الدنيا ولكن الغالب من الناس لا يعمل الا للدنيا حتى الكثير ممن تقمص لباس الدين. ومن يعمل للآخرة تجده زاهدا فيها فيكتفي باقل الواجب في هذا المجال بل يحاول الفرار حتى من اقل الواجب بما يسمى بالحيل الشرعية خصوصا اذا تعلق الامر بالمال بل يصرح بعضهم بانه يكفينا في تلك الحياة ان لا ندخل النار ولا تسمع تشوّقا الى مقامات المقربين الا نادرا جدا.

وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ... اي والحياة الآخرة عند الله تعالى خاصّة بالمتقين ويفهم بقرينة السياق وذكر النعم والملذّات الدنيوية قبلها ان المراد اختصاص السعادة والنعمة في الحياة الآخرة بهم وقوله (عند ربك) يدل على تشريف خاص وله نظائر في القرآن كقوله تعالى (وَمَا عِنْدَ اللّه خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا..)[8] وهو هنا نعت لنعيم الآخرة.

وقيل: المراد بالمتقين الذين اتقوا الشرك والكفر ليشمل فساق المسلمين وهو خلاف الظاهر اذ لا دليل على التقييد بالشرك بل المراد الذين اتقوا ربهم مطلقا ولكن درجات التنعم والقرب مختلفة باختلاف درجات التقوى ومن فساق المسلمين من هو في أسفل دركات الجحيم وقد قال تعالى (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا).[9] وانما لجأ بعضهم الى هذا التأويل نتيجة لهذه الاماني الكاذبة.

 


[1] الانعام: 124

[2] طه: 41

[3] هود: 6

[4] فصلت: 40

[5] الكهف: 99

[6] يونس: 24

[7] الكهف: 93

[8] الشورى: 36

[9] النساء: 123