وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ... هذه المجموعة من الآيات تبين موضع الشاهد من قصة فرعون بالنسبة لقول المشركين (لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) فان فرعون ايضا نادى بنفس المقاييس واعتبر نفسه فوق الجميع لملكه وثرائه ورفض رسالة موسى بحجة انه فقير لا يملك مالا ولا سلطة.
والظاهر من التعبير بالنداء ان المراد من قومه جمع من شعبه وهم الملأ لا كلهم حيث كانوا يجتمعون به فنادى فيهم بهذه الكلمات ولا يمكن ان ينادي جميع الشعب، وقيل المراد شعب مصر جميعا فيحمل النداء على ابلاغ كلامه اليهم عن طريق المنادين. ويبعد هذا الاحتمال من جهة أن مقتضى سياق الآيات أن هذا القوم الذين سمعوا النداء هم الذين اتبعوه وأنهم اُغرقوا أجمعين وسيأتي أن المغرَقين هم فرعون وجنوده لا كل الناس فالنتيجة أن المراد بقومه في هذه الآية بعض منهم وهم الملأ.
ويبدو من التعبير بالنداء ايضا انه كان في لحظة غضب وانفعال وأنه لم يملك السيطرة على نفسه كما يبدو ذلك من الفاظه ايضا فلعل السبب أنه أراد بهذا الكلام والنداء إخفاء شعوره بالهزيمة أمام موسى عليه السلام حيث اضطر الى طلب الدعاء منه أن يرفع عنهم العذاب او أنه اراد به تضليلهم ومنعهم من ان يؤمنوا به عليه السلام وبرسالته فالخوف والضعف باديان على كلامه. والاستفهام في قوله (أليس لي..) تقريري.
وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ... عطف على (لي ملك مصر) اي أليست هذه الانهار تجري من تحتي او عطف على (ملك مصر) أي أليست لي هذه الانهار التي تجري من تحتي فتكون جملة (تجري..) وصفية. قيل: ومعنى تجري من تحتي اي من تحت قصري إمّا حقيقة فلعله كان في قصره أنهار او بلحاظ كون القصر مشرفا عليها. ويمكن ان يكون المراد تجري في ملكي وتحت سلطتي والمراد بها الانهار المتشعبة من النيل.
وقوله (افلا تبصرون) تأكيد للاستفهام التقريري الاول ويبدو منه بوضوح تخوّفه من تأثّر عامّة الناس من شعبه بمعاجز موسى عليه السلام وكراماته الباهرة فيلتمس منهم الابصار والتأمل في حدود ملكه وسلطانه يقصد بذلك التهويل وتعظيم شأنه والتقليل من شأن موسى عليه السلام.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ... الظاهر أن (أم) منقطعة اي بل ألست خيرا من هذا؟! ولعل الاضراب باعتبار انه يقول: حتى لو فرضنا لم يكن لي هذا الملك العظيم ولكن لا مجال للمقارنة مع هذا.. ويشير به الى موسى عليه السلام. وقيل: انها متصلة بالجملة السابقة والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون أني أنا خير. فقوله (أنا خير) وضع موضع المسبب بدعوى ان كونه خيرا سبب لابصارهم بنظره فانه يرى أنهم لو كانوا يبصرون لعلموا أنه خير منه. و(مهين) فعيل من المهانة بمعنى الحقارة ولم يذكره عليه السلام باسمه الشريف احتقارا.
وَلَا يَكَادُ يُبِينُ... الابانة: الاظهار. اي لا يستطيع ان يبين نفسه لضعفه ولانه ليس له اعوان ينصرونه ولذلك عقبه باستنكار عدم وجود الملائكة معه لنصرته. وهذا اولى مما قيل من انه لا يبين مقاصده لضعفه في الكلام فانه لم يكن ضعيفا كما يتبين من منطقه الاول في المجادلة مع اللعين ولا وجه للاشارة به الى ضعفه السابق فانه بعد ان دعا ربه بقوله (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي)[1] استجاب الله دعاءه وقال (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى).[2]
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ... الفاء للتفريع اي حيث كان مهينا فلا يمكن ان يكون رسولا فلولا اُلقي عليه الذهب لتقوية جانبه. والاصل في (لولا) الحثّ والتحضيض ويقصد بها هنا التعجيب من عدم إلقاء الذهب عليه ليتوصل بذلك الى إنكار رسالته عليه السلام. والاسورة جمع سوار وهو من حلي المرأة ما يزين به المعصم وهو معرب (دستواره) بالفارسية والمراد بالقاء الاسورة من ذهب ايتاؤه الاموال الطائلة بذلك او انه كناية كما قالوا عن ايتائه الملك لانهم كانوا يلقون الاسورة على من نصبوه ملكا. والملقي على هذا الفرض هو الناس وعلى الاول يمكن ان يراد به الله سبحانه او الملائكة ومهما كان فالمراد نفي ايتاء الاموال او الملك من قبل الله تعالى كدليل على رسالته عليه السلام.
أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ... يمكن أن يكون قوله (معه) متعلقا بـ (مقترنين) اي جاء الملائكة مقترنين معه ويمكن أن يتعلق بالمجيء ويكون قوله (مقترنين) حالا من الملائكة بمعنى أنهم مقترنون مع بعض فيشكلون جموعا كثيرة ليكونوا له اعضادا وتقوى بهم شوكته او يؤيدون مقالته كما قال غيره (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)[3] وقد تكرر حكاية هذا الكلام من الكفار حيث يطلبون ان يكون الرسول ملكا او يكون معه ملك. والغرض على كل تقدير انه لو كان رسولا لكان رجلا عظيما له اموال طائلة وملك عظيم واعوان واعضاد فلو اراد الله ان يبعث رسولا لبعثني وانا الملك العظيم ولا يعقل ان ينتخب من بين الناس للرسالة افقرهم وابعدهم عن الملك والرئاسة. وهذا هو بعينه ما نادى به كفار قريش حيث قالوا (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).[4]
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ... اي استخف عقولهم واحلامهم واعتبرهم حمقى وسفهاء تنطلي عليهم هذه الاكاذيب والسفاهات ومع ذلك اتبعوه وأطاعوه. وهكذا شأن الجموع الجاهلة أتباع كل ناعق فان استخفهم الكبراء والامراء وخدعوهم بالامور التافهة انخدعوا بها واتّبعوهم واطاعوهم ولذلك نجد الحكومات والطغاة في زماننا يحاولون نشر المفاسد والملاهي بحجة الترفيه وابقاء الابتسامة على شفاه المواطنين والهدف انتهاز سفاهتهم ليتسلطوا على رقابهم واموالهم.
ثم علل إطاعتهم بفسقهم وخروجهم عن طاعة الله سبحانه وذلك لان المؤمن المطيع لله لا يطيع غيره الا بامر منه فعبودية الله تعالى تستلزم التحرر عن كل العبوديات. لا اقول ان عبادة الله تعالى مطلوبة لذلك بل ان هذه ميزة تحصل للمؤمنين بالله تعالى. والايمان والتعبد لله تعالى والتقرب اليه مطلوب لذاته.
فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ... الاسف يطلق على الحزن وعلى الغضب فالمعنى انهم اغضبونا واستوجب عملهم غضب الله عليهم وذلك لتكرر طلبهم من موسى عليه السلام ان يطلب من ربه رفع العذاب ليؤمنوا به ويرسلوا بني اسرائيل ثم عودهم الى طغيانهم وكفرهم فاستحقوا النقمة والعذاب الالهي. والانتقام: المعاقبة.
واسناد الغضب والرضا الى الله تعالى كثير في القرآن والحديث وقد أوّله بعضهم بان المراد ارادة العقاب والثواب كما في الميزان وغيره. وهو بعيد لان الله تعالى اعتبر رضوانه اعظم من كل ما في الجنة من ثواب قال تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[5] فرضوانه تعالى غير الثواب كما أنّ سخطه ربما يتجلى في غير العقوبة قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[6] فعدم التكلم وعدم النظر اليهم غير العذاب وهذا ما يحكي عن سخطه تعالى عليهم.
ولعل الرضا تعبير عن نوع من العلاقة بين الله تعالى وعباده لا ندركها في هذه الحياة، والسخط سلب تلك العلاقة. ويدلنا على ذلك ايضا ما ورد في دعاء كميل من قول امير المؤمنين عليه السلام (فهبني صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك وهبني صبرت على حر نارك فكيف اصبر عن النظر الى كرامتك) وهذا بالطبع صورة خفيفة من السخط يعبر عنه بالفراق والنظر الى كرامة الله تعالى يخص بها اولياءه ويشقى من يحرم عنها.
وفي بعض الروايات ان محل الرضا والغضب نفوس مطهّرة انزل الله تعالى حبها وبغضها ورضاها وغضبها منزلة حبه وبغضه ورضاه وغضبه. وتأويل الآيات بذلك مستبعد جدا والله العالم.
فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ... بيان للانتقام. والمراد بهم فرعون وجنوده فاغرقهم الله جميعا لم ينج منهم احد كما انه نجا موسى ومن معه جميعا. والظاهر ان فرعون خرج بكل ملئه وكبراء قومه وان ذلك كان نهاية ملكهم وسلطانهم. بل صريح بعض الآيات أنّ الله تعالى أباد قصورهم وبيوتهم فلعله عذاب آخر نزل على مدينتهم بعد ذلك قال تعالى (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ).[7]
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ... السلف كل امر متقدم فالمعنى ان ذلك كان نهاية قوم فرعون باجمعهم لم يبق منهم احد ولم يبق لهم شيء الا ذكرهم على الالسن وفي القصص والتواريخ والظاهر أن المراد بهم الملأ منهم وجنود فرعون اذ لم يخرج اهل المدينة بقضهم وقضيضهم معه وقد ورد في الآيات ان الله تعالى اغرق فرعون وجنوده.
وقيل ان المراد بكونهم سلفا كونهم أئمة يدعون الى النار كما قال تعالى بشأنهم (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ)[8] ولا دلالة في كونهم سلفا على ذلك. واما كونهم مثلا فبمعنى كونهم عبرة للآخرين ومثلا يضرب به لقوم قاوموا الحق وصارعوه بعد الظهور والوضوح الى نهايتهم المؤسفة. والآخرين بكسر الخاء اي الذين يأتون بعدهم وليس بمعنى آخر من يأتي مماثلا لهم كما قيل بل كل من يأتي بعدهم من الناس.
[1] طه: 27
[2] طه: 36
[3] الفرقان: 7
[4] الزخرف: 31
[5] التوبة: 72
[6] آل عمران: 77
[7] الاعراف: 137
[8] القصص: 41