مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ... سياق الآيات يشهد بأن الاستشهاد بما حدث للانبياء السابقين في مواجهتهم للطغاة من قومهم انما هو لغرض تشبيه حالة المشركين في مكة بحال الامم السالفة والتنبيه على أن هذ مقتضى طبيعة البشر وأنّ عليهم أن ينتظروا مثل ما جرى على اولئك من العذاب والعواقب السيئة فان سنة الله لا تتبدل. ومن هنا تعرّض في هذه الآيات لمواجهة عيسى عليه السلام لبني اسرائيل وابتدأ بالتعليق على نوع من تعامل المشركين مع قصة عيسى عليه السلام مقدمة لذكر ما جرى بينه وبين قومه.

واختلف المفسرون في تفسير هذه المجموعة من الآيات ومن الواضح انها نازلة بشأن حادثة خاصة والمشهور في تفسيرها انها نزلت بشأن مجادلة أبداها عبدالله بن الزِّبَعْرَى وملخصها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لما تلا على أهل مكة قوله تعالى (إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)[1] اعترض عليه عبدالله بن الزبعرى بأن عيسى عليه السلام ايضا يجب ان يكون في النار فضجّت قريش فرحا لهذا النقض الواضح فنزل قوله تعالى (إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ)[2] ويقال في التفسير أن هذه الآيات تشير الى تلك القصة وأن (يصدّون) بمعنى يضجّون ضحكا وفرحا.

وهذه القصة مروية في كتب العامّة وليس لها سند معتبرحتى عندهم. وقد حكيت بوجوه اخرى منها ما في تفسير القمي حيث قال في تفسير قوله تعالى (إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ): (في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية وجد منها أهل مكة وجدا شديدا فدخل عليهم عبد الله بن الزبعرى وكفار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعرى: أمحمد تكلم بهذه الآية قالوا: نعم، قال ابن الزبعرى إن اعترف بها لأخصمنه، فجمع بينهما فقال: يا محمد أرأيت الآية التي قرأت آنفا أفينا وفي آلهتنا أم في الأمم الماضية وآلهتهم قال صلى الله عليه وآله وسلّم: بل فيكم وفي آلهتكم وفي الأمم الماضية إلا من استثنى الله، فقال ابن الزبعرى خاصمتك والله ألست تثني على عيسى خيرا وقد عرفت أن النصارى يعبدون عيسى وأمه وإن طائفة من الناس يعبدون الملائكة أفليس هؤلاء مع الآلهة في النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: لا، فضحكت قريش وضحك وقالت قريش خصمك ابن الزبعرى فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قلتم الباطل أما قلت إلا من استثنى الله؟!).

وهذه ايضا ليس لها سند ولكنها أسلم من رواية العامة لانها لا تخلط بين الآيتين ولا تنافي ما يقال من أن سورة الزخرف مقدمة ترتيبا على سورة الانبياء فلا يمكن أن تكون هذه الآية ناظرة الى تلك الآية مضافا الى استبعاد نزول آيتين في قضية واحدة كل منهما جزء لسورة مع اختلاف تاريخ النزول بالطبع. والحاصل أن القصة حتى لو ثبتت فلا ترتبط من حيث شأن النزول بهذه الآيات وانما ترتبط بآيات سورة الانبياء لو صح النقل.

وقيل إن هذه الآية ناظرة الى قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)[3] فالذي ضرب المثل هو الله تعالى ومعنى يصدّون اي يعرضون عنه.

وهذا الوجه باطل قطعا لأنّ سورة آل عمران مدنية وهذه السورة مكية ولأن الله تعالى ضرب لعيسى عليه السلام مثلا وهو آدم عليه السلام ولم يضرب عيسى مثلا. ولم يقل في الآية عنه يصدّون حتى يفسر بالاعراض بل منه يصدّون. ولو فرض لمشركي قريش ردّ فعل في هذا التمثيل فهو الاعتراض لا الاعراض عنه.

وقيل: معناه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لما مدح المسيح وأمه عليهما السلام وأنه كآدم في الخاصية قالوا إن محمدا يريد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى. حكاه في مجمع البيان عن قتادة.

وهو كلام غريب في حد ذاته وتطبيق الآية عليه أغرب.

وذكر في مجمع البيان وجها رابعا نسبه الى رواية سادة اهل البيت عن علي عليهم الصلاة والسلام حيث قال على ما في المجمع (جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يوما فوجدته في ملأ من قريش فنظر إلي ثم قال يا علي إنما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم أحبّه قوم فأفرطوا في حبه فهلكوا وأبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا واقتصد فيه قوم فنجوا فعظم ذلك عليهم فضحكوا وقالوا يشبهه بالأنبياء والرسل فنزلت الآية).

وورد هذا الحديث بطرق متعددة وبوجوه مختلفة ولكنها بأجمعها ضعيفة السند بل في كثير منها مناكير لا يقبلها العقل ولا يوافق القرآن الكريم وعلى فرض صحة الحديث ولو ببعض وجوهه فهو أشبه بأن يكون تطبيقا للآية وليس شأنا للنزول.

ويمكن ان يكون المراد بالآية الكريمة ان بعضهم ضرب به عليه السلام المثل في عبادة غير الله تعالى لتبرير موقف المشركين وانه ليس بدعا من الامر فهناك من أتباع الديانات السابقة والعريقة من يعبد بشرا وعليه يكون الصد ايضا بمعنى الضجة فرحا وابتهاجا ولعل هذا الوجه اقرب الوجوه مع قطع النظر عن القصة وخصوصا بالنظر الى الآية التالية.

وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ... معنى الآية بناءا على القصة المعروفة أنّهم احتجّوا بان عيسى عليه السلام بناءا على ما تقولون خير من آلهتنا فان كان هو حصب جهنم فلتكن آلهتنا ايضا كذلك. فالاستفهام تقريري والقصد منه اخذ الاقرار من الخصم أن عيسى عليه السلام خير من آلهتهم.

والآية تردّ عليهم بأنّهم ما احتجّوا وما ضربوا به مثلا الا للمجادلة والمراء وقوله تعالى (جدلا) مفعول لاجله اي ما ضربوا به المثل الا لاجل المجادلة، ومقارعة الحق بالباطل فهم يعلمون انهم على خطأ ويعلمون ان قوله تعالى (وما تعبدون) لا يشمل ذوي العقول وانه خطاب للمشركين ولا يشمل النصارى مضافا الى ان عيسى عليه السلام حسب تقرير القرآن الكريم أمرهم بعبادة الله وحده ونهاهم عن عبادة غيره ولا يمكن أن يؤخذ بذنب غيره خصوصا انهم لم يتّخذوه الها في حياته وإنما هو شيء أحدثوه بعد تغيّبه من بين ظهرانيهم فالاستشهاد به ليس الا مماراة للحق بعد وضوحه.

وقوله تعالى (بل هم قوم خصمون) إضراب عن كون هذا المراء أمرا طارئا حصل في  هذه المجادلة وبيان ان هذا ليس بدعا من امرهم بل هم بطبيعتهم اهل مراء وعصبية ولا ينصاعون للحق الواضح. والخصم ــ بالفتح ثم الكسر ــ صفة مشبهة تدل على الثبات والاستقرار فتعني أن المخاصمة والمراء من صفاتهم العريقة.

واما بناءا على ما ذكرنا من الاحتمال فالمعنى ــ والله العالم ــ أنّ آلهتنا خير منه واقرب الى ان يكونوا معبودين بعكس ما ورد في الوجه السابق. وذلك على اساس أنّ الاصنام عندهم تمثّل الملائكة فهم يعبدونها لانها تمثّلهم وهم مقرَّبون لدى الله تعالى.

والجواب أنّهم ما ضربوا به المثل الا جدلا والا فهم يعلمون ان اساس التوحيد نفي الالوهية عن غير الله مطلقا وانه لا مبرر لاحد ان يدعي الالوهية لعيسى عليه السلام او لغيره من الرسل او الملائكة فالاستشهاد بالوهية عيسى لا وجه له اساسا ولكنهم قوم خصمون والجدال والمراء جزء من طبيعتهم.

وبما ذكرنا يتبين ان الوجه الذي ذكرناه اقرب من الوجه المشهور لانه بناءا عليه يجب تأويل هذه الآية بان عيسى عليه السلام عندكم افضل من آلهتنا وهذا خلاف ظاهر اللفظ حيث ان ظاهر الاستفهام التقريري التاكيد على ان مضمونه مقبول لديهم وهو بناءا على ما ذكرنا ان معبودهم في الواقع هم الملائكة وهم أفضل من عيسى عليه السلام عندهم وعند بعض المسلمين ايضا.

إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ... هذه الآية بناءا على وجهي التفسير تكمل الرد عليهم وتبين حقيقة امر عيسى عليه السلام وانه لم يكن الا عبدا لله تعالى انعم عليه بما انعم به على سائر الانبياء المرسلين من نزول الوحي والامداد بالمعاجز والعصمة الالهية. والتأكيد على كلمة (عبد) لنفي الالوهية المزعومة.

وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ... المثل في الاصل مأخوذ من المثول اي القيام والانتصاب فيطلق على كل ما ينصب علامة لشيء او لطريق او يكون موضع اهتمام وتوجه لعامة الناس. وعليه فيمكن ان يكون المراد بكونه عليه السلام مثلا كونه موضع الاعجاب من جهة الآيات والمعاجز التي ظهرت على يديه من إبراء الاكمه والابرص وإحياء الموتى مضافا الى اصل كونه آية حيث خلقه الله تعالى من دون أب كما قال تعالى في شأن امه عليهما السلام (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ)[4] كل ذلك يجعله مثلا يضرب به ويسير به الركبان اعجابا واستعظاما.

ويمكن ان يكون المراد ان الله تعالى جعله مثلا وقدوة لبني اسرائيل فالمثل بمعنى من يقتدى به والغرض بيان انه لم يكن وجه لاعتباره الها الا أنّهم أخطأوا حين رأوه ممتازا من بين البشر بهذه الصفات العجيبة فبدلا من الاقتداء به كما امر به الله اعتبروه الها فعبدوه، وفي نفس الوقت تشير الآية الى ان السبب في افتتانهم هو هذه الصفات التي اختصه الله تعالى بها.

والحاصل بناءا على ما ذكرنا ان كفار قريش كانوا يضربون المثل بعيسى عليه السلام ليبرروا موقفهم فيقولوا ان آلهتنا تمثل الملائكة وهم افضل من عيسى حيث انه بشر ومع ذلك عبده النصارى واتّخذوه الها وهم اصحاب ديانة سماوية محترمة عندكم والجواب ان اعتباره الها شرك وكفر بل هو عبد انعم الله عليه. 

وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ... المعروف في تفسيرها أن (من) في قوله (منكم) للبدلية فالمعنى أنه تعالى لو شاء لأفناكم وجاء بالملائكة بدلا منكم يخلفونكم ويعيشون في الارض. وعلى هذا فيقع السؤال في الغرض من بيان ذلك فقيل انه للتهديد والتحذير نظير قوله تعالى (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا)[5] واستبعده بعضهم لعدم استلزام المقام تهديدا.

وقيل ان الغرض ابطال قول المشركين ببنوة الملائكة لله تعالى بمناسبة تعرض السياق لنفي بنوة عيسى عليه السلام ووجه الرد على قوله بهذه الآية أنه تعالى جعلهم سكنة السماوات وبامكانه ان يجعلهم سكنة الارض فمجرد كونهم في السماء لا يبرر القول ببنوتهم له تعالى. ويردّ هذا الاحتمال أن السياق لم يتعرض لبنوة عيسى عليه السلام بل لالوهيته مضافا الى أن مجرد امكان خلق الملائكة في الارض لا ينفي البنوة.

والصحيح ما ذكره العلامة الطباطبائي قدس سره وهو ــ بتقريب منا ــ ان هذه الآية متصلة بما قبلها والغرض بيان رفع الاستبعاد عن ان الله تعالى خلق بشرا من دون اب وان ذلك لا يبرر اتخاذه الها ولو شاء الله لجعل من البشر اي بعضهم ملائكة وهم حسبما تعتقدون افضل الخلائق ومع ذلك يجعلهم خلفاء في الارض كما انتم عليه وكما كان عيسى عليه السلام بمعنى أن بعضهم يخلف بعضا وهذا الوصف خاص بالبشر فالغرض بيان أنهم يبقون بشرا في الظاهر وهم يملكون خصائص الملائكة ايضا وهذا التركيب أعجب من خلق بشر بدون أب فالله تعالى قادر على كل شيء وكل هذا من آيات حكمته وقدرته وبناءا على هذا فقوله (منكم) اي من انفسكم او من جنسكم والمراد بقوله تعالى (يخلفون) اي يخلف بعضهم بعضا.

وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا... المعروف بين المفسرين ان الضمير في (انه) يعود الى عيسى عليه السلام وكونه علما للساعة بمعنى ان نزوله يوجب العلم بها لانه ينزل قبيل قيام الساعة فيكون من علاماته وقيل انه قرئ بفتحتين اي (لَعَلَم) وهو اوضح دلالة على هذا المعنى. ولكن تفريع النهي عن الامتراء على ذلك لا يخلو من تكلف وغرابة ولذلك عدل عنه العلامة الطباطبائي رحمه الله الى القول الآخر وهو انه عليه السلام بتكونه علم للساعة باعتبار انه خلق من غير اب فهو دليل على امكان ان يخلق الله البشر مرة اخرى بعد فناء اجسامهم. وهو ايضا بعيد والتكلف فيه اوضح.

وحكي عن الحسن وقتادة وابن جبير وابي مسلم ان الضمير يعود الى القرآن وكونه علما بمعنى انه يوجب العلم بما ورد فيه من ادلة وبراهين على امكانه. وارى ان هذا القول اقرب من غيره. واعترض عليه بانه لم يرد ذكر القرآن وانه مخالف للسياق.

والجواب انه لا يبعد أن تكون الجملة عطفا على قوله (وانه لذكر لك ولقومك..) وما بينهما جمل اعتراضية ويلاحظ أن القرآن هو محور الكلام في السورة من بدوها مضافا الى أنّ هذه الجملة بمنزلة الاستنتاج مما مرّ من التعليق على تعامل القوم مع القرآن الكريم وما ورد فيه من ذكر الانبياء والرسل وبيان قصص الاقوام السابقين والتحذير من الوقوع في نفس المحاذير فالنتيجة أن هذا القرآن يحذّركم بأسوأ مما حدث لهم في الدنيا وهو عذاب الآخرة فلا تمترنّ بها ولا تتبعوا تسويلات الشيطان. والتحذير من الساعة هو الهدف الاساس في القرآن دائما. ومهما كان فالامتراء اما بمعنى الشك اي لا تشكوا فيها اي في الساعة واما بمعنى المجادلة اي لا تجادلوا فيها.

وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ... فيه احتمالان اذ لا يصح التعبير بمتابعة الله تعالى فاما ان يكون المقدر اتبعوا آياتي وهداي او يكون حكاية لكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم او لما يجب ان يقوله لهم. و(هذا) اشارة الى اتّباعه صلى الله عليه وآله وسلّم او الى الطريق الذي يسلكه فالمعنى حينئذ اسلكوا طريقي فانه صراط مستقيم ولعل التنكير بلحاظ تعدد الطرق بتعدد الرسالات وان كانت اصول الشريعة واحدة فيدل على أن الامر بالاتباع بلحاظ السنن والاحكام الخاصة بهذه الشريعة.

وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ... الصدّ هو المنع اي لا يمنعكم الشيطان من الايمان بالساعة فانه اساس السعادة البشرية والذي لا يؤمن بيوم القيامة يجد الكون تافها وبلا هدف والحياة عنده لا معنى لها الا الاكل والشرب واللذة كالحيوان وهذا هو الذي يريده الشيطان للانسان لانه يريد ان يسلبه ما يسعد به في الحياة الابدية بل مطلقا وهو الايمان بالله واليوم الآخر وقد اكد الله تعالى في كتابه العزيز على العداء القديم الذي يكنّه الشيطان للبشر حيث ان الله تعالى امره بالسجود لآدم عليه السلام فابى واخرجه الله تعالى من الجنة فآلى على نفسه ان يغوي ذرية آدم الى يوم القيامة.

وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ... المراد بالبينات الأدلة الواضحة والمعجزات التي اثبتت نبوته فالقصد من هذا التقييد أنه لم يأت بدعوى فارغة فيكون الاختلاف الذي حدث بينهم نتيجة عدم وضوح الرسالة بل اختلفوا بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم كما قال تعالى (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ)[6] وكغيرها من الآيات. والمراد بالحكمة الشريعة التي أتى بها او الكتاب المشتمل على الاحكام وهو الانجيل. والحكمة ما يمنع الانسان من السفاهة والجهل. وشرائع السماء تشتمل على ابلغ الحكم.

وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ... طبيعة الحال تقتضي الاختلاف بعد الرسول بين أتباعه لا يشذّ من ذلك قوم فكان هناك بين بني اسرائيل اختلاف عقائدي فمنهم من ينكر الآخرة مثلا ومنهم من يثبتها واختلاف في الاحكام والشريعة واختلاف في المنهج فبعض يدعو الى التقشف والزهد وبعض يدعو الى التمتع بالحياة الدنيا واختلاف بين القبائل والطوائف وغير ذلك من انحاء الاختلاف واُنزل الى السيد المسيح عليه السلام من الكتاب ما يبين لهم الحق في بعض موارد الاختلاف ولعل المراد مجال العقيدة والشرع واما الاختلافات القبلية ونحوها فلا يمكن رفعها بالكتاب والشرع وربما لا يمكن رفع بعضها مطلقا. ولذلك قيد البيان ببعض موارد الاختلاف.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ... وصية من عامّة الانبياء يحدّد الايمان العملي فالايمان في مرحلة العمل له جانبان تقوى الله تعالى في جميع الحالات وإطاعة الرسول ولا يتمّ الايمان إن لم يطع الرسول في جميع ما أمر به ونهى عنه وليس مورد الاطاعة ما ينقله من احكام الله تعالى الواصلة اليه عن طريق الوحي فانه من التصديق لا الاطاعة وعدم تصديق الرسول ولو في بعض ما أتى به كفر وخروج عن ربقة الاسلام. بل مورد الاطاعة كل ما يأمر به من أوامر خاصة او عامة حسب المصالح المتغيرة وكل ما يطبقه من عناوين موضوعة لحكم الهي وكل حكم قضائي يحكم به بين العباد بل هناك مجال آخر خاص بالرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلّم من بين ولاة الشرع وهو تشريع السنن الواجبة. وتفصيله في مباحث الاصول.

ومن هنا يتبين اهمية احاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وسخافة القول بالاكتفاء بكتاب الله تعالى وأنّ هذا ينتهي الى إبعاد الناس عن دينهم الحق فالدين لا يستقيم الا بهذين العمودين تقوى الله وإطاعة الرسول وكذب من زعم انه يتقي الله ولا يطيع الرسول. وقد قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ..).[7]

إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ... يركز القرآن على نقل هذه العبارة منه عليه السلام هنا وفي سورتي آل عمران ومريم حيث يؤكد على ان الله تعالى ربه ورب الناس جميعا وليس لهم ربّ غيره ــ كما يظهر من ضمير الفصل ــ وانه ليس الا رسولا يوصي الناس بعبادة الله تعالى وان عبادته هي الصراط المستقيم الذي يؤدي الى السعادة وينهى عن عبادة غيره فانها تؤدي الى الشقاء في الدنيا والآخرة وهو بذلك يشير الى ان ما سيؤول اليه امر أتباعه من الغلو فيه واعتباره الها يعبد او اعتباره احد اقانيم الالوهية ونحو ذلك انما هو انحراف عن الصراط المستقيم الذي رسمه بامر من الله تعالى لأتباعه.

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ... يبدو من العبارة انهم تحزبوا قبل ان يختلفوا فلم يكن اساس التحزب الاختلاف في العقيدة وفي تفسير ما جاء به المسيح عليه السلام. ويدل عليه ايضا قوله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ...)[8] حيث يدل على انهم انما اختلفوا في الكتاب بغيا بينهم وهي آية عامة تشمل اتباع كل الرسالات.

ومثلها قوله تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[9] وقوله تعالى (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ..)[10] وقوله تعالى حول بني اسرائيل (وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).[11]

فهذه الآيات تدل على ان منشأ الاختلاف هو الامور المادية من المال والجاه والزعامة والخلافة. وانما ينبه القرآن بذلك هذه الامة ليكونوا حذرين مما سيصيبهم من الاختلاف وانه ايضا ينشأ من البغي والعدوان وطلب بعضهم ما ليس له وقد اشير في مواضع من القرآن وفي الاحاديث الشريفة ان ما اصاب السابقين سيصيب هذه الامة.

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ... طبيعة الحال تقتضي ان يكون من بين الذين اختلفوا من هو على الحق ولذلك لم يعمهم بالعذاب بل خص ذلك بالذين ظلموا وهم في ما اختلفوا فيه من العقائد من اشركوا بالله وجعلوه احد الاقانيم او اعتبروا عيسى عليه السلام الها او ابنا لله تعالى ونحو ذلك من العقائد الفاسدة وفي مورد البغي الذي هو اساس الاختلاف هم الذين طلبوا ما ليس لهم من الزعامة والولاية والامامة وغير ذلك من الشؤون التي يتقاتل عليها الناس.

 


[1] الانبياء: 98

[2] الانبياء: 100- 101

[3] آل عمران: 59

[4] الانبياء: 91

[5] النساء: 133

[6] آل عمران: 19

[7] النساء: 64

[8] البقرة: 213

[9] آل عمران: 19

[10] الشورى: 14

[11] الجاثية: 17